منذ ايام قليلة اعلنت الحكومة الانكليزية عن قرار باتخاذ اجراءات مشددة لمكافحة الارهاب، لمنع وقوع اعمال قيل إن معلومات حديثة وصلت اليها عن اعتزام الارهابيين القيام بها في بريطانيا. وفي اليوم نفسه كانت الحكومة الاميركية تعلن عن اتخاذ اجراءات مماثلة وتهيب بالشعب الاميركي ان يتوخى المزيد من الحذر، توخياً لما يدبره الارهابيون، ومع ذلك تهيب بالناس ايضاً أن يستمروا في ممارسة حياتهم الطبيعية ويذهبوا الى اعمالهم كالعادة وكأن شيئاً لن يحدث مع صعوبة التوفيق بين هذا وذاك بالطبع وذلك استناداً الى اننا"نحن الاميركيين لن نجعل فئة من الارهابيين تخيفنا، واننا قادرون بفضل يقظتنا وسهر حكومتنا على القضاء عليهم واستئصال خطرهم". وقد تعودت ألا اعلّق أهمية كبيرة على مثل هذا الكلام، اذ استقر في ذهني الاقتناع بأن الارهاب نفسه هو في الاساس اختراع كبير تخيف به الادارة الاميركية شعبها واذا امكن بقية شعوب العالم ايضاً ،وان الحكومة البريطانية تساير الاميركيين في هذا من باب المجاملة والصداقة والتحالف ولاتحاد اهدافهما في الوقت الحاضر. وبناء على هذا الاقتناع تعودت الا انشغل بقراءة تفاصيل مثل هذا الاستنفار وتصريحات التخويف والتهويل المتصلة به. ولكن وقع نظري بالمصادفة البحتة على الصفحة الاولى من جريدة بريطانية يومية واسعة الانتشار، وان لم تكن من الجرائد البريطانية المفضلة لديّ بسبب تعاطفها المستمر مع اسرائيل ضد العرب، ومع المحافظين ضد العمال، ومع السياسة الاميركية في جميع الاحوال، حتى عندما تكون سياسة خرقاء تماماً. كان الخبر الوحيد الذي يحتل الصفحة الاولى بأكملها يتعلق بهذه الحملة الامنية المفاجئة لمكافحة الارهاب. وقد بدأ الخبر على النحو التالي:"قبض بالأمس على 13 رجلاً خلال سلسلة من الحملات التي قام بها رجال بوليس مسلحون كجزء من اكبر عمليات تشهدها بريطانيا ضد الارهاب الدولي. ويتراوح سن المعتقلين بين العشرين والاربعين". قلت لنفسي: ليس في هذا الكلام أي شيء يختلف عما يمكن ان يتوقعه المرء. فالارهاب يتطلب بعض الاعتقالات، والسن المذكور معقول تماماً، إذ ليس من المتوقع ان يقوم بعمل ارهابي صبي عمره اقل من العشرين، او رجل اكتمل عقله بتجاوزه الاربعين. واستمرت الجريدة تقول:"وقد جاء الاعتقال تنفيذاً لقانون الارهاب الصادر في سنة 2000، والذي يسمح باعتقال كل من يشتبه في قيامه بتنفيذ أو تحضير أو التحريض على عمل من اعمال الارهاب". قلت لنفسي: وهل ترك هذا القانون شيئاً لم يذكره الا، ربما، الاشتباه في قيام شخص مثلي بالتفكير في معنى الارهاب، وما اذا كان حقيقة ام اختراعاً؟. ثم ذكرت الجريدة اسماء بعض المدن التي جرت فيها الاعتقالات ومنها مدن مشهورة مثل لندن، ومدن غير مشهورة مثل لوتون، ثم قالت ان هذه الاعتقالات:"هي جزء من عملية مستمرة وسبق التخطيط لها". وهو طبعاً ما يجب ان يتوقعه المرء في عملية من هذا النوع، ان تكون"مستمرة"، وان يسبقها"التخطيط لها"وان كانت الجريدة لم تبال بذكر المدة التي يمكن ان تستمر خلالها العملية او متى بالضبط بدأ التخطيط لها. ثم تستطرد الجريدة فتقول:"ان من المفهوم ان الرجال المعتقلين كانوا تحت المراقبة لبعض الوقت وان الاجراء الذي اتخذه بوليس مكافحة الارهاب مدعوماً بقوات البوليس المحلية كان مبنياً على معلومات