يأخذ الرئيس الأميركي في خطبة "حال الاتحاد" على الدول الثلاث، كوريا الشمالية وإيران والعراق التي جمعها في محور واحد، سعيها في التسلح بالصواريخ وبأسلحة الدمار الشامل. وهي في هذا الباب واحدة ولا فرق بينها، بينما تختلف حال الواحدة عن الأخرى في باب الإرهاب. فنظام كوريا الشمالية "يميت شعبه جوعاً"، من غير رابطة بينه وبين الإرهاب، على صورته الظاهرة والمعلنة منذ النصف الأول من العقد الماضي. وإيران "تصدر الإرهاب"، إلى خصال اخرى. والعراق "يواصل مساندة الإرهاب". فالسكوت عن الرابط، والتهمة بالتصدير، والتنديد بالمساندة، أحوال ثلاث ومختلفة. وقد تستدعي ثلاث سياسات مناسبة. ولا يغمط الفرقُ هذا وهو لا يضعف وحدةَ الحال التسليحية. وحين يجمع الرئيس الأميركي الأنظمة الثلاثة انما يجمعها في سياسة "السعي الى الحصول على اسلحة الدمار الشامل". وهو يقرن هذا السعي ب"تهديد سلام العالم". وقد يجمع الدول الثلاث هذه، من وجه يتصل اتصالاً قوياً بسياسة تسلحها بالصواريخ وبمواد الدمار الشامل وغير التقليدية، انتهاجها نهجاً يدعوها الى الخروج من دونيتها العسكرية والاقتصادية بتهديدها عدوها المحتمل بأزمة عامة لا تقتصر على الإطار الإقليمي وحده. فقياداتها، على اختلافها، تحسب ان حمايتها من تأديب الولاياتالمتحدة الأميركية اياها، وضرب آلتها العسكرية غير التقليدية، إنما تكون بالتلويح برد لا يقتصر على المصالح الأميركية الإقليمية في شبه الجزيرة الكورية او في الشرق الأوسط، بل يتعدى الدائرة الإقليمية الى دائرة اوسع. وعلى هذا التوسيع ينبغي حمل الرد الكوري على الخطاب الرئاسي الأميركي بأن الولاياتالمتحدة الأميركية لا تحتكر توجيه الضربات. والرد تذكير صريح بالصاروخ القاري الذي "أفلت" من قاعدة إطلاق كورية، في 1998، وجاب بعض الفضاء الياباني قبل ان ينفجر هناك. فالقيادة الكورية الشمالية تلوح بالصواريخ البعيدة المدى اداة حاسمة في توسيع الدفاع عن نظامها الى شرق آسيا كله. وهي تدخل، في هذا السبيل، اليابان المنزوع السلاح النووي طوعاً في دائرة ردها المحتمل على انفجار منازعة عسكرية هي طرف فيها. وحسبانها ان منازعة في الدائرة الكورية وحدها، على رغم الخسائر التي في مستطاعها ان تنزلها بكوريا الجنوبية وسكانها وصناعتها، ليست داعياً قوياً كافياً الى لجم ضربة عسكرية اميركية. وعلى حين يهدد كيم ايل جونغ بسلاحه الصاروخي يلجأ بعض القيادة الإيرانية، بلسان هاشمي رفسنجاني، الى التهديد بتوسيع الرد الإيراني الى النفط ورفع سعره الى خمسين دولاراً. والحق ان الكارثة الاقتصادية التي "يتنبأ" بها رئيس مجلس تشخيص مصلحة النظام الخميني لا تترتب على حبس تدفق النفط الى اسواقه الآسيوية والغربية اولاً. فالحظر على النفط العراقي، واطراح الحصة العراقية من تغذية السوق، ابتدآ هبوط اسعار غير مسبوق أوصل سعر البرميل الى أدنى من عشرة دولارات "تاريخية". وعلى هذا فالسيد رفسنجاني لا يتهدد عدوه الأميركي، ومن ورائه مستهلكي النفط، بإجراء اقتصادي وسياسي على قدر ما يتهددهم جميعاً بإجراء عسكري هو استعمال