لا تزال نظرية المؤامرة الصهيونية للسيطرة على العالم تسحر بعض المثقفين، ويتكرر حضورها هذه الأيام بتواتر غريب، وبصور وأشكال متنوعة، في سياق تحليلاتهم للظواهر والأحداث الساخنة في فلسطينوالعراق وفي الموقف من مشاريع الإصلاح الخارجية ومجريات الانتخابات الأميركية القادمة، وتفاجئك عبارات قاطعة تحشر الدور الإسرائيلي في كل صغيرة وكبيرة، تصل الى حد اعتبار "سياسات واشنطن في المنطقة إنما وضعت لخدمة إسرائيل أولاً"، وأن خطط البيت الأبيض الشرق أوسطية إنما صنعت في تل أبيب. لا يختلف اثنان حول عمق العلاقات بين أميركا وإسرائيل وقوتها، وعلى وجود تكامل وتناغم بين دوريهما في خدمة مصالحهما وأهدافهما المشتركة. ويتفق الجميع على أن أي تقدم أميركي في المنطقة، عسكرياً كان أم سياسياً، يصب الماء في طاحونة إسرائيل ويعزز تفوقها النوعي على خصومها القائمين والمحتملين، والعكس صحيح. لكن يبقى من الخطأ والخطر في آن معاً معايرة الوزن الإسرائيلي بأكثر مما يستحق وتجاهل قوة المصالح الاستراتيجية الأميركية وشدة حضورها، بل قدرتها على فرض ارادتها وإخضاع السياسات الإسرائيلية لاملاءاتها عندما تتطلب مصالحها ذلك. وربما لا تزال الضغوط الشديدة التي مارستها إدارة البيت الأبيض لإكراه إسرائيل على توقيع غير اتفاقية من "اتفاقيات السلام" حاضرة في الذاكرة، وأيضاً إهمالها الاعتراضات الإسرائيلية على صفقات أسلحة متطورة عقدتها مع بعض الدول العربية، وما حدث عام 1992 حين رفض جورج بوش، الأب، إعطاء إسرائيل ضمانات القروض إلا بعد إذعانها لاشتراطاته السياسية وما ترتب على ذلك من خلخلة في التركيبة السياسية داخل إسرائيل وانعكاسات على نتائج انتخابات الكنيست التي تلت ذلك. لكن وحدة المصالح لاتعني تطابقها، ووحدة الأهداف لم تمنع في غير محطة حضور سيناريو إسرائيلي خاص ونكهة صهيونية متميزة في طرائق وأشكال التنفيذ، خاصة على الصعيد الفلسطيني، شريطة عدم المساس بالمصالح الأميركية وأسباب استقرارها. وبالتالي يجانب الحقيقة من يبالغ في قدرة شارون، أو غيره من قادة إسرائيل، بأنه يسرح ويمرح على هواه ويمارس سياسات يمكن أن تنعكس سلباً على سلامة الخط الأميركي العام. فأي عارف بحقيقة الحجم الهائل من المساعدات الأميركية الاقتصادية والعسكرية لإسرائيل لا يحتاج إلى كبير عناء كي يستنتج مدى تبعية الكيان الصهيوني للولايات المتحدة والتحاقه بها التحاق الحاجة إلى الاستمرار، بل الحياة، وتالياً صعوبة أن تغرد الحكومات الإسرائيلية مهما اختلف لون تطرفها خارج السرب الأميركي، أو تتجرأ على اتخاذ مسارات لا تتفق مع مصالح المانح والشريك الأكبر، فكيف أن تكون صانعة قرارات ومشاريع أميركية؟ طبعاً لا يقلل ما سبق من أهمية اللوبي الصهيوني وقدرته في لحظات معينة، على التأثير في السياسات الأميركية الشرق أوسطية وتوسيع زاوية انحيازها لمصلحة إسرائيل. فالحق يقال، إن اليهود أكثر الأقليات الأميركية تنظيماً، على صعيد المؤسسات والعمل الجماعي الملموس، ويعدون بمعايير الفعل والنفوذ، جماعة ذات تأثير على القرارات السياسية الأميركية المتعلقة بالمنطقة، لما يملكونه من مصادر للقوة الاقتصادية، ومن شبكة تنظيمية واسعة وبالغة الكفاءة، سياسياً وإعلامياً، ومن علاقات وطيدة مع النخبة السياسية الأميركية التي تتحسب من امكاناتهم في توجيه بعض الرأي العام الأميركي خلال عملية تجديد مناصبها، وبالفعل تمكن اللوبي الصهيوني في كثير من المحطات من تعزيز دعم واشنطن لإسرائيل، واستجر المزيد من المساعدات العسكرية والمعونات المادية تعويضاً لها عما سمي تنازلاً للشروط الأميركية. وإذا كان من المفهوم في ظروف الحرب الباردة تضخيم الدور الإسرائيلي في المنطقة، حين كانت السياسة الأميركية تعتمد أساساً على الحلفاء والوسطاء المحليين في مواجهة المد الشيوعي وضمان استقرار المصالح الغربية، فمن غير المفسّر أن تستمر هذه المبالغة وقد دخلت سياسة واشنطن بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وهجمات 11 أيلول سبتمبر 2001 طوراً جديداً، جوهره الحد من دور الوكلاء المحليين وحضور فعل التعاطي المباشر مع الأزمات الإقليمية وملاحقة تفاصيل تطورها مركزياً. وتكللت هذه السياسة باحتلال