قدمتها جهات أمنية". قلت في نفسي: وهذا ايضاً منطقي تماماً بل بديهي. ان الذي يقوم باعتقال الارهابيين رجال بوليس مكافحة الارهاب، وان يجري هذا بناء على معلومات معينة جاءت من جهة لها علاقة بالأمن وليس بعمل من أعمال الترفيه مثلاً او الثقافة، وان يسبق هذا الاعتقال شيء من المراقبة لبعض الوقت، مهما كان هذا الوقت قصيراً. شعرت انني حتى الآن لم استفد اي شيء مما قرأت، مما لم يكن باستطاعتي تخمينه من قبل ان ابدأ القراءة. ولكن الجريدة اضافت بعد ذلك فقرة قد تحتوي على بعض المعلومات الجديدة، اذ ذكرت ان:"اثنين من المعتقلين تم اعتقالهم ابتصويب بندقية اليهما وهم يستقلان سيارة"مرسيدس"ذهبية اللون، في تقاطع مزدحم بالمارة، كما يعتقد ان بعض المشتبه فيهم يحملون الجنسية البريطانية...". صحيح ان من المستبعد جداً ان يعتقل 13 شخصاً في بريطانيا وفي وسط شارع مزدحم ولا يكون واحد منهم على الاقل حاملاً للجنسية البريطانية. كما ان من المستبعد ان يتم الاعتقال في هذه الحالة دون تصويب مسدس او بندقية، ولكن نوع السيارة هو قطعاً معلومة جديدة وكذلك كونها ذهبية اللون، وليست حمراء مثلاً او سوداء مما يتوقع من رجل ارهابي. الأهم من كل هذا بالطبع ما ذكرته الجريدة من ان الرجلين اللذين اعتقلا بتصويب بندقية اليهما"قيل انهما من اصل آسيوي"بل وتعتقد ايضاً ان جميع المشتبه فيهم"من اصل آسيوي"، وان لم تذكر الجريدة من الذي قال هذا عن الرجلين ومن الذي اعتقد هذا بخصوص"جميع المشتبه فيهم"كما انها لم تذكر ما اذا كان هذا"الاصل الآسيوي"يشمل دولاً كالصين او اليابان او كوريا ام يقتصر فقط على الدول الاسلامية في آسيا. ثم تقول الجريدة:"وقد اخذ الثلاثة عشر شخصاً المعتقلون الى مركز بوليس وسط لندن لاستجوابهم عن طريق ضباط مكافحة الارهاب". وأضافت، منعاً لأي لبس ورغبة في توضيح الامر برمته:"ان هذه العملية التي جرت اليوم جزء من اجراءات واسعة ومستمرة يقوم بها رجال البوليس وجهات الامن في سبيل مكافحة الإرهاب الدولي". وهكذا انتقلت الجريدة من جملة خالية من اي معنى الى جملة اخرى خالية ايضاً من المعنى. وربما شعرت الجريدة بهذا وبأنها تحتاج الى ذكر اي سبب يمكن به تبرير اتخاذ هذه الاجراءات المفاجئة. فذكرت الجريدة ان جهات الامن الباكستانية كانت قد قامت أخيراً باعتقال رجل متخصص في الكومبيوتر ويعتقد ان له علاقة بتنظيم"القاعدة"الارهابي، وانه من خلال التحقيق مع هذا الرجل تبين ان هناك مخططاً للقيام ببعض الاعمال الارهابية العنيفة في اميركا وبريطانيا. ولكن الجريدة لم تلتفت الى ان اهمية هذا الخبر لا بد أن تضعفها بشدة، ان لم يقض عليها تماماً، ما جاء في الصفحة نفسها من ان هذا الخبر منقول عن جهاز الاستخبارات الاميركية الذي قد يهمه الايهام بوجود خطر اكبر بكثير من الحقيقة، وما جاء ايضاً في الصفحة نفسها من ان الادارة الاميركية غضبت بشدة ونفت نفياً باتاً ان المعلومات التي يحتويها هذا الخبر عمرها يزيد على ثلاث سنوات. أثارت قراءة هذا الكلام في نفسي رغبة قوية في الضحك، وحاولت ان اتذكر شيئاً قديماً حدث لي وبه شبه بهذا الذي فعلته الجريدة البريطانية السيّارة. فتذكرت ما كان يصادفني احياناً من بعض تلاميذي من محاولة خداعي اثناء الامتحان بإيهامي بأنهم يعرفون شيئاً عن موضوع السؤال من