منذ الساعة الواحدة بدأوا يتوافدون إلى الغرفة التي خصَّ الدكتور واصف بها إياس بعد يوم واحد من دخوله المستشفى. كان معتصم أولهم. وكما في الزيارة السابقة، تجاهل مرض إياس، ورثى للمكتب الإعلامي بعدما ورثتْ منه رغيدة منصب المدير، وحضّ إياس على أن يدير المرض خلف ظهره ويغادر المستشفى سريعاً حتى يذهبا معاً إلى قرية زيزون الجديدة: خبطة صحافية كبيرة يا إياس. أنت تعرف الموضوع جيداً. أنت تكتب الريبورتاج وأنا أصوّر. ننشر الريبورتاج في جريدة "الحياة" أو "الشرق الأوسط"، و"خلّ الأستاذة رغيدة تفقع". لم يأبه إياس في الزيارة السابقة باقتراح معتصم. لكنه هذه المرة ترك الرجل يتحسّر على زمن الدكتور عيسى في المجمّع. وفكّر في أنه لو استطاع أن يكتب ريبورتاجاً عن قرية زيزون الجديدة، فلن يشارك معتصم، لا لأمرٍ إلا لينشر الريبورتاج الجديد مع التحقيق الذي قام به في انهيار السد وفي الطوفان، ثم طواه كما طواه الأستاذ موسى نزهان. ولم يكد يخرج معتصم حتى دخل الدكتور سامر عطوف، وكانت قناة أبو ظبي تبث صور الدبابات الأميركية في شارعٍ بغدادي خالٍ، وعينا إياس تنتقلان بين الشاشة ووجه الدكتور سامر المحيّر: هل هو حزين على إياس أم على بغداد أم على إعفائه من مهمة تفكيك فرع المجمّع في الجزيرة؟ أم تراه غير مبالٍ بأي أمر؟ لكن الدكتور سامر ابتهج عندما دخلت الممرضة التي ابتدأ دوامها الآن، فأسرعت إلى المريض الذي أوصى به الدكتور واصف الجميع: محتاج شي يا أستاذ؟ - شكراً يا ست حياة. قال إياس وابتسم وهو يرى الدكتور سامر يبحلق في الممرضة الكهلة التي كانت تتفحص لوحة المريض. وعندما اتجهت إلى الباب أشار إياس إلى كرسي وقال: - شاركينا الفرجة يا ست حياة. الأميركيون احتلوا بغداد. فقالت بصوت مختنق: - من صباح الحرب وأنا أقرأ كل يوم سورة الفيل عشر مرات وزوجي يقرأ سورة الأحزاب عشر مرات. عفوك يا رب. نصرت الأميركيين ولم تستجب لنا. وانسحبت مسرعة، وسكت الدكتور سامر ولغا إلى أن دخلت مدام سالمة، فلغتْ وسكتت إلى أن دخل الدكتور واصف فلغا، وانصرف الدكتور سامر، وكانت الدكتورة ربى دخلت ولغت ثم سكتت إلى أن انصرفت ومدام سالمة. وكان أبو غدير - صاحب الدكان الذي لم يأبه بتهدّل الأستاذ إياس ولا بسعاله منذ أسابيع - دخل ولغا حتى انصرف كاتماً غيظه، لأن الأستاذ الذي لم يعد ينط مثل القرد منذ شهور يقول بحياد إن رئته اليسرى قد تكون مصابة بالسرطان. وكانت شهلة ورحاب وهاني قد دخلوا ولغوا وسكتوا إلى أن انصرفوا، وبغداد لم تزل تسقط، والست حياة عادت لتطمئن على المريض المسكين الذي قد يكون السرطان أصابه وهو في عز الشباب. وكانت الساعة قد جاوزت الثانية ثم الثالثة ثم الرابعة وربما الخامسة، ولم يعد مسموحاً لأحد بأن يزور إياس. لذلك صُلب على الشاشة، ولبث يتفرج على من صلبوه وعلى من يبكونه وعلى من يتفرجون وعلى من يذعرون ويفرون، وعلى من يتوافدون إلى هذه الغرفة النظيفة الصغيرة: السرير الذي لازمه إياس منذ صباح الأحد، الكومدينة التي يتدافر عليها الهاتف والجرائد والمجلات ودفتر صغير، الخزانة الصغيرة وعلاّقة السيروب وشاشة القلب والزرّ الذي