نابوليون وجوزفين، أشهر ثنائي في القرن الثامن عشر في أوروبا. إتسمت علاقتهما بالإستغلال المتبادل لفترات متفاوتة من حبهما وزواجهما. أحبا بعضهما بعضاً، كرها بعضهما بعضاً، خان الواحد منهما الآخر ، طلّقا وبقي كل منهما حسرة في قلب الثاني... حتى بعد الموت. هو عشق حتى الجنون تلك الأرملة التي تكبره بست سنوات، والتي بدّل اسمها لتكون ملكه وحده فقط. جعلها عشيقته وزوجته، فامبراطورة على كل فرنسا. قَبِل منها كل شيء الكذب والممالقة والخيانة، لكنه لم يقبل أبداً ألا تمنحه وريثاً، فطلّقها وبقيت صورتها تحرق قلبه كالجمر. أما هي، ف"روز" أو "يايات"، الفتاة البسيطة التي تحكّم بها القدر ورماها يميناً ويساراً من دون شفقة حتى أغرم بها ذلك الضابط الفرنسي المجهول الذي سماّها جوزفين وجعلها أهم سيدة في فرنسا قبل أن يطلّقها. ثائر من كورسيكا ولد نابوليون في كورسيكا قبل شراء ملك فرنسا الجزيرة، وسط عائلة من 13 ولداً. فنشأ على النقمة على ذلك البلد الذي "استعبد" وطنه، لكنه لم يتردد في التوجه إليه مع أخيه جوزيف طلباً للعلم عندما قُدِّمت لهما منحتان فرنسيتان لهذه الغاية. فدخل المعهد العسكري في عمر العاشرة، ومن ثم المدرسة الملكية العسكرية في باريس. وأصبح ملازماً ثانياً في الجيش الفرنسي في السادسة عشرة. وفي السنة نفسها، اضطر إلى إعالة عائلته بعد وفاة والده... كما في الهرب معها إلى مرسيليا بعدما اتُهِم بالخيانة في أعقاب إعلان استقلال كورسيكا. زوجة بدلاً من شقيقتها أما هي ف"ماري جوزيف روز تاشير"، ولدت العام 1763 في إحدى جزر المارتينيك في عائلة من 3 بنات من البورجوازية المحلية التي حلمت بزواج "مثمر" لهن إنقاذاً لموازنة العائلة المرجرجة. وقد دبّرت العمة التي تعيش في فرنسا زواج كاترين الإبنة الوسطى 12 سنة من النبيل ألكسندر بوهارنيه، إبن عشيقها الهرم تأميناً للميراث. إلا أن كاترين توفّت فجأة، ما اضطر روز 16 عاماً إلى الحلول مكان شقيقتها من دون علم العريس المسبق. وعلى رغم ذلك، تم الزواج بين عروسين يكرهان بعضهما بعضاً. وأثمر ولدين فتاة وصبياً عاشا مع الأم فيما كان الوالد بعيداً عنهما. وما لبثت الثورة الفرنسية 1789 أن انقضّت على النبلاء، فكان ألكسندر وزوجته في رأس القائمة. سُجنا وحُكم عليهما بالإعدام على المقصلة. ونُفّذ الحكم به فيما أنقذت هي بشبه أعجوبة إذ إن قيادة الثورة تراجعت عن أحكامها مباشرة عشية تاريخ إعدامها. زواج القدر التقى نابوليون الأرملة روز التي أوهمته بأنها غنية في إحدى المناسبات الإجتماعية الباريسية، فأغرم بتلك الشابة التي هي "امرأة حقيقية"، كما قال مرة. وكان هذا القدر بالذات في انتظارهما بعد أيام معدودة على زواجهما فغادر نابوليون فرنسا لقيادة الجيش الفرنسي قرب إيطاليا، وبقي شهوراً عدة يتوسّل إليها أن تلاقيه في ميلانو لقضاء شهر العسل، من دون نتيجة. وأمطرها برسائل الحب الرومانسي التي باتت مشهورة وأمثولة للعاشق الولهان من دون أي رادع... وصمّت آذانها وشرعت بمغامرة هوجاء مع ضابط في الجيش الفرنسي... حتى بعدما وافته إلى ميلانو. وترامت أخبار خيانتها إلى نابوليون الذي كذّبها. وكانت الصدمة الكبرى عندما قرر ذات يوم مفاجأتها في منزلها في ميلانو، فوجده فارغاً بعدما ذهبت إلى جنوة مع عشيقها. وانتظرها تسعة ايام من دون جدوى... فترة طويلة بدأت تؤكد له صحة الأخبار المترامية إليه، إلى أن أكّد له شقيقه خيانتها. فواجهها بها ونكرت بعنف، طالبةً منه أن يطلّقها إذا كان يعتقدها تستطيع أن تخونه، ومؤكدةً أن عائلته التي تكرهها، هي مصدر هذه الأخبار. إنقلاب الأدوار ومنذ ذلك اليوم، إنقلبت الأدوار بين العاشقين: هي تتدلل إليه وتتبعه في كل حملاته العسكرية أينما كان على رغم خوفها من السفر... ربما لأنها عرفت كيف ستكون الحياة إذا