احتدمت، في الأسبوع الأخير من تموز يوليو، حرب كلامية على الجبهة الإيرانية - الإسرائيلية موضوعها التصنيع الذري الإيراني وأغراضه الحربية. فغداة التردد الإيراني بإزاء أعمال تفتيش الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وإثبات الوكالة في ربيع العام الجاري، "تلوث" معدات صناعية باليورانيوم المخصب، وإعلان باكستان "اكتشاف" اجهزتها ضلوع عبدالقدير خان في "تجارة" واسعة تنزل ايران من سوقها وزبائنها منزلة عالية - بدا ان التورط الإيراني في التصنيع الحربي واقعة قائمة. وموضوع المناقشة هو تقدير مدى التورط والمبلغ الذي بلغه. وكشفت تقارير الوكالة الدولية فيما كشفت كذب الدوائر الرسمية الإيرانية على مفتشي الوكالة، وإخفاءها عنهم اعمالاً محظورة ومواقع تصنيع طوال العقد ونصف العقد من توقيع الدولة الإيرانية معاهدة حظر الأسلحة النووية وصناعتها. وعادت الحكومة الإيرانية، في الأيام الأخيرة، عن تعهدها التقيد بختم اجهزة تخصيب المادة المشعة، فكسرت أختام اجهزة التخصيب، بحسب تقرير مفتشي الوكالة. وردت الدوائر الإيرانية، المنقسمة على المسألة، على تقارير المفتشين تارة بالتلويح بالانسحاب من المعاهدة، ومن الهيئة التنفيذية التي تتولى إعمال احكام المعاهدة، وتارة ثانية بتهمة الوكالة، ومفتشيها ومديرها العام محمد البرادعي، بالانصياع لأوامر اميركية وإسرائيلية، وتارة ثالثة بمطالبة المجتمع الدولي محاكمة اسرائيل على امتلاكها السلاح النووي وقسرها على التوقيع على المعاهدة والتقيد بأحكامها. وبين الرد والرد كان ينبري قائد سلاح من اسلحة القوات الإيرانية لتهديد اسرائيل ب"المحو عن الخارطة" إذا هي قصفت مواقع تصنيع ذري على شاكلة ما صنع سلاحها الجوي، في صيف 1981، حين دمر مفاعل "تموز" العراقي. وكانت الحرب العراقية - الإيرانية، "الحرب المفروضة" على قول طهران، بلغت شهرها الثامن من عمر مديد امتد زهاء تسعين شهراً، وكبد البلدين مئات آلاف القتلى، ومئات بلايين الدولارات، وألقى على الشرق الأوسط كله بظل قاتم من العداوات والثارات والغلو والاستبداد. وتوجه القيادات العسكرية الإيرانية بالرد والوعيد على اسرائيل قرينة على ثقل الصناعة الحربية الذرية في ميزان علاقات البلدين المقطوعة. وردت الدولة العبرية التحية بأحسن منها. فصنفت ايران، في اوائل الأسبوع الأخير من تموز، التهديد الأول لأمنها. وألحقت "حزب الله" الخميني، ولبنان مسرحه، بالتهديد الإيراني، وصنّفته أداة من ادواته القريبة والمباشرة. وذهب رئيس الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية، زئيفي فركش، الى تعيين التهديد و"تجسيمه" في عشرات الصواريخ القصيرة المدى، 105 الى 250 كلم، القادرة على بلوغ تل ابيب، وقبلها بعض مدن الساحل ولم يجد احد ألسنة "حزب الله" المأذونين "غرابة" في امتلاك منظمته مثل هذا السلاح. وهذا المدى، ليس في مستطاع "الكاتيوشا" اجتياز عُشره. وتجهيز هذه الصواريخ بمتفجرات كيماوية يرجح ان الحكم السوري يملك بعضها ويصنعه - وليست الدولة السورية من شركاء معاهدة حظر التسلح الكيماوي والجرثومي - يرفعها الى مرتبة التهديد الاستراتيجي. فهو لا يقتصر على إنزال أضرار في الدولة ورعاياها ومرافقها، بل يلحق ضرراً فادحاً في قدرتها على معالجة