إمرأتان مرهفتا الإحساس إعتلتا خشبة المسرح في العالم، رافعتين فنّهما الى مستوى من الرقيّ لم يعرف من قبل إلا نادراً... ربما لأنهما انطلقتا من الحضيض وشقتا طريقيهما وحدهما بفعل إرادتهما وموهبتهما الأكيدة. ساره برنار الفرنسية التي أطلق عليها جمهورها لقب "سارة المثالية" لم تفارق المسرح طوال 50 عاماً شاهدة على انتقال العالم من قرن الى آخر. وجوزفين بايكر، "اللؤلؤة السوداء" التي نزعت عن العري صفته الاجتماعية المعيبة لتحوّله فناً حقيقياً لا مكان فيه للعار المخزي. من الميتم الى المسرح سارة برنار أو روزين نيرنارد، تميزت بحياة غير عادية إطلاقاً. هي إبنة غير شرعية لممثلة فرنسية مغمورة وطالب هولندي في كلية الحقوق الباريسية. وضعتها والدتها منذ ولادتها العام 1844 في ميتم حيث نشأت مع الراهبات. والدتها تتابع حياة صاخبة أوصلتها الى دوق مورنيه، الأخ غير الشقيق لنابوليون الثالث والرجل الثاني الأكثر تأثيراً في فرنسا، وهي تنكب على الصلاة والتأمّل لتكون راهبة في ما بعد. بكت كثيراً عندما أخرجتها والدتها من الدير في الثالثة عشرة من عمرها وأدخلتها تلميذة الى المعهد الموسيقي في باريس. هناك، دُهش أساتذتها بموهبتها الخام وقدراتها التمثيلية الهائلة التي أطلقت شهرتها كالسهم. درست التمثيل والنحت والرسم وبرزت أيضاً قدراتها الفنية الهائلة. ولأن التاريخ يعيد نفسه، حملت أيضاً في سنّ العشرين وأنجبت صبياً غير شرعي سمّته موريس وحرصت على الاحتفاظ به الى جانبها وعلى تدليله في شكل لا يوصف. وبقيت رحلة سارة الفنية تعاني عدم الاستقرار حتى العام 1869 حيث استأثرت بالأضواء المسرحية بفعل تجسيدها المذهل للأدوار الصعبة. فحيّا الجميع صوتها "الذهبي" وقوتها العاطفية على إبراز عمق الشخصيات المركبة. وفي موازاة نشاطها المسرحي الذي قادها الى كل أنحاء القارة الأوروبية، نظمت سارة ايضاً معارض عدة لأعمالها في باريسونيويورك وشيكاغو، فيما برز حسّها الوطني في شكل لافت العام 1870 بعيد اندلاع الحرب البروسية - الفرنسية حيث باتت عميلة سرية في باريس. كما أنها لم تتردد في ابراز كرهها للألمان الذين سلبوا وطنها مقاطعتي الألزاس واللورين. وسُئلت مرة: "ما هو ثمن اعتلائك خشبة المسرح في المانيا؟". وأجابت فوراً: "الألزاس واللورين". ولما زارت برلين - مكرهة - في ما بعد أقام الكايزر ولهيلم الثاني مأدبة على شرفها، ورفع كأسه ليشرب نخب الفنانين الفرنسيين، فرفعت كأسها وأجابته: "لنشرب نخب كل فرنسا"... وصمت الجميع من دون أن يتجرأ أحد على الكلام. ومع اتساع شهرتها، قررت سارة الانطلاق وحيدة في مهنتها. ففسخت اتفاقها مع "الكوميدي فرانسيز" وانطلقت نحو العالم: من نيويورك وشيكاغو فبريطانيا والدانمارك، كلها وقفت تصفق لقدراتها التمثيلية الفريدة التي جعلتها تفتتح مسرحها الخاص. في حينه، سمحت لنفسها بلعب كل الأدوار الجريئة، بما فيها الأدوار الرجالية التي لم يعتقد أحد أنها ستناسبها، لكن موهبتها نقضت كل الانتقادات وجعلت مسرحياتها الأكثر شهرة في باريس وكل أوروبا. فاحتفلت العام 1896 بتتويجها "سيدة المسرح" بعدما مثلت 112 مسرحية، 38 منها من ابتكارها. ودخلت ساره القرن العشرين متسلحة بشهرتها التي قادتها الى الشاشة الكبيرة حيث مثّلت أفلاماً عدة لم تجعلها يوماً تبتعد عن خشبة المسرح التي أوصلتها العام 1905 الى ريو دي جانيرو حيث أصيبت ساقها اليمنى بمرض غامض أدى بعد عشر سنوات الى بترها. ولم يردعها ذلك عن اعتلاء خشبة المسرح أو التمثيل السينمائي، لا بل على العكس، واصلت نشاطها العادي وهي في السبعين. ولم تتردد في الذهاب الى الجبهة العسكرية للترفيه عن الجنود الفرنسيين بعد اندلاع الحرب العالمية الأولى. وبقيت ساره وفيّة للتمثيل حتى آخر يوم من حياتها. فجعلت من غرفتها استوديو لتصوير فيلمها "البصّارة"... إلا أن الموت سلبها