قصاصات صحافية صفراء، وبضع صورٍ من البومات عتيقة، منسيّة في أدراج العائلة، تخلّد وحدها اليوم الممثلة المسرحية الكبيرة رضى خوري، وهي التي عاشت وصنعت جزءاً مهماً من تاريخ المسرح اللبناني في أعوامه الذهبية في الستينات والسبعينات. رضى خوري غرقت قبل فترة في لجّة مرضٍ أفقدها ذكرى حتى أعز وجوه عملت معها. بل أفقدها ذكرى ماضيها وحاضرها على السواء. إنّه مرض "الزهيمر" الذي قضى على ذاكرتها ووعيها بالعالم والحياة. أمّا أعمالها الكثيرة التي امتدت بين عامي 1963 و1994، فلم يبق منها سوى ورق أصفر، وحبر أسود يفيض اعجاباً بها، وصور بالأبيض والأسود، لأن التصوير التلفزيوني والفيديو لم يتواجدا إلاّ في ما بعد. ألقاب كثيرة أغدقت على رضى منها: "السيدة الكبيرة"، و"سيّدة الخشبة"، وصور ركّزت على تقاطيع وجهها الناطقة بكلام كثير لا يحتاج الى كلمات. وعناوين... عناوين تصف رضى، لعلّ أحلاها واحد يقول "رضى خوري عيناها جمرتان وملامحها أبجدية". هادئة دائماً، هكذا كانت رضى تتفاعل مع الصمت، صديقها، ولا تجد فرحها إلا فيه، وقد أسقطت شخصيتها الصامتة والحيويّة في آن على المسرح الذي أرادته أن "يدوزن روح الإنسان ولا يكتفي بقرقعة المجتمع". أضاءت رضى بنجوميتها حقبةً مهمة في تاريخ المسرح، في صمت، وها هي تذوي اليوم في منزلها في عمشيت في صمتٍ أيضاً: انها بنفسجة المسرح المتواضعة بحق. ورضى خوري التي انقطعت عن المسرح وعن أصدقائها ورفاقها الذين انقطعوا بدورهم عنها تحتاج الى أن نتذكّرها دوماً وأن نسترجع اطلالاتها المسرحية الباهرة ونردّ اليها حقاً يكاد الحاضر أن يفقدها إياه. رضى خوري التي عرف عنها أنّها تملك قدرة فريدة على الاندماج في ذاتها والدور الى درجة يضحيان فيها وكأنهما هوية واحدة، دخلت المسرح عن طريق الدراسة النظرية، والخبرة التي اكتسبتها من العمل مع كبار المسرحيين. درست التمثيل المسرحي في مدرسة بيروت للمسرح الحديث، وتدرّجت في فرقة مهرجانات بعلبك. وبموازاة المسرح تابعت دراستها الجامعية في كلية التربية. تعتبر رضى خوري من مؤسسي الحركة المسرحية الحديثة مع زملاء لها ضمّتهم كلية التربية، منهم: انطوان كرباج وانطوان ولطيفة ملتقى وسواهم. لمع نجمها في الستينات والسبعينات، فكرّستها الصحافة النقدية "سيدة الخشبة المسرحية". وهي مع نضال الأشقر ولطيفة ملتقى وتيودورا راسي ومادونا غازي من أولى النساء المسرحيات اللبنانيات. وإذا طلبت اليها التحدث عن خطواتها الأولى على دروب المسرح، تقول كما ورد في حديث قديم لها: "كنت في الصف الثالث متوسط في دير راهبات عبرين. وطالما غرت من رفاقي الذين يشاركون في المسرحيات البسيطة والبريئة في نهاية كل عام دراسي. شعرت دائماً برغبة في المشاركة، لكن الخوف منعني. كنت خجولة. ويوما دفعتني رغبتي الكبيرة في التمثيل الى كسر حاجز الخجل، وعندما أعلنت لنا الراهبة أن ثمة مسرحية ستعرض، وسيتم اختيار أول خمسة