يكفي أن تلمسه سبابة إياس حتى تفتح الست حياة الباب لاهثة، الكراسي التي سمح الدكتور واصف بتكاثرها، التلِفزيون الذي أقسم الدكتور واصف بألاّ يتفرج عليه بعد نشوب الحرب بيومين أو ثلاثة، وأنعم به على إياس منذ ليل الاثنين كما أنعم عليه بهذه الغرفة، فأنقذه من رفقة المريضين اللذين قضى بصحبتهما يوم الأحد ونهار الاثنين في الغرفة المجانية، وكل ذلك إكراماً لذكرى المرحوم ورد قمر الدين الذي كان صديقاً حميماً للدكتور واصف، كما كان على علم بالقطيعة بين المرحوم وأخيه الصحافي السجين المدلل عند المرحوم الدكتور عيسى نزهان. ولا بد من أنه الآن مدلل عند الأستاذ موسى نزهان، ما دامت مدام جنان برقا قد حضرت بنفسها إلى المستشفى ظهيرة الاثنين، ونقلت تحيات الأستاذ موسى وتعّهد المجمع 21 بنفقات علاج إياس قمر الدين. بالطبع، بغداد التي سقطت فجر هذا اليوم أو ضحاه أو ظهره أو عصره، هي بغداد العراقية وليست بغداد البولونية أو الاسترالية أو الجورجية، ولا بغداد أريزونا أو بغداد كانتاكي سيتي أو بغدادفلوريدا، كما قال الدكتور واصف منذ ساعة ممازحاً أو شامتاً أو حزيناً أو مبتهجاً، ومتباهياً في أية حال بما يعرف من المدن التي تحمل اسم بغداد على وجه البسيطة. لكن الأميركيين لم يحتلوا إلا بغداد العراقية. وإياس المصلوب وحده على السرير يتفرج على المهيب الركن جورج بوش الابن - الأب حفظه الله وهو يرفس المهيب الركن صدام حسين حفظه الله، بينما يؤكد صوت ربما كان للدكتور سامر: لو استقال صدام حسين لأراح واستراح. ويؤكد صوت ربما كان لمدام سالمة أن رفس صدام حسين تحريرٌ للعراق ومفتاح وحيد لتحرير المنطقة. ويهتف صوت ربما كان لهاني صادق: باي باي يا عروبة باي باي يا وطن. ولا يعود إياس قادراً على أن يفرق بين صوت وصوت، إذ كان الوثاق قد أُحكم حول رقبة صدام حسين، والعلم الأميركي قد اعتلاه هنيهة قبل أن يعتليه العلم العراقي الذي لم يخطّ عليه صدام حسين حرفاً. وبدأ التمثال يميل إلى الأرض. وشبّ إياس من السرير. وظل يشب حتى بدا كأن التمثال يملص من عمود غليظ طويل مقيم مخلفاً فوهة أكبر من فوهة مدفع الدبابة الأميركية المصوبة عليه، وإياس يعود إلى السرير أخيراً حين هوى التمثال على الأرض فقهقه إياس عالياً، وظل يقهقه حتى قاطعه السعال الذي تفاقم قبل أن تبدأ الحرب، فاضطر لأن ينصاع لأمر ونسة التي اتصلت به صباح الحرب، ويصوّر صدره، ثم... ثم ابتدأ يكذب على ونسة كما كانت الحرب تكذب عليه: لا شيء حتى في صورة الطبقي المحوري. لا تقلقي. غير أن الدكتور واصف أمر بالخزعة، ثم لوّح بالجراحة، ثم جثم إياس في السرير وقد تحرر من صليبه ونظر إلى صدام حسين شخصياً - وليس إلى التمثال أو الشاشة عيناً لعين وأنفاً لأنف وصدراً لصدر. وأخذ صدام حسين يتخلّق في أسماء شتّى يعرفها إياس جيداً جداً. ولعله لذلك أخذ يصغي إليها واحداً واحداً غير خائف ولا متعجّل. وصاح اسمٌ: أنا الدولة، وصاح اسم: أنا المجتمع، وصاح اسم: أنا الدولة وأنا المجتمع. وفجأة أخذت الأسماء جميعاً تتحيْون في هيئات مُلْبِسة، وطال الأمر بها قبل أن تنجلي حصاناً ليس مثله حصان. وصهل