الأميركيون لا يهتمون بالسياسة الخارجية، بل انهم لا يعرفونها، فقد كانت دائماً من اختصاص حلقة ضيقة من الخبراء. وإذا رجعنا الى تاريخ العقدين الأخيرين فقط نجد ان السياسة الخارجية كانت شعارات من نوع "امبراطورية الشر" لرونالد ريغان، و"نظام عالمي جديد" لجورج بوش الأب، و"التعددية الحازمة" لبيل كلينتون، بمعنى الحد من التسلح واتفاقات تجارة. ارهاب 11/9/2001 قلب هذه المعادلة، وأصبحت السياسة الخارجية جزءاً اساسياً من المعادلة الانتخابية خصوصاً بعد اخطاء جورج بوش في حرب العراق، فهو لو بقي في أفغانستان، ولو نجح في اعادة تعميرها لتكون نموذجاً لغيرها، ولو استمر في محاربة القاعدة وإرهابها بدل البحث عن انتصار "سينمائي" على شرير معروف، لربما ما كان جون كيري وجد ذخيرة للاستعمال ضده في حملة الانتخابات. سأتحدث اليوم في شكل عام قبل الانتقال الى حديث فلسطينوالعراق والنفط، وكل ما يهمنا. ربما كان أفضل شرح لسياسة جون كيري الخارجية هو ما عرض على مجلس العلاقات الخارجية في نيويورك في كانون الأول ديسمبر الماضي. كيري اتهم ادارة جورج بوش "بانتهاج سياسة خارجية هي الأكثر غطرسة وتقصيراً وتهوراً في التاريخ الحديث" للولايات المتحدة. وأضاف: "في اعقاب الهجمات الارهابية في 11 أيلول سبتمبر اجمع العالم على مكافحة الارهاب. الا ان الرئيس بوش بدد هذه اللحظة التاريخية، فهو أسرع الى القتال، وقاتل وحيداً تقريباً. كنت اعتقد قبل سنة ولا أزال اعتقد الآن انه كان علينا ان نحاسب صدام حسين، وأن تكون لنا القيادة في هذا الجهد. الا ان الادارة عملت بأسوأ شكل ممكن، من دون الأممالمتحدة، ومن دون حلفائنا، ومن دون خطة لكسب السلام. وهكذا نسأل أنفسنا كيف نحرر بلداً ونسقط ديكتاتوراً شرساً امتلك في وقت ما أسلحة دمار شامل،، ثم يتحول النجاح الى فشل ديبلوماسي؟ كيف يمكن صنع ما صنعت ادارة بوش: الفوز بنصر عسكري كبير، ومع ذلك إضعاف أميركا؟". جون كيري لا يزال يطالب بإشراك الحلفاء والأممالمتحدة والأسرة الدولية كلها في موضوع العراق، وهو يتحدث عن الاستراتيجية في شكل عام الا انه لا يلزم نفسه بسياسة محددة، من نوع زيادة القوات الأميركية، او سحبها، أو كيفية مواجهة التمرد. ويبدو انه قرر ان يترك بوش ليواجه اخطاءه في العراق وحده، فهي تؤذي الرئيس أكثر من أي كلام يقوله كيري عنه. وفي هذا المجال يقول ريتشارد هولبروك الذي كان سفير الولاياتالمتحدة لدى الأممالمتحدة، وهو الآن في مقدم المرشحين لمنصب وزير الخارجية مع كيري، ان المرشح الديموقراطي لا يحتاج الى تقديم خطة حول العراق، فالكل يعرف انه اذا انتخب رئيساً فسيدير الأمور في شكل مختلف. هولبروك يؤيد اسرائيل، على رغم انه يحاول ان يبدو معتدلاً، وأفضل منه بين مستشاري كيري مستشار الأمن القومي لبيل كلينتون ساندي بيرغر، فهو سعى دائماً الى سلام بين اسرائيل والفلسطينيين، ومستشار كيري لشؤون الأمن القومي هو راند