طلاب يرفعون أيديهم، وجدتني أرفع يدي عالياً، بينما الدم يتصاعد الى وجنتي. نجاح دوري في هذه المسرحية هو بالنسبة إليّ أفضل ذكرى أحتفظ بها في مهنتي المسرحية". استهلّت رضى حياتها العملية مع المخرج منير أبو دبس عام 1963 في مسرحية "انتيغون"، ولعبت معه أدواراً عدّة منها على سبيل المثال لا الحصر: "الملك يموت"، "العادلون" و"علماء الفيزياء". عن هذا المخرج الذي شهد انطلاقتها، تقول عام 1975 في حديث لها: "انني مدينة لمنير أبو دبس في القدرة على الغوص في الذات، معه قفزت الى أجواء نفسي، ومارست الرحيل الى الأعماق، على أشرعة المخيّلة والعاطفة، كان الصديق ولم يكن المعلّم". كما لعبت رضى في "المسرح الحر" في مسرحية "لعبة الختيار"، وتلبّست دور رجل، ولم يستطع أحد من الجمهور اكتشاف هويتها النسائية. وقد أولاها المخرج برج فازليان هذا الدور نظراً الى قدرتها التمثيلية الخارقة، ولعبت دوراً مهمّاً كذلك في مسرحية يعقوب شدراوي "أعرب ما يلي".. رضى خوري أسيرة المرض الذي يكبل تفكيرها وحيويتها، تنظر اليوم الى البوماتها الكثيرة بدهشة يشوبها الغموض: تنظر الى نفسها وكأنها غريبة، تجهل كل الوجوه، ولا تعرف منها سوى وجه "ريمون". وليس اسم "ريمون" المحفور في ذاكرة رضى سوى المخرج المسرحي اللبناني ريمون جبارة الذي يقول عنها أنّها "أعزّ من أخت لي". بدأت عملها مع جبارة في مسرحية شربل 1977 ولعبت فيها دور أم القديس اللبناني، في تفانٍ وقدرةٍ فاقتا التصوّر. حتى أن المسرحي رفعت طربيه يعتبر ان "قدراتها وطاقاتها التمثيلية تفجّرت كلّها في دور أم شربل". كذلك شاركت في مسرحيات أخرى لريمون جبارة منها: "قندلفت يصعد الى السماء"، "دكر النحل" و"صانع الأحلام". وريمون جبارة كان المعبر لرضى كي تتفاعل مع "الجنون المشرقط الذي يتجرأ على الإبداع في استمرار"، على ما تقول عام 1975، وتتابع "انه يتواقح في براعة على يوميات الإنسان، فيعبث في المألوف ليخترق جدار الصمت الى سهولٍ خضراء هي مملكة الإنسان الأصيلة"، عرفت رضى مهرجانات بعلبك، وأحيت "أيّام العز" مع المخرج أنديه سربان في مسرحية "الطرواديات وإلكترا"، ولعبت أدواراً سينمائية وتلفزيونية مع مارون بغدادي وسمير نصري وكميل سلامة وسواهم. هاجرت رضى الى الولاياتالمتحدة الأميركية حيث مكثت زهاء عامين، لكنّها بقيت تحنّ الى المسرح اللبناني، ولما سئلت عن هجرتها أجابت "أنا من المسرح اللبناني وسأعود الى متابعة عملي مع رفاق الطريق الأصيلين". حققت رضى في الغربة قفزة مهمة في اتجاه العالمية، إذ عملت مع فرقة "لا ماما" في نيويورك التي هدفت الى خلق نوع جديد من المسرح يتعلق بالإنسان. أكسبها العمل مع هذه الفرقة نظرة أعمق الى أبعاد المسرح العالمي عموماً واللبناني خصوصاً "للعمل المسرحي معنى آخر مع وجود الفرقة، نحن في لبنان نلملم الممثلين عند كلّ عمل، نختار فلاناً وفلاناً لمدّة معينة ثم نفترق. وهذا التصرّف