المعنى الأكثر مقبولية ورواجاً للسيادة أن الدولة هي التي تتولى حماية أمنها وأمن المقيمين عليها. ولهذا فهي تحتكر أدوات الإكراه، التي تضمن بها تنفيذ أوامرها وقراراتها جبرياً. والقوة التي تسهر على هذا المعنى وتبلوره في الواقع المنظور هي الحكومة التي تحقق الوحدة السياسية للدولة، ومع ذلك قد تتغير الحكومات لكن السيادة تبقى حقيقة دائمة لا تقبل التجزئة ولا التفويض أو القسمة. هذا التعريف هو الذي يكمن في ذهن القائلين بأحقية الدولة، والمقصود الحكومة عملياً، في معاقبة أو حتى محاربة أية قوة تنصب نفسها بديلاً منها في استخدام مظاهر القمع وتطبيق القانون أو أخذه بيدها. وهو قول يحظى بصحة نظرية يصعب التشكيك فيها، غير أن صحته في التطبيق مرهونة، بمحددات صارمة داخلياً وخارجياً، المحددات الداخلية تتصل بالأسلوب الذي وصلت به نخبة الحكم إلى موقعها، ومن خلاله راحت تتحدث عن أحقيتها في ممارسة السيادة باسم الدولة، وهذا ما يمكن التعبير عنه ايجازاً بمصادر شرعية هذه النخبة على الصعيد الشعبي، والقاعدة هنا أنه كلما افتقد الحكام للمصدر الديموقراطي وإجراءاته المعلومة بالضرورة الانتخابات العامة في طليعتها، كلما اتسعت فرص بروز قوى تجرح صدقية هذه الأحقية وتطعن فيها. أما المحددات الخارجية، فمحورها مفهوم الاستقلال بأن استقلال الدولة عن أي ضغوط خارجية "اكراهية" هو الوجه الآخر لمعنى السيادة، وعلى هذه العلاقة الارتباطية العضوية يقوم التمييز بين دول مستقلة ذات سيادة كاملة وأخرى منقوصة السيادة كتلك المشمولة بالحماية أو التابعة أو الخاضعة للإشراف الدولي، وبالطبع فإن احتلال الدولة بالقوة العارية وتقويض بنيتها المؤسسية السياسية أو المدنية أو كلتيهما معاً، يجعل الحديث عن ممارستها للسيادة لغواً. السيادة والحال كذلك لا تُلغى ولا تُستأصل ولا تخضع للشطب والإزالة، لكنها عرضة للحجب أو الاغتصاب بوسائل مختلفة ومن مصادر متباينة، بعضها داخلي والآخر خارجي. لعل أكثرها قسوة وأقلها تكرارية في التجارب، قيام قوة دولة خارجية بالاستيلاء عنوة على دولة اخرى وإلحاقها بها أو ضمها إليها بالكامل، أي ابتلاعها في جوفها وإدعاء غيابها كلياً من الخريطة الدولية. السيادة إذاً شيء وممارستها شيء آخر، السيادة تكمن دائماً في الإرادة العامة لسكان الدولة. شعب الدولة هو صاحب السيادة، فيما السلطات السياسية هي المعبر عنها باسم هذا الشعب، والسلطات التي تنهض على غير إرادة الشعب، لا يحق لها هذا الفضل، وتمسي مخرجاتها معرضة للنقد أو النقض صعوداً إلى شهد الطاعة عنها أو التمرد عليها ومنازعتها في دعوى تمثيل السيادة. ولا يعدم الأمر تطور هذا التنازع الى العصيان المدني أو المسلح، وتبلور قوى ترى في ذاتها الأهلية للحكم وفرض رؤاها القانونية والسياسية، بديلاً من السلطة المغتصبة أو التي تراها مغتصبة للحكم ومن ثم للسيادة. كأن الحديث عن وحدانية السلطة والقرار والبندقية والقانون والسيادة، يستدعي كشرط قبلي شارط، النظر في مدى شرعية ومشروعية المتحدث، ويتحدد هذا المدى بناء على الاقتراب والابتعاد من المصدر الأولي لهذه الشرعية والمشروعية وهو الإرادة الجمعية للشعب، وحتى الآن لم يبدع الفقه السياسي ولا الخبرات الإنسانية ما هو أنجع من الانتخابات العامة كوسيلة للكشف عن هذه الإرادة. على أن اللجوء إلى هذه الأداة الكاشفة يحتاج بدوره الى ضمانات للنزاهة ومنع التحايل والتزوير، وتُلح هذه الحاجة اكثر في الحالات الصارخة لاغتصاب السلطة والتصارع عليها، ولعل الاحتلال الأجنبي، مهما كانت العباءات التي يتدثر بها أو العناوين التي يختفي خلفها هو الحال الأبرز في هذا المقام. إن نزاهة العملية الانتخابية ووجود الاحتلال ضدان لا يجتمعان. واذا كانت السلطة الوطنية الناشئة عن انتخابات تجرى في ظل الاحتلال، محلاً للريبة في صحة أهليتها وسلامة تعبيرها عن الارادة الشعبية، فإن السلطات الحكومات التي تنشأ تحت الاحتلال بغير انتخابات ادعى لإثارة هذه الريبة. وعليه، لا يجدر بمثل السلطات المقامة او المنبعثة وفقاً للحال الاخيرة، التلطي بطلب الخضوع لها والاذعان بذريعة وحدانية السلطة والقرار والقانون، لا منطق العملية السياسية السوية، ولا شروط قيام وقعود النظم الديموقراطية، ولا معنى التمثيل الصحيح للسيادة والتعبير عنها يسمحون بالاستجابة الصاغرة لهذا المطلب. ولو كان الأمر على غير ذلك، لكانت كل السلطات التي اقعدتها القوى الاستعمارية على قلوب الشعوب المستعمرة واجبة الطاعة، ولما عرف فقه الاستعمار والتحرير مفهوم الحكام الدُمى والحكومات العميلة، وقبل هذا وبعده، لصح وصف حركات التحرير والمقاومة بالانشقاق والتمرد وانعدام الولاء والتبعية للخارج... الخ. وحدانية السلطة وما يستتبعها من "وحدانيات" على صُعد القرار والقانون والادارة وأدوات العنف وامتلاك السلاح... الخ، هذا المفهوم يتمتع بإغراء لا يقاوم، إنه من أهم تجليات سيادة الدولة الحاكم. بيد أن هذه الجاذبية لا يجب أن تشغل الخاطر عن مرجعية المدعين به ومصادر شرعيتهم، وحجية المدعين عليهم وضدهم ومساحة الرضاء الشعبي عنهم. وهذه لعمرك قضية لا تعز على القياس. * كاتب فلسطيني.