الخطر والرد عليه. ولا يبعد ان يكون تلويح قائد القوات البرية الإيرانية، ناصر محمدي، ورئيس دائرة العلاقات العامة للحرس الثوري، سيد مسعود جزائري، في يوم واحد 26 تموز برد ايراني "تختفي" اسرائيل معه "من خريطة العالم"، تنويهاً بهذه الصواريخ. وغداة تقرير لجنة الكونغرس الأميركي في هجمات 11 ايلول سبتمبر 2001، وإثباته مرور ثمانية من المهاجمين بطهران، وتقديم شيخين اميركيين جمهوريين مشروع "قانون تحرير ايران"، على غرار "قانون تحرير العراق" في ولاية الرئيس السابق كلينتون، يقضي برصد عشرة ملايين دولار لمساندة المعارضة الإيرانية، ومنح القوات الأميركية بالعراق منظمة "مجاهدين خلق" ضمان حماية لقاء تجريد ناشطيها الأربعة آلاف بمعسكر اشرف من اسلحتهم - غداة الإجراءات هذه وبعضها لا يرتب تبعه واضحة توقعت احدى الصحف الإيرانية "جمهوري إسلامي"، إجراء عسكرياً، اسرائيلياً - اميركياً، يخرب المنشآت الصناعية النووية الإيرانية ويدمرها. واستدلت الصحيفة "الرسمية" على وشك العمل العسكري بما جرى منذ مدة طويلة مجرى الإجراء الأميركي الرتيب، وهو رصد المكالمات البحرية، الإيرانية، في الخليج، ونصب اجهزة التشويش على الضفة العراقية من شط العرب، وربما على اجزاء اخرى من الساحل العربي قريبة من مضيق هرمز والجزر الثلاث التي تزعم ايران "إقليميتها" الإيرانية. ولا ريب في ان ترتيب وزير الدفاع العراقي، حازم شعلان، ايران "العدو الأول" للعراق الجديد، وهو اعلن غداة اندلاع الحلقة الأخيرة من الحرب الكلامية الإسرائيلية والإيرانية، ينبه الى عودة العراق، بعد خلع صدام حسين وسقوط "طبقته" الحاكمة وتفاؤل طهران الرسمي بعوائد السقوط الاستراتيجية، مصدراً للقلق الإيراني المتجدد. والحق ان عناصر المشادة الحادة تضع السلاح الإيراني على مفترق العوامل التي تتجاذبه، والدوائر التي تتحصل السياسة الإيرانية من محاولة التأثير فيها، والاضطلاع بدور في مجالاتها. والصناعة الحربية النووية، والسلاح الذري في نهاية مطافها المأمول، هي الترس الإيرانية في مجابهة ايرانية - اميركية، يحسب قادة النظام الخميني المرتدون الى نقيض سياسة متحجرة و"سورية" بعد "الاستراحة" الخاتمية، انها لا محالة آتية، على ما حسبوا على الدوام من قبل. وبعضهم عقد، شأن حلفائهم السوريين، الآمال الكبار على تخبط الولاياتالمتحدة الأميركية في "الوحول" العراقية، على قول لطيف في العراقيين مصدره بعض "الأخوة" العرب والمسلمين. وحققت السياسة الأميركية بالعراق طوال نيف وسنة الآمال العربية والإسلامية. ولكن النهج الذي انتهجته السياسة الأميركية منذ اشهر قليلة، وأشبَهَ انعطافاً في معالجة مسائل السيادة والتمثيل والأمن والإعمار، وضعفُ الجماعات المقاتلة السياسي والتنظيمي، وعجزَ الجماعات العراقية الأهلية عن الإجماع على نهج وطني جامع وتربص الحرب الأهلية بها، يسرت نقل السيادة الجزئي والمتدرج في 30 حزيران يونيو او 28. وقسرت بعض دول الجوار، وأولها ايران شرقاً وسورية غرباً، على لجم عنان احلامها ومشروعاتها "التحريرية". وربما ادى هذا الانعطاف الى نازعين مترابطين. الأول الى برودة المسرح العراقي بعض الشيء، وانحسار السعي في توريط القوة الأميركية فيه، والأمل فيه. فيخلص اصحاب سياسة التوريط، على