طلّقها نابوليون. أما هو فلم يعد يثق بها أبداً، وبدأ يجمع العشيقات، الواحدة تلو الأخرى، كما البحّار الذي يملك امرأة في كل مرفأ... حتى قيل عن إحداهن إنها "كليوباترا نابوليون" بعدما كان في حملة عسكرية في مصر. وكتب نابوليون رسالة إلى شقيقه يخبره فيها عن تناقض شعوره تجاه جوزفين التي يحبها ويكرهها في آن... فاعترضت الإستخبارات البريطانية العدوّة الرسالة ونشرتها في الصحف، مما دفع بجوزفين إلى الإنعزال في منزلها في "ملميزون" خوفاً من ألسنة المجتمع الباريسي. ولما عاد نابوليون إلى فرنسا، توجهت جوزفين للقائه على الحدود، لكنهما لم يلتقيا بسبب سوء التوقيت، فوصل إلى المنزل ولم يجدها. وثار غضبه مجدداً وأمر الخدّام برمي أغراضها الخاصة خارجاً وبإغلاق الأبواب في وجهها لدى عودتها. فاضطرت إلى اقتحام المنزل لرؤيته، فور عودتها متأخّرة. تشاجرا لساعات، علا صوتهما صريخاً وبكاءً... إلى أن تصالحا أخيراً. فوعدته بألا تخونه أبداً وسمح لنفسه بالمقابل بأن يتخذ قدر ما يشاء من العشيقات، لأنهن - كما قال - لا يجعلنه يتأثر بهن، ولأن السلطة باتت وحدها عشيقته. وانتقل الثنائي إلى قصر Tuileries بعدما عُيّن نابوليون قنصلاً أول لفرنسا واستمر إتفاقهما صامداً أربع سنوات قبل أن يصبح هو إمبراطوراً وهي إمبراطورة العام 1804. إمبراطورة لسنتين، فطلاق وبقيت جوزفين تنعم بالسلطة لسنتين فقط، حملت في نهايتهما عشيقة نابوليون منه ووهبته صبياً. حينها، تبدلّت كل الموازين. فجوزفين كانت أقنعته أنه العاقر لأنها أنجبت ولدين من قبل... من دون أن تدعه يشك بأن تقدمها في العمر 43 عاماً هو السبب. وبدأ نابوليون يفكر جدياً بإمكان الطلاق منها، على رغم من حبه لها، سعياً وراء وريث لعرشه فيما انهارت جوزفين كلياً بادئة برؤية مؤامرات وهمية لقتلها. فنُقلت كل أغراضها الشخصية إلى منزلها في ملميزون، واستمرت في الظهور في الدعوات الرسمية... لكن بنسبة قليلة جدا ً فيما كان نابوليون يبحث عن زوجة. وقرر الإمبراطور تنظيم حفلة كبيرة للطلاق حيث ألقى كل منهما كلمة في المناسبة: هو أكد "أنها منحتني 13 سنة من السعادة، وستبقى ذكراها محفورة في قلبي إلى الأبد"، وهي قالت بصوت مرتجف أنها "قدمت له أكبر تضحية قد تقدم على وجه الأرض، وأعمق دلالة على حبي له لأنني تأكدت من أنني لن أستطيع أن أقدم له وريثاً للعرش". فرنسا، الجيش، جوزفين وما لبث نابوليون أن تزوّج من ماري لويز، إبنة إمبراطور النمسا. فأغرم الإثنان ببعضهما بعضاً بعد الزواج ومنحته وريثاً لقبّه "ملك روما"... وقدّمه إلى جوزفين عندما لم يكن بعد بلغ عامه الثاني. إلا أن الأوضاع السياسية إنقلبت رأساً على عقب بعد سلسلة من الخسائر العسكرية، فاضطر الإمبراطور الفرنسي إلى التنازل عن العرش في نيسان 1814 ونفي إلى جزيرة إلبا حيث لم ير بعد اليوم زوجته أو إبنه البالغ من العمر 3 سنوات. أما جوزفين فمرضت بعد شهر من تقهقر نابوليون، وماتت في اقل من 25 يوماً بين ذراعي إبنها. ولما علم نابوليون صدفة بوفاتها عبر صحيفة فرنسية قرأها في منفاه، بقي يومين جالساً في غرفته، رافضاً رؤية أحد. ولما عاد بعد سنة إلى باريس في محاولة لاسترجاع عرشه، هرع إلى منزلها حيث جمع من الحديقة أزهار البنفسج التي كانت تعشقها. وحملها في علبة صغيرة بقيت معه في منفاه الجديد "سانت هيلين" بعدما خسر مرة جديدة إمبراطوريته. هناك، بقي ست سنوات ينظر إلى تلك الأزهار ويتذكر حبه العاصف، حتى أيار 1821 ... الشهر ذاته الذي سلب جوزفين الحياة، حيث كانت كلماته الاخيرة قبل لفظ أنفاسه: فرنسا، الجيش، جوزفين... وكان القدر مرة جديدة في المرصاد له، حتى بعد مماته، إذ إن إبنة جوزفين تزوجت شقيقه... وبات ابنهما "نابوليون الثالث"، وريثه الشرعي من زوجته المطّلقة التي لم تمنحه وريثاً مباشراً.