دون ان يعرفوا شيئاً في الحقيقة. ذلك انني خلال السنوات الطويلة التي قضيتها في التدريس بالجامعة صادفت نوعاً من التلاميذ، هو نوع نادر لحسن الحظ، ولكن كان يثير فيّ دائماً درجة عالية من الغيظ والغضب. فقد كان نوعاً من التلاميذ يجمع بين الاهمال الشديد واللامبالاة التامة بالعلم من ناحية، وبين النصب والاحتيال من ناحية اخرى. كان التلميذ من هؤلاء يتغيّب عن معظم المحاضرات ويقضي ايامه في اللهو واللعب حتى اذا جاء الامتحان أخذ يكتب ويكتب، الصفحة بعد الاخرى، وبخط واضح وجذاب، بل يستخدم اقلاماً متعددة الالوان في وضع الخطوط لتأكيد بعض الجمل دون غيرها، وذلك كله من دون ان يقول أي شي على الاطلاق. فالجمل كلها خالية من المعنى او تنطوي على بديهية لا تحتاج الى اثبات او على معلومة شائعة يعرفها رجل الشارع غير المتعلّم، ثم تكرر الجملة التالية ما جاء في الجملة السابقة عليها. وتنتهي الاجابة بجملة حماسية تتلوها بعض علامات التعجب، وكأن التلميذ متأثر جداً ومنفعل بما كتب، ثم يضع خطّاً احمر معلناً انتهاء الاجابة. فلنفرض مثلاً ان السؤال يطلب المقارنة بين الرأسمالية والاشتراكية، والتلميذ لا يعرف اي شيء عن اي منهما، فإذا به يكتب عبارات من النوع التالي: "الرأسمالية تقوم على رأس المال، اذ يحتل فيها رأس المال اهمية قصوى تفوق اهمية اي شيء آخر. ويوجد هذا النظام في بلاد كثيرة من بلاد العالم، وهي البلاد التي يكثر فيها الاغنياء الرأسماليون... اما الاشتراكية فهي على العكس تماماً من الرأسمالية، تقوم على فكرة الاشتراك او المشاركة... الخ". وينتهي الأمر بالطبع بحصول التلميذ على صفر بسبب عدم وجود أي درجة اقل من ذلك. تذكرت مثل هذه الاجابات عندما قرأت ما نشرته هذه الجريدة الشهيرة عن الاجراءات المفاجئة لمكافحة الارهاب الدولي. وان كان الانصاف يقتضي ان اذكر ان الجريدة ختمت تحقيقها بفقرتين مهمتين، لا يثيران الضحك بل بعض الأسى والكثير من التأمل في حقيقة ما يسمى بالارهاب ومكافحته. فقد ذكرت الجريدة انه:"في شهر كانون الاول ديسمبر الماضي قبض على 14 شخصاً آخرين في حملات امن مشابهة، ولكن معظمهم جرى الافراج عنهم. وفي شهر ايار مايو اعلن انه منذ 11 ايلول سبتمبر 2001 جرى القبض على 562 شخصاً طبقاً لقانون الارهاب الصادر في سنة 2000، ولكن وزارة الداخلية البريطانية ذكرت ان اقل من شخص واحد من كل خمسة اشخاص وُجهت إليه أي تهمة على الاطلاق. وانه من بين ال97 شخصاً الذين وجهت اليهم اي تهمة لم يحكم بالإدانة إلا على 14 شخصاً وان معظم التهم التي وجهت الى هؤلاء الاشخاص كانت من نوع مخالفة قوانين الهجرة او استخدام بطاقات ائتمان مزيفة او مسروقة مما يعتقد البوليس انها احدى الطرق التي يستخدمها الارهابيون في تمويل عملياتهم". بعبارة اخرى، ان هذا العدد القليل جداً ممن ارتكبوا أي جرم على الاطلاق، وممن اعتقلوا في البداية باعتبارهم"ارهابيين"، كانت جرائمهم تتعلق إما بالهجرة غير المشروعة الى بريطانيا بسبب شدة الفقر على الارجح، وليس بسبب عزمهم على الارهاب، أو تتعلق باستخدام بطاقات ائتمان مزيفة او مسروقة. ومن البديهي ان الارهابيين قد يستخدمون بطاقات ائتمان مزيفة، ولكن من البديهي ايضاً ان ليس كل من يستخدم بطاقة ائتمان مزيفة هو بالضرورة ارهابي. * كاتب واكاديمي مصري.