أفغانستانوالعراق على التوالي، وبإصرار لافت على التفرد في قيادة "استراتيجية مواجهة الإرهاب" والحرب على الأصولية الإسلامية. ومن هنا يصح القول، وأياً تكن الأهمية التي كسبتها إسرائيل إبان الحرب الباردة، بأن ثمة تراجعاً ملموساً أو انحساراً نسبياً في الحاجة إلى ما يعرف بدورها التاريخي في المنطقة ولعل أحد دلائل هذه الحقيقة إصرار واشنطن على تحييد إسرائيل في حربيها على العراق وإبقائها "رسمياً" خارج هاتين المعمعتين. وثمة عنصر آخر ذو قيمة متميزة في جديد السياسة الأميركية يمكن وصفه بالعمل على بناء علاقات سيطرة "بعيدة المدى" على بلدان المنطقة من خلال تغيير البنى المجتمعية ككل وتجاوز ما درجت عليه العادة من تدابير سياسية ظرفية أو تفاهمات مؤقتة مع الحكام أياً كان نوعهم، وأياً كان شكل الحكم القائم ونمط المجتمع الذي يحكم. هذا الجديد يقف على مسافة واضحة من السياسات الإسرائيلية التي لا تزال تجد عمق مصالحها في بقاء المنطقة منهكة اقتصادياً ومتخلفة اجتماعياً، تلتهمها النزاعات الأهلية ويحطم الاستبداد والاضطهاد إنسانها، ربما خشية أن يفضي تحرير إنسانها وتنميتها إلى انفلات قوى شعبية وسياسية قد تعمّق المأزق الوجودي الصهيوني، ليظهر مشروع شمعون بيريز عن الشرق الأوسط الجديد أشبه بصرخة في وادٍ. فالتدابير الفوقية القديمة التي تترك الأوضاع عرضة للقلاقل والانتكاس باتت غير ناجعة اليوم، ما شجع قادة البيت الأبيض على اعتماد سياسة من نوع آخر تتطلع إلى بناء مجتمعات تستند إلى علاقات مؤسساتية ونمط حياة يقترب من النموذج الليبرالي الأميركي ومعاييره، بما يضمن أوضاعاً أقل قابلية للارتداد والارتكاس، أو أكثر استقراراً في مواجهة القوى العالمية المنافسة من جهة، وتساعد، من جهة أخرى، على إنجاح الحملة المحمومة ضد الإرهاب والأصولية الإسلامية وفق اعتبار يقول إن بعض الديموقراطية هو واحد من المناخات المساعدة على تجفيف منابع الإرهاب وسحب البساط من تحت أقدام قوى التطرف، وأن تنمية المنطقة اقتصادياً وتعليمياً ودعم مستوى من الحريات السياسية والحقوق الإنسانية فيها يمكن أن يخفف إلى حد كبير من عداء المجتمعات العربية لأميركا ونمو ردود أفعال حادة وعنيفة ضدها. ومن هذه القناة يمكن النظر إلى تواتر المشاريع الأميركية لإصلاح النظم والمجتمعات العربية على أن لا تخل بواقعة تفوق الكيان الصهيوني وتثابر على تقليم أظافر بعض الأنظمة العربية والإسلامية بإكراهها على تخفيض حجم ترساناتها العسكرية وإرهاقها بمتابعات حثيثة لأية إشارة، مهما بدت صغيرة، تدل على محاولة تصنيع أو امتلاك بعض أسلحة الدمار الشامل. فجديد السياسة الأميركية وخاصة في ما يتعلق بحضورها المباشر أو بمشاريعها الإصلاحية، لم ترسمه الرغبة الإسرائيلية أو سيطرة اللوبي الصهيوني على صناع القرار في واشنطن، بل هو نتيجة طبيعية لما صارت إليه الولاياتالمتحدة من قوة عسكرية واقتصادية يتعاظم وزنها ودورها وتالياً حاجتها إلى استطالات تشبهها في البنية والصورة، تعزز سيطرتها على العالم ومقومات هذه السيطرة. وهذا انما يدل على عمق حضور هذا الجديد وديمومته من حيث الجوهر ليتجاوز إرادة رئيس ما أو إدارة بعينها، ويسقط الرهان على "نتائج ذات مغزى" في التمييز بين صقور وحمائم، محافظين أو غير محافظين، أو توقع حصول تغير نوعي في الاتجاهات الرئيسة للسياسة الأميركية في حال فك الارتباط بين ثلة المحافظين الجدد واليمين الصهيوني، أو لو هزم بوش وانتصر كيري، لأن هذا الرهان يغيّب عن قصد أو دون قصد حقيقة تطور مصالح النخب المالية الأميركية وتشابكها ومدى النضج الذي وصلت إليه. فضمان استقرار مصالحها وتطوير سياسات تحمي هذه المصالح وتنمّيها هو الخط الرئيس لأي إدارة أميركية، والحضور المباشر المقترن بالقوة العسكرية والاقتصادية وبخطط واسعة لإعادة صياغة الأنظمة والمجتمعات العربية هو ما يمكن أن توصف به سياسات البيت الأبيض اليوم. وما نعيشه من أحداث أو نشهده من تطورات ليس إرادة إسرائيلية تنفذها أيادٍ أميركية بل واقع جديد فرضه مستوى متميز من تطور المصالح عالمياً، لكنْ صنعته أساساً أطماع الفاسدين ومناخات الاستبداد ورعته توازنات قوى لم نسع بإنساننا الحر إلى تعديلها أو تغييرها.