تحكي رواية "عكا والملوك" للكاتب الفلسطيني أحمد رفيق عوض عن لحظة الهزيمة المرّة واللاذعة، عندما اتحد الغرب كله أمام صلاح الدين وحاصروه في عكا، وخلال مدة الحصار التي دامت سنتين، وتخللتهما المواجهات والمفاوضات والعلاقات السلمية والمقارنات الحضارية والأوهام والعقائد وأنماط الحياة المختلفة. نسجت الرواية عالماً آخر غير ذلك الذي تمت الاستنامة إليه، بمعنى أن الحروب الصليبية التي اختصرت أسبابها بالحميّة الدينية والمصالح الدنيوية، تتحول في هذه الرواية إلى نوع من الخلاص الشخصي لأبطال تلك الحروب، أو، لنقل، إلى نوع من الجنون والهوس الشخصي، ذلك أن الحرب بحاجة إلى هوسٍ من نوع ما، هذا الهوس الذي يبحث عن مبرراته من خلال الثقافة والبيئة واللحظة التاريخية. رواية "عكا والملوك"، ذهبت إلى مناقشة ذلك الوهم أو الهوس الذي يدفع إلى صناعة التاريخ، وهو الوهم ذاته الذي يحدد الفروق بين الناس والحضارات. ولهذا، فإن الروائي أحمد رفيق عوض وبجرأة عالية وثقة أكيدة، تناول شخوص روايته من مناطقها المعتمة والنائية والعصية والقصيّة، مستخرجاً آراءها، وعارضاً أفكارها أمام الشمس والريح من دون خوف أو وجل، وهو بهذا يناقش الفارق بين الشرق والغرب من دون السقوط في الفخ الذكي والجذاب الذي صنعه المستشرقون لصورة الشرق وصورة الغرب، أو حتى لصورة تلك الحروب التي سماها أولئك المستشرقون "الحروب الصليبية". ولأن الروائي مسكون بفكرة الأوهام التي تصنع التاريخ، فإنه يضطر إلى الاستماع وتسجيل الرؤية الأخرى أو الرواية الأخرى، فالحقائق قليلة والأوهام هي التي تجمّل الحياة أو تجعلها مقبولة، ولهذا، نرى الروائي مدفوعاً إلى أن يقدم عالماً روائياً غير ثابت ولا مستقر، فالنص الذي يكتبه أحمد رفيق عوض نص مستفز ومحرض، بمعنى أن القارئ مضطر إلى أن يناقش النص على رغم استسلامه لجمالياته الأسلوبية أو اللغوية. وعلى عكس روائيين آخرين، فإن الروائي أحمد رفيق عوض لا يبحث عن المشترك بين الحضارات، بقدر ما يبحث عن المختلف ومواجهته والجدل معه، فرواية عكا والملوك التي نحن في صددها لا تتعرض لمساءلة الحروب الصليبية أخلاقياً أو دينياً، بقدر وصفها كأحد الفواصل التاريخية التي لا تعني الخير أو الشر، التاريخ بلا قيم، والخير والشر مرهونان بطبيعة الظرف ونوع القضاة وجمهور المحلفين. الرواية تحكي عن الاختلاف، وميزة الروائي والرواية هنا أن ذلك عُرض في شكل متساوٍ ومتوازن على رغم ما يبدو على الروائي من مسحةٍ مُحافِظةٍ، وربما ميل إلى تصوير "الآخر" في شكل فيه كاريكاتورية ما. الروائي أحمد رفيق عوض الذي حاول أن يفصّل في هذه الرواية الفروق ونوعية أو كيفية الاختلاف بين الشرق والغرب، اكتشف أنه يكتب عن عصرٍ تاريخي استخدم فيه مفهوم الله في شكل مفزع ورهيب، وكأني به يكتب عن لحظتنا الراهنة، حيث يستخدم مفهوم الله في شكل دفع بالكرة الأرضية كلها إلى الجنون. إن هجوم الغرب على الشرق أو غزو الشرق للغرب لا بد من أن يقف وراءه وهم كبير أو عقيدة صاعقة، وفي هذه المنطقة أقام الروائي أحمد رفيق عوض روايته، فكتب عن أناس يضطرمون بالحميّة والحمى، والفراديس الإلهية والأرضية. وعلى رغم ذلك، فإن الروائي في هذه الرواية بالذات كان قاسياً جداً في رصد لحظة الهزيمة والخراب، ويمكن القول هنا إن هذا الروائي بالذات منشغل بتصوير لحظات الهزيمة والفساد في معظم رواياته إن لم تكن كلها. يمكن القول إنه متخصص بذلك تماماً، وفي هذه الرواية بالذات، كان قاسياً جداً في إضاءة المفاصل التالفة والأجزاء المعطوبة من التشكيل الاجتماعي والإثني في الدولة التي أنشأها صلاح الدين من جهة، والخلفية الثقافية والسياسية والاقتصادية للمجتمع الإسلامي في تلك الفترة. الشرق ليس شرقاً واحداً، والغرب ليس غرباً واحداً، ورواية واحدة للتاريخ لا تكفي، حتى الحقيقة وحدها لا تكفي، وهكذا، فإن الرواية تقدم تصوراتنا وأخيلتنا وانحيازاتنا كبديل عن الحقيقة، وعليه فإن الروائي يقدم صلاح الدين من زوايا متعددة قد تثير البعض وقد تعجب البعض الآخر، وقدم ريتشارد قلب الأسد بصورة لم يسبق للقراء هنا أن عرفوها عن هذا الملك. الروائي أحمد رفيق عوض وفي هذه الرواية كتب بجرأة عالية جداً، من خلال أسلوب سردي متعدد المستويات والطبقات، مقدماً لنا صورة مختلفة عما تعودنا عليه للحروب التي سميت غربياً بالحروب الصليبية، فرأينا شخوصاً مثلنا، لا معلقين في الهواء، ولا هم قادمون من الأساطير، مجرد أشخاص مثلنا، خيّرين وأشرار، يصنعون التاريخ الذي نكتوي بناره الآن.