يسيء الى روح المسرح، فالمسرح هو فعل مثالي لمجموعة من المواهب تتساند للانتصار على الذات الفردية وخدمة للإنسان في هويّته الاجتماعية". ومن شاهد رضى خوري على المسرح رأى ممثلة تجمع التناقضات في قدرة هائلة. ومن الأدوار التي لعبتها: الملكة صاحبة حب التملك الجامح، المتسوّلة، المجنونة، الأم الثكلى، العاشقة المولعة، المناضلة المؤمنة والطبيب المتسلِّط. في الواقع، يعود نجاح رضى الى كونها أحبت المسرح وفهمته كثيراً، لكنها حافظت على تواضعها، ورفضت النجوميّة العشوائية فلم تمثل إلاّ مع أشخاص اقتنعت بهم تمام الاقتناع. تقول: "أنا لست ناقدة لأفاضل وأحلّل وأقيّم، ولست صحافية لأروي القصص. انني أمارس مهنتي من زاويتها. أي أنني لا أشترك في مسرحية تحمل توقيع فنان لا أحترمه". هذا الموقف يحمل في طياته نقداً للمسرح أفصحت عنه في وضوح أكثر حين قالت "حركتنا المسرحية مصابة بالتلوث التجاري، لقد سقطت في فخ العقلية البلدية التي تمارس الحياة من زاوية الربح والخسارة، لقد أكل القرش الكثير من المواهب الصديقة. اختيار بعض الأصدقاء للسهولة يجعلني أشعر أنني يتيمة. والحقيقة أننا جميعاً يتامى في لبنان اليوم". هذا الشعور باليتم الذي راود رضى عام 1975 يشعر به المسرحيون القدامى اليوم في ظلّ غيابها القسري عن المسرح. "المسرح من دون رضى يتيم" يقول ريمون جبارة. لماذا؟ لأن رضى تميزت بقيمة مسرحية لافتة تتجلى بحسب جبارة في "حضورها الجميل، وموهبتها الأكيدة وثقافتها الواسعة، وكانت رغم أهميتها تتقبل توجيهات المخرج كأيّ ممثل مبتدىء من دون نقاش". ويرسم المسرحي رفعت طربيه صورة أخرى عن رضى المعلمة التي تلقّن زملاءها ما يحتاجونه من دون منّة، "كانت رضى تعلّم الجميع، وأنا شخصياً مدين لها فنياً. لقد تعلمت منها طريقة التنفس والنطق ومخارج الحروف، واتسمت ملاحظاتها دوماً بالعمق". ويخبر طربيه عن متعة اللعب مع رضى على الخشبة: "صحيح أنها لا تبدّل في الإخراج والتفاصيل لكن أداءها للدور كان يختلف يوماً بعد يوم إذ تكتشفه دوماً في طريقة جديدة، والمهم في رضى أنها تزيد الممثل أمامها قوة وتعطيه ثقة ولا تقيده أو تخيفه على رغم أنها كانت وحدها تشعل الخشبة". ويضيف طربيه أنها كانت "تسأل دائماً، وتطلب ملاحظات من المخرج وتتبناها كلها. وأنا لم أر ممثلاً بأهميتها يتلقى هذا الكمّ من الملاحظات وينفذها من دون نقاش". حرصت رضى دوماً على جعل حضورها طاغياً من دون أن تحتكر الخشبة، "كان حضورها يقوى ويخف وتعلم عند الضرورة متى تنسحب لخدمة النص والإخراج المسرحي نظراً الى علاقتها الوطيدة بمناخ الإخراج العام". يقول طربيه. ويذهب المسرحي منير معاصري الى حدّ اعتبارها "سارة برنار الشرق نظراً الى قدرتها المسرحية وصدقيتها، وعطائها اللامتناهي. لم يسيطر على رضى هاجس التفوّق على رغم أنّها قامت بأهم الأدوار في المسرح اللبناني مع مادونا غازي. كانت تذوب في العمل لكنّها تبقى