رسم "استراتيجي" اعتادوه، الى استعادة القوة الأميركية القدرة على مهاجمتهم ومحاصرتهم، على رغم ملاحظة كلينتون ان خلفه "يكذب"، والبرهان "اننا لسنارائحون الى الحرب على ايران وكوريا الشمالية". والتسلح النووي، والتسلح الكيماوي والجرثومي، رادعان، على حسبان اصحاب سياسة التوريط الآفلة. والنازع الثاني الى تصدر المسرح الفلسطيني من جديد العلاقات السياسية الإقليمية. وهو الجبهة الإيرانية - السورية البديل عن الجبهة العراقية، والموازية لها. والمسرح الفلسطيني يكاد يقتصر، بعد انشاء جدار الفصل وانفجار الفوضى في المجتمع الفلسطيني وأجهزة السلطة "الوطنية"، في انتظار إحياء المسألة الفلسطينية السياسية والوطنية، على "الحدود" بين المنظمة العسكرية والأمنية الخمينية، اي "حزب الله"، وبين اسرائيل. وكرر اغتيال رابط التنسيق الحزب اللهي اي الإيراني في هذا المعرض الفلسطيني في تموز، اغتيالاً سبقه قبل سنة. وفضح الاغتيالان ضعف حماية "الدولة" اللبنانية، و"سيادتها" الضلوعَ الحزب اللهي في حرب المنظمات الفلسطينية، على رغم آلاف رؤوس "الكاتيوشا" وعشرات الصواريخ القصيرة المدى. وما يسعى الحلف الإيراني - السوري في حمايته، من طريق تسليح منظمة عسكرية وأمنية اهلية خارجة عن معايير سياسة الدولة وعلاقاتها الدولية، هو حصانة سياسة الحلف هذا في فلسطين من لبنان، وبإزاء الرد الأميركي والإسرائيلي على التسلح الذري الإيراني والتسلح الكيماوي السوري. وهما قرينتان ظاهرتان على نقيض السياسة الذي تنتهجه القيادتان في دولتين مقيدتين بهذا النقيض. وعلى هذا يحسب الحلف الإقليمي ان خزنه أداةً عسكرية أمنية طيعة على حدود الدولة العبرية، يحوطها اطار اهلي يشبه الشرعية، ولا قيد على مغامرتها وتعسفها من هيئات دولة سيدة ظاهراً ولا من جماعاتها وناخبيها ومصالحها، هو وقاية من عمل عسكري اميركي يتطاول الى ايران او الى سورية. ومثال هذه الوقاية هو التسلح النووي الكوري الشمالي. وهو سابقتها وسنتها. وطوال المدة التي عول الحلف السوري - الإيراني في اثنائهاعلى نجاعة "المقاومة" العراقية، وأمل في توسعها وحوطها بجبهة عربية وإسلامية لا يستحي بها عرابوها ولا يخجلون، انحسر التهديد على "الحدود" الحزب اللهية الإسرائيلية، او الحدود الإيرانية والسورية الإسرائيلية غير المعلنة وغير الدولية. فلما ضعف التعويل هذا، وهو ربما ضعف في انتظار جولة آتية على رغم ضعف حظوظها لا ترتب ضرراً على الجارتين الشرقية والغربية، واتفق ضعفه مع سياق من الحوادث يلقي الشبهة والتهمة على النهج السياسي الإيراني، انفجرت المشادة الذرية الكلامية. وهي كلامية الى اليوم. وتثبيت خسارة الحلف "الساحة" العراقية، من وجه، وانتهاج الفلسطينيين نهجاً سياسياً يرعاه تنسيق مصري اوروبي وأميركي، من وجه آخر، يحيلان الصناعة النووية والكيماوي، و"الصناعة" السياسية والأمنية الى خردة صدئة. ويومها قد "تجلس كل الدول الأطراف في المنطقة معاً، وتقوم كل دولة بتحديد مفهوم لأمنها ... ويتفقوا على نظام امن يقوم على منع كل اسلحة الدمار الشامل في المنطقة، بما فيها السلاح النووي، وتنضم اسرائيل الى هذا النظام، وتحرم الأسلحة الكيماوية والبيولوجية"، على ما "يتصور" محمد البرادعي "الأهرام"، في 27 تموز. * كاتب لبناني.