غداة حلول فصل الصيف كلّ عام تفتح مدينة أفينيون الفرنسية أبوابها وساحاتها للمخرجين المسرحيين والممثلين الذين يأتون بعروضهم من فرنسا والعالم. وخلال أكثر من عشرين ليلة يتابع الجمهور أعمالاً كلاسيكية وطليعية وعروضاً راقصة وأمسيات شعرية. انطلقت أعمال مهرجان "أفينيون" للمسرح من 6 الى 28 تموز يوليو الجاري في مدينة "أفينيون" الفرنسية على الساحل الجنوبي، في دورتها الجديدة. ويعد هذا المهرجان أكبر تظاهرة مسرحية في بلاد "موليير" على الاطلاق. المهرجان الذي ارتبطت ولادته ومساراته المشرقة بأحد الوجوه الأساسية في المسرح الفرنسي المعاصر: المخرج الكبير "جان فيلار" صاحب تجربة المسرح الوطني الشعبي. "فيلار" كان دائماً يعتقد أن المسرح "حدث ينبغي أن يأخذ بعين الاعتبار تناقضات عصره" باعتباره "شهادة عن الحياة" يرتبط بها في تجلياتها الفردية والجماعية. لذلك كان يضع اشكالية الجمهور في قلب الفعل المسرحي محاولاً تأسيس هذا المسرح - الحلم: "مسرح للجميع بعيداً عن الامتيازات الطبقية". وكان يؤمن بدور التربية الفنية في "تحويل الشعب الى جمهور"، وظل يردد باستمرار أن المسرح عليه ان يكون في متناول الجميع لأنه "لا يقل ضرورة عن الماء والغاز والكهرباء". تلك كانت رؤيته الثقافية وتصوره لكيفية ايصال المسرح الى أوسع شريحة من الناس داخل المجتمع الفرنسي. في هذا السياق إذاً، أطلق "فيلار" مغامرة مهرجان "أفينيون" منذ سنة 1947. لئلا تظل الثقافة "ذاك البشري النادر" الذي تستأثر به فئة محظوظة من الناس من دون سائر فئات المجتمع لاعتبارات ثقافية أو اقتصادية... دورة هذه السنة حافلة كالعادة بالعروض المسرحية والكوريغرافية والموسيقية وكذلك بالمعارض الفنية والندوات المسرحية. ويقدر عدد العروض المبرمجة في المحور الرسمي للمهرجان أل"إن" In نحو خمسين عرضاً، لفرق من بلجيكا والبرتغال وروسيا والولايات المتحدة الاميركية وبريطانيا وبولونيا وليتوانيا وهنغاريا وألمانيا فضلاً عن فرنسا التي تستأثر فرقها المسرحية بنصيب الأسد. فيما تقدم على هامش المهرجان مئات العروض المقبلة من مختلف بقاع العالم في اطار محور ال"أوف" Of. وتجدر الاشارة الى أن أنشطة المهرجان الذي يديره اليوم المسرحي الفرنسي "برنار فيفر داسيي" تجري في محورين. المحور المخصص للفرق المدعوة رسمياً للمهرجان وهو ما يعرف بال"إن" In والمحور المخصص للفرق غير المدعوة رسمياً وهو ما يعرف بال"أوف" Of وتتخذ العروض من الهواء الطلق فضاء لها، حيث ينشط في صيف "أفينيون" مسرح الشارع أو المسرح "خارج الأسوار" كما يحلو للبعض أن يسميه. وأضيفت فكرة ال"أوف" للمهرجان مع بداية السبعينات في خضم التحولات العاصفة التي شهدتها الثقافة الفرنسية إثر ثورة الشباب سنة 1968، وهي أعادت مساءلة الكثير من المسلمات في مجال الثقافة والفن ووجهت نقداً لاذعاً للنظام الثقافي السائد بما فيه طروحات المسرح الشعبي ومشروع "جان فيلار" نفسه، لأنه، بحسب رأيها، ظل حبيبس تصور نخبوي للمسرح. لذلك فإن مبادراته لم تمس إلا "الطبقة البورجوازية". في الوقت الذي "على المسرح، أن يذهب