الحصان العجيب الغريب: أنا أعبد نفسي، أتمرغ بالتراب أمام قدمي أنا، أنا لست أنا، لكوني أنا أنا، وحدي أستحق نفسي سأختار شعبي سياجاً لمملكتي ورصيفاً لدربي فمن كان بلا علةٍ فهو حارسُ كلبي ومن كان منكم أديباً أعيّنه حاملاً لاتجاه النشيد سأمنحكم حقَّ أن تخدموني وأن ترفعوا صوري فوق جدرانكم وأن تشكروني لأني رضيتُ بكم أمةً لي، فسيروا إلى خدمتي آمنين أذنتُ لكم أن تخرّوا على قدمي ساجدين سنأذن للغاضبين أن يستقيلوا من الشعب. فالشعبُ حرٌ سأختاركم مرةً واحدةً كل خمس سنين وأنتم تزكّونني مرةً كل عشرين عاماً إذا لزم الأمرُ أو مرةً للأبدْ للأبدْ للأبدْ. وفجأة انقطع الصهيل وتبدد الحصان العجيب الغريب، وعاد إياس إلى الوحدة القاتلة لولا أن الهاتف يتذكره بين حين وحين، فيتلعثم إياس أمام صوت أمه الباكي ويحتار في من أخبرها أن بكرها الغالي في المستشفى! ثم يتلعثم أمام صوت أخته الديبلوماسية رضاب التي تتصل من روما لتطمئن على شقيقها المصاب بالسرطان، ويحتار في من أخبرها بحقيقة مرضه التي لم تكن قد تأكدت بعد! ومن هاتف إلى هاتف يكاد إياس لا يجيد إلا اللعثمة وهو ينتظر صوت ونسة التي لم يخبرها أحد بأنه نزيل المستشفى. لذلك يرمق الهاتف حتى يسمعه يرنّ رنيناً مختلفاً فيتلقف السماعة: ونسة: أين أنت يا ونسة؟ - أنا قادمة - ستقول، مثلاً. - لا تتأخري - سيقول راجياً، وربما باكياً، مثلاً. لكن ونسة قد تكون مشغولة مثله بسقوط بغداد، فتنسى مثله أنه مريض، وتشمت مثله بسقوط التمثال، وتستبشر مثله بسقوط أيّ تمثال. وقد تزيد ونسة - مثلاً - بأن تطلب من إياس أن يكتب مقالة واحدة على الأقل عن هذه اللحظات التاريخية التي يجسدها له التلفزيون الآن، وأن يرسل بالإيميل إليها ما يكتب كي تترجمه إلى الألمانية وتنشره في صحيفة محترمة، فتنفتح له في الصحافة الطريق التي نشأ وهو يحلم بها، ولم يزل. وفي وحشة الغرفة الصغيرة النظيفة التي تصير سجناً كلما اقترب المساء الربيعي، يبدأ ربيع الكتابة في الدفتر الصغير بالمصير المحتوم لهذا التمثال، ثم يشطب كلمة التمثال ويكتب كلمة الديكتاتور. ثم يشطب السطرين اللذين لم يكتملا ويندفع بالكتابة عن دولة هذا التمثال ذات الحزب الواحد، أو العشيرة الواحدة، أو الطائفة الواحدة، أو القومية الواحدة. ثم يشطب ما كتب ويندفع بالكتابة عن أسرة التمثال فرداً فرداً وفردةً فردةً. ثم يخصّ بالكتابة من اختاره التمثال ليكون خليفته على الأرض عندما يصعد هو إلى السماء ليواصل بناء دولته هناك، بينما يواصل الخليفة خلافته مهتدياً بهدي أبيه - أو عمه أو أخيه السماوي في الخطف والقتل والاعتقال والتعذيب والنهب والتجويع. ثم شطب إياس السطر الأخير وقد باغته سأم مثل هذه المفردات وعجزها. وعاد يرمق الهاتف الصامت متهيباً أن يخبر ونسة بمرضه. وكانت لافتات تتكاثر في الشاشة وأصوات تعلو والتمثال ذو الدبر الكبير العاري ينشحط على الإسفلت مصفوعاً بالشحاطات والصبابيط والأبواط والكنادر والصرامي والجِزَم والكلاشات والبوابيج، وبالبصاق والشتائم، فدسّ إياس الدفتر الصغير في كومة الجرائد والمجلات على الكومدينة، مؤثراً أن يتفرج.