الصواريخ، المدانة والمستنكرة، في ضرب مصادر النفط في انحاء جزيرة العرب وعلى ضفاف الخليج المشترك. فالصواريخ، برؤوس جرثومية او نووية او تقليدية، تمكن صاحبها او دولتها من اتخاذ حلفاء دولة العدو القوية رهائن ضعيفة. فاليابان، القوة الاقتصادية والمالية العظيمة، تنحط الى قوة ثانوية وتابعة حال دخولها في حقل العلاقات الاستراتيجية الإقليمية الذي تتنازعه الصينوالولاياتالمتحدة الأميركية. وفي مستطاع دولة هزيلة وجائعة مثل كوريا الشمالية ان تغلِّب ميزان العلاقات الاستراتيجية هذا على الميزان الإنتاجي والمالي، وأن تلهب حمى الاستقطاب والعداء من طريق التهديد باستعمال السلاح المدمر الذي تقتصر مواردها على إنتاجه، وترسي سياستها، الداخلية والخارجية، على احتمال استعماله. وتعوِّل ايران، شأن كوريا الشمالية والعراق، على استدراج الاستقطاب والعداء في سبيل حماية نظامها الحاكم وسياساته العدوانية التي تقي النظام هذا "استرخاء" الداخل ومنازعاته الاجتماعية والثقافية وتالياً السياسية. فالتخويف بالنفوذ الأميركي على حدود ايرانالشرقية والشمالية يبعث اطياف الحصار، وتطويق الثورة، وتركيع الدولة على ما يقول رفسنجاني في اميركا وإرادة ايران تركيعها، وحملها على ترك خصوصيتها الإسلامية، على ما يردد السيد علي خامنئي منذ ثلاث عشرة سنة. ويتيح سلاح الصواريخ، وأنواع "شهاب" التي تحاول القوات الإيرانية تصويبها وتوجيهها، توريط حلفاء الولاياتالمتحدة الأميركية الإقليميين المسلمين في حرب وجبهات وأحلاف تعود عليهم بالحرج الشديد، وبالخسارة السياسية والمادية الفادحة. وليست محاولة زج صدام حسين الدولة العبرية في منازعاته العربية والإقليمية، ابان عدوانه السافر على الكويت، بواسطة صواريخ "سكود" الكورية، إلا التمثيل الأوضح على التوسل بهذا السلاح الى إملاء الأحلاف على الخصوم. فالرد الإسرائيلي على الصواريخ العراقية كان قميناً بوضع حلفاء الكويت العرب في صف إسرائيل، وبوضع الفلسطينيين في صف صدام حسين وقواته المعتدية. ولا شك في ان القيادة الإيرانية والقيادة السورية تحتسبان مثل هذا الرسم الاستراتيجي من نشر "حزب الله" على الحدود الإسرائيلية واللبنانية. وتلوح القيادة العسكرية الإيرانية بالرد على تهويل شمعون بيريز وشاول موفاز بآلاف الكاتيوشا العشرة المنصوبة شمال اسرائيل - وهو تهويل تشتم منه القيادة الإيرانية عزماً إسرائيلياً مبيتاً على ضرب المصدر الإيراني - وتزعم انها قادرة على ردع إسرائيل بصواريخها البعيدة المدى، بينما يبدو الأقرب الى الوقائع تحريك الصواريخ الإيرانية على الأراضي اللبنانية، بواسطة المنظمة الخمينية المحلية. وفي كلتا الحالين السياسة واحدة، والغاية هي إعمال الرسم الاستراتيجي الذي تقدم وصفه للتو. ولعل فزع الأنظمة الثلاث أو لجوءها الى هذا النوع من التسلح هو مرآة قصورها المادي والاجتماعي و"الثقافي" عن مكافأة اطماع قياداتها السياسية. فكوريا الشمالية، اي نظامها السياسي، هي وليدة الحرب الأهلية العالمية التي ولدها الاستيلاء الشيوعي الروسي على شرق اوروبا