من حبها الأول والأخير وهي في التاسعة والسبعين من دون أن يسمح لها بإكمال الفيلم. فأسلمت الروح في 26 آذار مارس 1923 بين ذراعي ابنها موريس لأنها لم تشأ أن يفرّق الموت بينهما في آخر لحظة من حياتها. لؤلؤة سوداء رمز للجرأة وفي باريس أيضاً، اسم نسائي ثان لمع بين أضواء عاصمة النور. جوزفين بايكر الآتية من أميركا والمثقلة بطفولة صعبة وفقيرة جعلتها تصبح راشدة باكراً وباكراً جداً. والدتها تطمح لأن تكون راقصة ومغنية ووالدها لم تره سوى مرات معدودة في خلال حياتها. وعت باكراً على القهر والعنصرية اللذين جعلا أمها تدفعها لتعمل خادمة في منزل لل"بيض" في مقاطعة إيلينوي فيما لم تبلغ بعد الثامنة من عمرها. بقيت هناك سنتين تقوم بكل الأعمال المنزلية المرهقة قبل أن تعود مجدداً الى المدرسة في العاشرة. تزوجت في الثالثة عشرة ويلي ويليس لأسابيع معدودة قبل أن تطلقه. ثم أعادت الكرة لوقت قصير أيضاً وهي لم تبلغ بعد الخامسة عشرة مع ويل بايكر. طلقته بدوره ولم تحتفظ الاّ باسمه الذي ضمته لاسمها قبل أن تتوجه نحو فيلادلفيا حيث تعيش جدتها. هناك، بدأت الرقص في مسرحيات غنائية حيث لفتت نظر الجمهور بحركاتها العفوية. ولما بلغت جوزفين العشرين من عمرها، كانت العنصرية تفاقمت في شكل كبير في الولاياتالمتحدة الأميركية. فغادرتها لتتوجه نحو فرنسا حيث باشرت مهنة الرقص في مسرح الشانزيليزيه ولقيت فوراً شهرة كبيرة بفضل مقاساتها الجسدية اللافتة والمتكاملة... وجرأة ملابسها المسرحية شبه المعدومة التي كانت تبرز ليونة جسمها الذي يلتوي على المسرح كما الثعبان. ولما سجلت صوتها العميق في أول أغنية لها العام 1926، إنطلقت كالسهم في سماء باريس محتلة غلافات كل المجلات الفنية من دون استثناء. عندها، افتتحت جوزفين ناديها الليلي الخاص "شي جوزفين" وبدأت تبذّر المال يميناً ويساراً، خصوصاً في أعقاب جولتها العالمية التي استمرت سنتين، عادت في أعقابها الى باريس معلنة "أنها لا تستطيع العيش من دون باريس". وفي تلك الفترة أيضاً، التقت نبيلاً كونت من صقلية وقعت في حبه المجنون. فأمسك زمام حياتها المهنية وجعل منها نجمة عالمية لا مثيل لها. ولم يكادا يفترقان حتى عادت جوزفين الى "فولي برجير" حيث تصدرت صورتها الكبيرة مدخل المسرح. إلا أن حلم الأمومة لم يفارقها يوماً، فتزوجت مرة جديدة صناعياً فرنسياً، علّها تُرزق بطفل... فقدته جنيناً وطلّقت ايضاً. فقادتها الحرب العالمية الثانية الى الصليب الأحمر لتعمل ممرضة... كما الى صفوف المقاومة الفرنسية لدى دخول الجيوش الالمانية باريس. ولم تكد تنتهي الحرب حتى باتت جوزفين معروفة عالمياً، تؤدي رقصاتها في كل عواصم العالم... وصولاً الى الدار البيضاء. وعادت مرة جديدة الى باريس حيث كررت سيناريو الزواج والحمل والإجهاض فالطلاق. في حينه صرفت النظر كلياً عن مبدأ الزواج. فتبّنت 12 طفلاً من مختلف الجنسيات والإثنيات. اشترت قصراً في الريف الفرنسي وعاشت هناك مع قبيلتها "قوس القزح"، كما سمّتهم... إلا أن فترة الراحة لم تدم. فاضطرت الى العودة للعمل بعد تفاقم ديونها. وعاد اسمها على كل لسان وفي كل صحيفة. وقررت جوزفين في حينه السير في حياتها على طريقتها الخاصة: تزوجت للمرة الأخيرة سراً في كنيسة خالية، من دون قس ولا مراسم زواج. تبادلت تعهّد الزواج فقط مع روبرت برادي من دون أن يعلم أحد بالأمر وعاشت معه في قصرها و"قبيلتها" قبل أن تطرد منه العام 1969 لأسباب مالية. فأعالتها أميرة موناكو غريس كيلي وساعدتها في ما بعد على تنفيذ مسرحيتها الراقصة الأخيرة بعدما بلغت التاسعة والستين من عمرها... وقبيل غيابها النهائي عن المسرح بسبب نوبة قلبية أصابتها في نومها في تلك السنة. فتوقفت ساقاها عن الرقص ولم ينس قلبها الأذى الذي ألحقه بها وطنها الأم بعدما ظلمتها عنصريته صغيرة وفقيرة... كما غنية ومشهورة.