لا أدري إن كان سارقو لوحة "الصرخة" للرسام النروجي ادوار مونخ سيتمكنون من بيعها! من يقدر ان يبتاع مثل هذه "الصرخة" المدوية التي ما برحت تتردد في تاريخ الفن العالمي؟ بل من يستطيع ان يحصر صدى مثل هذه "الصرخة" داخل جدران اربعة بعدما اخترقت حدود العالم ووصلت الى اقصى ما يمكن ان تصله صرخة انسان مستغيث؟ غريب امر هذه اللوحة، هذه اللوحة - الصرخة! مَن يشاهدها مرة تلو مرة يشعر دوماً انه يشاهدها للمرة الأولى. فالصرخة التي تدوّي في عينيه تدوي في روحه ايضاً، في اعمق اعماق هذه الروح. صرخة تندلع كبريق السكين، تؤلم وتخدّر في الحين عينه، تجرح وتبلسم الجرح. صرخة صامتة من شدة قوتها، اصداؤها ترددها الذاكرة مثلما ترددها الناحية الخفية من الذات، من الوجدان، من العالم الداخلي العميق. كُتب الكثير عن "صرخة" مونخ ولا سيما بعد دخولها تاريخ الفن التشكيلي من بابه الواسع. كتب الكثير عن الرأس الذي يشبه الجمجمة، وعن الوجه المتفاوت بين سحنة ميت وهيئة حيّ، وعن السماء الحمراء كالدم والبحر الكامد الزرقة. كتب ايضاً عن قامة الرجل الصارخ، المتلوّية كشعلة سوداء وعن الفم الفاغر بلا اسنان ولا شفتين، عن اليدين اللتين بلا اصابع... كتب الكثير كذلك عن الطريق والدرابزين وعن الطيفين اللذين يتقدمان بغموض تام وعن المساحة الخاوية بين الرجل المستوحد والمستوحش وبينهما... لم يدع النقد العالمي زاوية في هذه اللوحة لم يلق عليها ضوءاً، لكن سر هذه "الصرخة" يكمن في "اندلاعها" المستمر منذ العام 1893 عندما رسمها مونخ وهو في الثلاثين من عمره. إنها "الصرخة" التي تختصر تجربة بكاملها ومدرسة بكاملها وحياة بكاملها. الفنان التعبيري الرائد شاء ان يختصر كل ما يمكن ان يقال بصرخة صامتة: عدمية نيتشه، سأم بودلير، جحيم رامبو... استغاثة الكائن لدى نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين إزاء صعود النزعة المادية التي ستحوّل الإنسان حجراً بلا روح ولا أحاسيس! استغاثة الكائن الوحيد الذي سيشهد خلال سنوات قليلة اندلاع الحروب التي ستحوّل النصف الأول من القرن العشرين فضاء يختلط فيه الأحمر القاني بالرمادي والأسود! استغاثة الإنسان الذي فقد الرجاء والأمل ولم يعد قادراً على الانتظار او الحلم. كتب مونخ بعد ان رسم هذه اللوحة التعبيرية الفريدة مفصحاً عن سرها الشخصي: "كنت امشي على الطريق مع صديقين. غابت الشمس وأضحت السماء حمراء حمرة الدم. شعرت بمثل نفحة كئيبة، توقّفت واتكأت على الدرابزين منهكاً حتى الموت. فوق المدينة والممر البحري ذي الزرقة الكامدة ترفّ غيوم قانية الحمرة وألسنة نار: صديقاي تابعا طريقهما فيما راوحت انا مكاني، مرتجفاً من الجزع، وخيّل إليّ انني أسمع الصرخة الهائلة واللانهائية للطبيعة". لعلها رؤيا الجحيم تفتح امام الرسام سماء من نار وبحراً من رماد وعالماً من الخراب الذي سيكون! لا يحتاج المشاهد ان يقف طويلاً امام هذه "الصرخة" فهو سرعان ما يسمعها بعينيه وأذنيه وكل حواسه، وسرعان ما يفقه سراً ولو واحداً من اسرارها الكثيرة. لكنه سرعان ما يكتشف ايضاً ان هذه "الصرخة" اندلعت كي لا تفارقه. إنها تتردد في زاوية ما من روحه. وكلما شاهد المرء هذه "الصرخة" يشعر ان صداها متواصل ابداً في داخله ولو بصمت شديد هو صمت هذا الكائن الصارخ في عالم لا يسكنه سوى الأطياف! عندما شاهد الشاعر الفرنسي مالارميه "صرخة" مونخ عمد الى ترديد صداها في احدى قصائده قائلاً: "مع صرخة غضب في سماء الغابة"... ومن اسرار هذه "الصرخة" ان مونخ رسمها في اربع صيغ متشابهة ويقال إن واحدة من الأربع هي الأفضل. لكن "الصرخة" تظل هي الصرخة، صرخة الخوف والرعب والانهيار والكآبة والموت... صرخة الصمت والكارثة... صرخة الحياة التي لا تشبه سوى الموت، الموت حياة. إنها "الصرخة" التي تجعل المرء ينسى انها سرقت مع لوحة اخرى لمونخ هي "السيدة العذراء" لا تقل عنها اهمية!