بيرز الذي خدم في المارينز وعمل في كل ادارة أميركية منذ أيام ريتشارد نيكسون. وقد اختاره جورج بوش لمنصب من نوع ما شغل ريتشارد كلارك في مكافحة الارهاب. واكتسب هذا الأخير شهرة عندما خرج على بوش وألّف الكتاب "ضد كل الأعداء". ويبدو ان بيرز يفكر مثله، فهو أيضاً يرى ان ادارة بوش اهملت الارهاب ومصادره بالتركيز على العراق وعلى خطر غير موجود. وعندما اتهم بوش كيري بتغيير موقفه من الحرب على العراق ثم العودة الى تأييد الحرب تصدى له بيرز قائلاً: "سيدي الرئيس، مع ما تعرف الآن، هل لا تزال تعتقد انك لم تخطئ بقيادة البلاد الى الحرب؟ هل حقيقة انك لم تندم على ارسال جنودنا الى القتال من دون دروع لحماية أرواحهم؟". باستثناء تعددية السياسة الخارجية لجون كيري مقابل احادية سياسة جورج بوش، فلا فارق كبيراً بين المرشحين، وهو ما اعترف به راند بيرز علناً أمام الصحافيين. وكيري قال غير مرة انه اذا تعرضت مصالح الولاياتالمتحدة الى خطر فهو مستعد للتصرف وحيداً إذا لم يقتنع الحلفاء بحجته. شخصياً، أجد كيري أفضل من بوش لأنه أذكى منه ويعرف أكثر بحكم خبرته في لجنة الشؤون الخارجية في مجلس الشيوخ، غير ان الرجلين دون منصب رئيس أميركا، أي رئيس العالم. وكان بوش هاجم كيري في خطاب له في المركز الرياضي لكلية وستمنستر، في بلدة فولتون بولاية ميسوري. وردّ عليه كيري واستمعت الى الرجلين ووجدت انهما لا يليقان بشهرة المكان، فالمركز الرياضي ارتبط تاريخاً بخطاب ونستون تشرتشل الذي اطلق فيه عبارة "الستار الحديدي" عن الاتحاد السوفياتي. اليوم أختتم بسطور سريعة عن تاريخ أسرة جون كيري. جدّا جون جيري هما فريتز كوهن من تشيكيا، وآيدا لوي من هنغاريا، وكانا يهوديين اعتنقا الكثلكة بعد ان تزوجا وغيّرا اسم الأسرة الى كيري، ثم هاجرا الى الولاياتالمتحدة سنة 1905 حيث اختار فريتز لنفسه اسم فردريك أو فريد. فريتز، أو فردريك أو فريد انتحر باطلاق الرصاص على نفسه في فندق في بوسطن عندما كان ريتشارد كيري المولود في أميركا، ووالد جون، في السادسة من عمره. وأخذت الأرملة ابناءها الثلاثة الى فرنسا وربتهم في فرنسا وألمانيا. غير ان ريتشارد عاد الى الولاياتالمتحدة، ودرس في جامعتي يال وهارفارد، وهما من أرقى جامعات اميركا والعالم. وهو تزوج روزماري فوربس بعد ان قابلها في بريتاني، في شمال فرنسا، حيث لأسرتها بيت صيفي. والزوجة متحدرة من سلالة أرستقراطية أميركية تعود الى جون وينثروب، أول حاكم لولاية مساتشوستس، والقس جون فوربس. وهكذا يكون جون كيري ولد لأبوين كاثوليكيين والكثلكة مذهبه أيضاً. وقد بقي جزء من الأسرة في فرنسا، لذلك يهاجم أنصار بوش الجانب الفرنسي في كيري على أساس ان فرنسا غير شعبية في الولاياتالمتحدة هذه الأيام. والسناتور غوردون سميث، وهو جمهوري من أوريغون، قال انه ليس ذنب كيري انه يبدو فرنسياً، وإنما انه يريد انتهاج سياسات فرنسية. وأكمل غداً.