في النهاية بارزة". ويضيف معاصري "لديها طاقة في الحضور تجسدها تنوعاً في أداء الأدوار، تدخل في حالة الشخصية التي تلعبها وتذوب فيها. تأخذ وقتاً كافياً للتحضير للشخصية والدور قد يمتد لأسابيع كاملة". والى تميّز رضى خوري كممثلة مسرحية قديرة، فهي عرفت كإنسانة كبيرة أيضاً. ويتحدث من عاصروها عن صفاتها الإنسانية في اعجاب كبير، يصفها ريمون جبارة بأنها "رفيقة مهمّة للجميع، يحبها كل من يتعرف اليها، تتحلّى بروح الجماعة التي تنبع عندها من نفسية طيبة ومتواضعة، ورغم أنها كانت تلعب دور البطولة دوماً لم تتوان يوماً عن تحضير القهوة لزملائها من الممثلين". ويخبر رفعت طربيه انها "كرست نفسها للمسرح والتعليم درّست مادتي التاريخ والجغرافيا في ثانوية فرن الشباك الرسمية لأعوام على حساب حياتها الشخصية، لم تفكر يوماً في الزواج على رغم كثرة المعجبين فيها. الى ذلك طالما كرهت الكذب والنفاق والإدّعاء. يزعجها الصوت المرتفع ولو تحلّى صاحبه بالمنطق. كانت تزدري بمن يرفع صوته". ويعتبر طربيه ان "رضى هي مدرسة كبيرة في المسرح وفي الأخلاق المسرحية، ونحن في المسرح اللبناني والعالمي نحتاج الى أمثالها". ويذهب منير معاصري الى حدّ اعتبارها "قديسة المسرح" نظراً الى قيمتها الإنسانية وطاعتها والتزامها بمهنتها في طريقةٍ تفوق المنطق والإخلاص في العمل". ويعتبر معاصري أن "التواضع هو أهم ميزاتها، وعلى رغم كل عبقريتها في التمثيل لم نرها مرة واحدة تتعاطى مع غيرها كأنها نجمة". وفي هذا الإطار يقول رفعت طربيه أنها "لم تدّع النجومية يوماً بل رفضتها فهي تعتبر أن النجومية تقتل الفن، إذ يصبح هم الممثل الحفاظ على بعض "الكليشيهات" التي لا تخدم العمل في أحيان كثيرة". الى كل هذه الصفات الرائعة، كانت رضى خوري من أطرف الممثلات وأهضمهن، وعرفت دوماً بأنها تحمل حقيبة يد تتسع لكل ما يطلبه سائل، من الابرة والخيط الى المطرقة والشاكوش". تعيش رضى خوري اليوم على خشبة الحياة مسرحية لا شك أن نهايتها مأسوية، متسلحّة فقط بحب عائلتها وبعض رفاق المسرح، من بينهم ريمون جبارة الذي يكتفي بالقول بمراراة: "عندما أصلّي في وضعي الصحي غير الثابت أطلب الشفاء لرضى قبلي"، ويعبّر رفعت طربيه عن حزنه الشديد لمرضها ويقول لها: "المسرح مشتاق اليك يا رضى، ومن دونك لا قيمة له، نحن مقصرون تجاهك كزملاء لكننا نحبّك كثيراً". ويقول لها منير معاصري: "افتقدك كثيراً يا رضى، وأشعر في حياتي المسرحية أن أدواراً كثيرة تستحق أن تؤدّينها وحدك". أمّا رسالة رضى فقد عبّرت عنها سابقاً، لكنها لا تزال تصلح حاضراً ومستقبلاً، وفيها تقول "بيروت مختبر عربي رئيسي للمسرح، وهي صورة مصغّرة عن تناقضات العالم المعاصر، ومسرحنا مهم لمن يعرف جيداً موقعه، انه البداية لمغامرة جديدة، ومسرحنا لا يغامر في مجتمع استهلاكي يغرق في مضغ قضاياه، إنّه يبحث لذاته ولمجتمعه عن هويّة من العصر ومن الحداثة".