بنفسه نحو الشعب"، وكما كان يصرخ الغاضبون من متمردي أيار مايو 1968 في "أفينيون". محور ال"أوف" إذاً، جاء بهدف إعطاء نفس جديد للمهرجان، و"تجديد الفكر المسرحي بتساوق مع العصر" كما تؤكد ذلك "آن - ماري غريس" في كتابها "مهرجان مسرحي وفرقه: "أوف" أفينيون". هذه السنة تشهد التظاهرة الصيفية في عروض ال"إن" الرسمية نحو خمسين عرضاً. سبع وعشرون 21 لفرق فرنسية و6 عروض لفرق أجنبية إضافة الى 7 عروض رقص فضلاً عن عرض يمزج بين المسرح والرقص وآخر في فن السيرك. وتشتمل التظاهرة الرسمية على 5 حفلات موسيقية و4 عروض - قراءات إضافة الى اربعة معارض ومناقشات ولقاءات مع الفنانين. ومن أهم الأسماء التي ستضيء ليالي "أفينيون" الصيفية المخرج الألماني توماس أوسترمايير الذي يعود الى خشبات المهرجان بعرض "موت دانتون" لجورج بوشنير صاحب رائعة "فويتنريك". أوستر مايير نجم المسرح الألماني الصاعد سبق أن قدم 3 مسرحيات في دورة 1999 من مهرجان "أفينيون". إضافة الى "موت دانتون" يستضيف المهرجان كلاسيكيات أخرى مهمة، إذ يقدم المخرج الفرنسي ديديي بيزاس مسرحية "موليير" الشهيرة "مدرسة النساء"، وبذلك يعود هذا المخرج الذي ظل وفياً للمهرجان من باب الكوميديا في رفقة الممثل بيار أرديتي في دور "أرنولف". وهو سبق أن قدم "بريشت" و"بوف" و"تابوتشي"... في دورات سابقة. مثلما يحضر الكاتب الفرنسي ألفريد جاري عبر نصه "أوبو ملكا" من توقيع المخرج الفرنسي برنار سوبيل وقد ساعد في اخراج هذه المسرحية الفنان المغربي نور الدين الأنصاري. ويقدم المخرج لامبير ويلسو كلاسيكية الكاتب جان راسين "بيرينيسس" وهي المسرحية التي تسرد قصة حب مستعصية بين الملك "تيتيس" والملكة "بيرينيس". وهما يرغمان على الفراق لأن قوانين روما تحظر على الملك الزواج من أجنبية. هذا العمل الذي أنتجته فرقة "جيمناز مارساي" بالتعاون مع المسرح الوطني ل"شايو" يلملم نخبة من الممثلين الأوروبيين وعلى رأسهم كريستين سكوت توماس وديديي ساندر فضلاً عن لامبير ويلسون. المسرحية نفسها يقدمها المخرج فريدريك فيسباش والكوريغراف برناردو مونتي برؤية اخراجية مختلفة تمزج الرقص بالكلمة والصوت. ويحضر أيضاً مارسيل بروست من خلال عرض مقتبس عن روايته "البحث عن الزمن الضائع". العرض الذي يحمل عنوان "كنت إذاً أدفع الزمن من كتفه" يشكل لقاء جديداً بين المخرج شارل تورجمان والممثل سيرج ماجياني وهو الثنائي ذاته الذي تألق في مهرجان أفينيون سنة 1998 عبر عرض "ساندروم غرامشي" عن نص للشاعر الفرنسي المعروف برنار نويل. ويقدم المخرج البريطاني دوتالان دونالان مسرحية من تأليف الروسي الكسندر بوشكين التي تحمل عنوان: "بوريس غودونوف". هذا المخرج يتذكره جيداً جمهور أفينيون، وخصوصاً من شاهد مسرحيته "لو سيد" لبيار كورناي سنة 1998. هذه المرة يشتغل مع ممثلين روسيين على رأسهم سيرغيي أستاخوف ولوري شيرتنيف. وطبعاً، لا يمكن أن يغيب عن صيف "أفينيون" العملاق شكسبير. هذه السنة يقدم المخرج الفرنسي سيلفيان موريس رؤيته ل"ماكبث". ويقدم المخرج البولوني كريستوف وارليكوفسكي عرضاً جديداً