والهزيمة اليابانية في آسيا. ولا يزال يزعم هذا النظام المدقع معنوياً ومادياً لنفسه الحق في توحيد الكوريتين، وقيادة هذا التوحيد. وهو يحمي "حقه" التاريخي هذا، والعامل الأول في تأخره ودماره الذاتي، بتسلح مدمر في دائرة ولدت مجتمعات رأسمالية منافسة يسير بعضها حثيثاً على طريق الديموقراطية وأوكلت دفاعها العسكري الى الولاياتالمتحدة. فبين موارد كوريا الشمالية وبين مزاعمها فرق شاسع يملأه القمع الداخلي والتجويع واعتزال العالم والابتزاز، بمساندة الصين الشيوعية وسياسة القوة العظمى التي تنتهجها قيادة الحزب الشيوعي الصيني وينتهجها جناحها العسكري والصناعي في بحر الصين الجنوبي. وتملأ السلطتان الإيرانية والعراقية البون الشاسع بين مزاعمها الدينية والقومية، القيادية، وبين مواردهما الفعلية بالقمع والعزلة والابتزاز كذلك. وتزيدان على الوسائل الكورية استتباع منظمات سياسية وعسكرية وأمنية تسميهما احزاباً، وتموهان بها سياسة القوة المحض وهزال الأركان الداخلية التي ينهض عليها تسلطهما. وتشترك الأنظمة الثلاثة في حمل السياسة، بوجهيها الداخلي والخارجي، على التسلط والعنف وعلى الاستتباع الخالص. فلا يأمن جيرانها عنجهية القوة التي تعتقدها في نفسها على نحو ما لا تأمن شعوبها عنجهية اعتقادها دوراً عالمياً تؤديه، أو "رسالة" تاريخية تضطلع بها. وتشترك الأنظمة الثلاثة اخيراً في جرها ميراثاً حربياً مدمراً وثقيلاً، كانت دواعيها الاعتقادية الثابتة السبب الأول فيه. ويعد هذا الميراث في البلدان الثلاثة مئات الألوف من الضحايا ودماراً مادياً لا يحصى. والقيادات الثلاث لم تجرِ حساباً لميراثها الحربي والدامي هذا، لا تأريخاً ولا نقداً. ولا يشذ محمد خاتمي عن هذه الحال. فالوجه الباسم ليس إلا قناعاً تتقنع به "السلطة القضائية" ومن أئمتها خلخالي، آية الله وقيادات الحرس الثوري "والباسيج" ووزارات الأمن الداخلي والاستخبارات. وهو لا ينكر التحدر من الثورة التي لم تمتنع من مكيدة ولا حيلة ولا استدراج، مهما غلا الثمن، وسيلة الى التسلط على ايران، وعلى المسلمين الشيعة في غير ايران. فإذا رفع الأوروبيون والأطلسيون التحفظ أو الإنكار بوجه هذا الشطر من السياسة الأميركية، واضطر كولن باول الى ما يشبه "التصحيح" والتقييد، لم ينجم عن ذلك تبدد المشكلات التي تثيرها انظمة من الضرب الكوري أو العراقي او الإيراني. وحمل الصياغة الأميركية على الهيمنة او الغطرسة يتعامى عن المنطق المتماسك الذي يربط مثل هذه الأنظمة ربطاً محكماً بالعنف والتهور والاضطراب. فإذا لم يدل الأوروبيون، ومعهم الروس والصينيون، في هذه البئر بغير دلو المحاباة الفيدرينية نسبة الى وزير الخارجية الفرنسي السيد فيدرين ألفوا انفسهم نافلة سياسية وعسكرية، اقترعوا على إعمال البند الخامس من معاهدة شمال الأطلسي ام لم يقترعوا. فلما لم ينزع هذا السلاح من ايدي هذا الضرب من الأنظمة، وإسهام روسياوالصين في نزعه اختبار حقيقي لدورهما الدولي الجديد، مضت الأنظمة هذه على تهديدها ونشرها الاضطراب وديكتاتوريتها وجمودها. * كاتب لبناني.