يستنتج قارئ الصحافة الفرنسية في هذا الصيف الممطر أن لا جديد تحت الشمس. فلا أحداث النجف ولا اعتصام السجناء الفلسطينيين ولا هوغو شافيز، ولا حتى الاضرابات العمالية التي تجتاح المانيا، الدولة الشقيقة، تحتل واجهات الصحف. الصحف غدت تتكلم عن... التاريخ. تاريخ فرنسا بالطبع. ففي الذكرى الستين لتحرير باريس من النازية، عنونت صحيفة "لوموند" جملة يعرفها الكل، حتى الصغار، قالها الجنرال ديغول يوم تحرير باريس، وكأنها سبق صحافي أو Scoop اكتشفته الصحيفة الفرنسية، بعد أشهر من البحث والتدقيق. أما "ليبراسيون" فعنونت صفحتها الأولى: "اليوم الأكثر حرية" تيمناً بالفيلم الشهير "اليوم الأطول". أليس هناك حدث آخر يشغل بال الفرنسيين؟ بالطبع نعم... هناك فرار اللاجئ السياسي الايطالي سيزاري باتيستي من ملجأه الفرنسي، بعدما تبيّن أن العدالة الفرنسية تنوي تسليمه للدولة الايطالية. من هو باتيستي؟ باتيستي القادم من اليسار الايطالي المتطرف في السبعينات، زمن الألوية الحمراء و"سنوات الرصاص"، كما سُميت هذه الحقبة، متهم بأربع جرائم قتل بين سنتي 1978 و1979، وذلك باسم تجمع يساري كان عضواً فيه يدعى "البروليتاريا المسلحة من أجل الشيوعية"! سنة 1981 استطاع الفرار من سجنه الايطالي، وبعد سنوات من الهرب في دول أميركا الجنوبية، حطت أقدامه في باريس، حيث قدم له الرئيس الفرنسي الراحل فرانسوا ميتران حق اللجوء السياسي واعداً اياه بعدم تسليمه إلى السلطات الايطالية التي كانت أصدرت حكماً مؤبداً عليه. الوعد الميتراني كان مُبهماً، كشخصية الرئيس الفرنسي، إذ أنه استثنى من حق اللجوء من هم متهمون بجرائم قتل. لكن اليوم، بل منذ فصل الربيع، عندما فتحت العدالة الفرنسية ملف باتيستي بطلب من زميلتها الايطالية، ووضعته تحت الاقامة الجبرية، وعالم المتقفين، من اليسار حتى بعض الليبراليين، مهتاج دفاعاً عن الايطالي المتهم بالإرهاب. من الحزب الاشتراكي إلى الشيوعيين والخضر الذين أعربوا هذا الأسبوع عن تضامنهم مع فرار باتيستي، إلى "المعادي للتوتاليتارية" برنار كوشنير والفيلسوف الليبرالي برنار هنري ليفي الذي قدّم بعض الحجج الأكثر ذكاء من المدافعين اليساريين حول الافراج عن باتيستي، تقف فرنسا بسلطتها الثقافية في موقع المساند للمتهم الايطالي. هل هذا من قبيل العداء لشيراك والتزاماً بكلمة فرنسا أي هنا كلمة ميتران في اعطاء حق اللجوء، على ما يهوّل اليسار الفرنسي مذكراً تارة بالمقاومة الفرنسية، ومشبهاً ايطاليا السبعينات، تارة أخرى، بجحيم تشيلي بينوشيه، لا بل ملفقاً الأحداث، على ما كتبت صحيفة الحزب الشيوعي الفرنسي "لومانيتيه" عندما تكلمت عن أن من أصدر الحكم ضد باتيستي كان محكمة... عسكرية ايطالية!؟ ام يتم هذا باسم وضع حد للماضي الأليم وتثبيت العفو عن مرحلة مضت أمام خطر الإرهاب الحالي، مع التذكير ببعض "اهمالات" وغرائب بعض القوانين الايطالية التي تعود إلى الزمن الفاشي والتي ما زالت سارية، كما كتب هنري ليفي؟ يقابل ذلك رفض شبه اجمالي من اليسار الايطالي ويمينه بالطبع. صحيفة "لا ريبوبليكا" اليسارية الايطالية انتقدت بشدة دفاع الاعلام الفرنسي، خصوصاً "لوموند"، عن باتيستي، كما انتقدت اليسار الفرنسي الذي يمزج بين اعطاء اللجوء السياسي للفارين من النظام الفاشي او النازي، وبين متهم بقتل حارس سجن او لحّام او تاجر في بلد ديموقراطي... الصحيفة الايطالية تجد في الموقف الفرنسي، "شيخوخة ثقافية لليسار الفرنسي وشيخوخة فكرية". اما مجلة "انترناسيونالي" اليسارية فوجدت ان اليسار الفرنسي يغالي ويزايد، كما تهكمت على احد ممثليه الذي قارن بين "سنوات الرصاص" الايطالية و... كوميونة باريس. بيد ان افضل ما كتب من تحليل لليسار الفرنسي، كتبه ايطاليان ونشرته صحيفة "لوموند". فالكاتب الايطالي كلوديو ماغريس أعلم القرّاء الفرنسيين انه حتى أنتونيو نيغري، اليساري الايطالي المتطرف السابق، اعلن تضامنه مع بيرلوسكوني في قضية باتيستي: "فإيطاليا لم تكن يوماً جنة لكنها كانت في السبعينات دولة قانون، لا دولة توتاليتارية او ارهابية"، أما الارهاب الايطالي ف"لم يكن اعمى في السبعينات ولم يقتل مسؤولين فاشيين، بل حاول قتل اكثر الشخصيات انفتاحاً، واعتدالاً، لأنه كان يريد تهديم اسس الدولة. فهذا التطرف الاحمق هو الذي أوصلنا اليوم الى وضع ايطاليا الحالي". اما الصحافية بربارا سبينيللي فركزت في موضوعها على "السحن الفكري" لليسار الفرنسي الذي يرفض ان "يعرف" إدراك الحقيقة. فالأمر إنما هو "جهل نضالي" ما زال ماثلاً من بقايا ثورة 1968 لكن حتى من دون حس فكاهي. إنه أيضاً "يسار محنط" لم ينتج ارهاباً في السبعينات فقرر باسم رومنطقية ثورية زائفة، نجدة ممثلي هذه الرومنطيقية في دول اخرى... رومنطيقيون قاموا باسم تحسين العالم، بسفك دماء كثيرة.