لمسرحية "هاملت". ويعد هذا العمل الذي أنجز منذ 1919 علامة في تاريخ المسرح البولوني المعاصر، ويشهد على تميز مخرجه الذي اشتغل قبل ذلك الى جانب مسرحيين كبار مثل كريستيان لوب وجيورجيو ستريلير وبيتر بروك. وتقدم "سوناتات" شكسبير في حفل موسيقي وضع تصوره باسكال كولان وتؤدي أغانيه وموسيقاه الممثلة نورا كريف. ومن العروض التي يُنتظر أن تلفت الانتباه ايضاً مسرحية "الشرفة" التي يوقعها المخرج الفرنسي جان بوالو عن نص "جان جينه" الشهير. إضافة الى مسرحية جان كوكتو "متزوجو برج ايفل" التي أخرجها فانسان كولان. ثم أيضاً مسرحية جان ماري كولتيس "معركة الزنجي والكلاب" من اخراج جاك نيشي. وينتظر أن يكون لافتاً العرض الذي أعده المخرج البلجيكي جان فابر خصيصاً ليقدم على خشبة "قصر الباباوات" تحت عنوان "أنا دم" وتأتي أهمية العرض من كوننا بإزاء فنان استثنائي هو في الآن ذاته مخرج وشاعر ورسام وكوريغراف. ويعرض جان فابر أعمالاً فنية أيضاً. مثلما يقدم خمسة أشرطة قصيرة أخرجها ما بين 1988 و1998. وفي مجال المعارض دائماً، تقدم جمعية "جان فيلار" معرضاً خاصاً عن مؤسس مهرجان "أفينيون" بمناسبة مرور 50 سنة على تعيينه مديراً للمسرح الوطني الشعبي، و30 سنة على رحيله سنة 1971. والمهرجان كالعادة حافل بالعروض الموسيقية وعروض الرقص، وفي هذا الاطار فإن الدورة تستضيف فرق هنغارية عدة بمناسبة اقتراب افتتاح هيئة هنغاريا - فرنسا. واذا كان مهرجان "أفينيون" أصبح بعد أكثر من نصف قرن على انطلاقته، أحد أعرق مهرجانات المسرح في العالم فهو يشكل فضاء دورياً للقاء رواد أو عشاق هذا الفن خلال أيام صيف رائقة على الساحل الجنوبي لبلاد "الإكزاكون". ولعل عدداً من الأصوات ما انفكت تتحدث عن شيخوخة هذه التظاهرة واقترابها، على الأرجح، من حائط النهاية. إذ يعتبرون أن شروط التأسيس وسياقات المسار المشرق لم تعد ذاتها الآن، مما يطرح سؤالاً عريضاًعن جدوى استمرار المهرجان، على الأقل في صيغته القديمة، وفق وجهة نظرهم طبعاً. في باريس، ومنذ بضع سنوات تشكلت جمعية طريفة مناهضة في شكل ما لهذه التظاهرة الصيفية، أطلقت على نفسها اسم "لن نذهب الى أفينيون" وهي تضم مخرجين وفنانين وفاعلين ثقافيين وتنظم مهرجاناً مسرحياً يحمل الاسم ذاته. ومن منظورهم فإن مهرجان "أفينيون" في الشكل الذي يستمر فيه يعتبر فضاء خانقاً يقتل متعة الصيف وحب المسرح. وسألنا في المناسبة أحد المؤيدين لهذه الجمعية، وهو جان ديني المستشار الحالي لوزير التربية الوطنية الفرنسي جاك لانغ فعلق قائلاً: "مهرجان أفينيون يكتسي أهمية تاريخية لا تُناقش، لكنه في صيغته الحالية لم يعد محطة جذب لعشاق المسرح في الشكل الذي كان في بداياته، وذلك نظراً لما يعرفه من تكدس في العروض وفي الحضور. وينبغي أن يتم التفكير في صيغة جديدة للمهرجان، وشخصياً لن أذهب الى "أفينيون" هذه السنة". في المقابل تظل اعداد من عشاق المسرح في كل أنحاء العالم مشدودة الى هذه التظاهرة، تترقب مجيئها كل صيف، حاملة ذلك الشعار الذي يضمن للمهرجان استمراريته وهو: "سنذهب حتماً الى أفينيون"! تاريخ مهرجان لعلها مصادفة صرف جعلت جان فيلار أحد أبرز الوجوه المسرحية في فرنسا القرن العشرين يكتشف "ساحة الشرف" في "قصر الباباوات" في مدينة أفينيون سنة 1947. الساحة التي سوف تصبح في ما بعد الفضاء الرمزي لمهرجان أفينيون السنوي. هكذا، مثلما أخرج الانطباعيون فن الرسم الى الهواء الطلق في نهاية القرن التاسع عشر، فتح فيلار باب قاعات المسرح التقليدية كي تخرج العروض الى الشارع والساحات وتؤسس لعهد جديد في مسار المسرح والثقافة في فرنسا. كيف تمت هذه المصادفة؟ في 12 كانون الأول ديسمبر 1946 كتب الشاعر الفرنسي رينه شار رسالة مستعجلة الى جان فيلار: "ينبغي أن أراك في أقرب وقت. أين أنت الآن، في باريس؟ كتبت سيناريو وحوارات فيلم سوف يجري تصويره خلال الربيع المقبل في ظروف جادة، وقد فكرت فيك في دور أود أن أتحدث اليك بصدده". كان شار يعد فيلم "شمس المياه" الذي ينتظر أن يموله صديقاه كريستيان وإيفون زيرفوس المعروفان كجامعي لوحات وتحف فنية وكناشرين لمجلة "دفاتر الفن". كان الثلاثة شاهدوا فيلار في فيلم مارسيل كارني "أبواب الليل"، حيث لعب دور القدر. كما ان اصداء نجاح مسرحيته "مقتلة في الكاتدرائية" عن نص الشاعر الانكليزي ت. س إيليوت، قد اخترقت الآفاق، بعد جولة طويلة استمرت طوال موسمي 1945 و1946. في النهاية لم ينجز فيلم رينه شار. ظل مجرد يوتوبيا جميلة في رأس الشاعر. لكن كريستيان زيرفوس الذي كان بصدد إعداد معرض للفن المعاصر يضم لوحات من ماتيس وبيكاسو وليجي وبراك وميرو وكلي... في صيف 1947 وذلك في الكنيسة الكبيرة ل"قصر الباباوات" بأفينيون، ظل يحتفظ بفكرة التعاون مع فيلار، الذي لم يكن يتجاوز حينذاك الخامسة والثلاثين من عمره. هكذا اقترح عليه أن يقدم عرضه "مقتلة في الكاتدرائية" أثناء معرض الفن المعاصر في ساحة الشرف الموجودة في "قصر الباباوات". غير أن فيلار رفض، واعتبر أن الساحة غير صالحة للعرض، هو الذي ألف أن يحصد نجاحاته في مسارح باريس الصغيرة المغلقة. ولكن أليس فيلار نفسه من كتب: "الأشياء الناجحة هي التي نقوم بها بعد أن نقول لا لمدة طويلة، الى أن يتم انجازها كما لو أن ذلك يجري على الرغم منك...". بعد بضعة أيام على رفضه، "عاد فيلار ليرى زيرفوس، لا ليعلن قبوله عرض "موت في الكاتدرائية"، بل ليقترح عليه بجسارة اخراج ثلاث مسرحيات دفعة واحدة تعرض بالتوازي مع المعرض. هذه المرة، جاء الرفض من زيرفوس الذي رأى ان المبلغ المطلوب من أجل انجاز العروض يتجاوز كثيراً ما رصده للمعرض أكثر من مليون فرنك فرنسي. في المقابل اقترح على فيلار أن يرتب له لقاء مع عمدة مدينة "أفينيون" الشيوعي الدكتور بونس. وبمهارة المخرج الخبير بأمور الادارة والتفاوض، استطاع جان فيلار أن يقنع بلدية "أفينيون" بتمويل مشروعه، وسرعان ما تمكن أيضاً من الحصول على مبلغ اضافي من كتابة الدولة في الفنون الجميلة، وأخرى من هيئة تدعى "دائرة المبادلات الفنية الدولية" فضلاً عن إسهام مالي شخصي كاستثمار في العرض. وهكذا انطلق مهرجان "أفينيون" الذي أصبح واحداً من أبرز المهرجانات المسرحية في العالم.