قبل سنوات عدة من بلوغ شهرته مستوى عالمياً خلال الفترة السابقة ثم اللاحقة لصدور روايته «التاريخية» الأولى، «ليون الأفريقي»، وتتويج إبداعه في ذلك الحين بنيله أهم جائزة أدبية فرنسية «الغونكور» عن «صخرة طانيوس»، كان الكاتب اللبناني باللغة الفرنسية أمين معلوف قد أصدر كتاباً مؤسساً عنوانه «الحروب الصليبية كما رآها العرب». هذا الكتاب لم يحظ بالشهرة والنجاح فور صدوره، حتى وإن لفت كثيراً من الأنظار، بل كان عليه أن ينتظر بدء ظهور أمين معلوف على الساحة الثقافية الفرنسية والعالمية، كي تطاوله الشهرة التي يستحقها ويصبح من الكلاسيكيات التي تنشر وتنتشر، وتطبع وتترجم. ولعل في إمكاننا أن نقول إن سبب ذلك التأخر واضح: فالكتاب كتاب تاريخ في المقام الأول، ومؤلفه حين كتبه - ولو بلغة روائية جزلة، كما سنرى - لم يكن، بعد، قد وصل الى تحديد أسلوب كتابته الروائي، والروائي بامتياز حتى وإن ظل في معظم أعماله ينطلق من أحداث تاريخية حقيقية. وإن ما يجمع بين كتاب معلوف الذي نحن في صدده هنا، وكتبه اللاحقة، هو التاريخ طبعاً، لكن التاريخ كان في «الحروب الصليبية...» علماً لا إبداعاً روائياً. ونعرف أن الكتابة التاريخية لا تتمتع بمشهورية وانتشارية الأدب الإبداعي. ومع هذا لا بد من أن نشير فوراً هنا الى أن كل كتب معلوف الروائية التالية، إنما تدين بوجودها ونجاحها وجاذبيتها، الى ذلك الكتاب المؤسس. بل لا بد من أن نشير كذلك، الى أن هذا الكتاب، إذ قرئ لاحقاً على نطاق واسع، اكتشف بسرعة من قبل الذين قرأوه أنه لا يقل جاذبية وإمتاعاً من الروائيات... الى حد يمكن التعامل معه بأنه «كتاب الحروب الصليبية» وتحديداً من وجهة نظر عربية. والحقيقة أن هذا البعد - كونه وجهة نظر عربية - يشكل العنصر الأساس في هذا الكتاب، ذلك أننا نعرف أنه طوال القرون التي تلت الحروب الصليبية، ظلت هذه الحروب تروى الى العالم كله من وجهة نظر الغرب الأوروبي الذي قام بها، بصرف النظر عما كان يمكن أن تقوله عنها، تلك الشعوب العربية والإسلامية والمشرقية التي تحملت ربقها وعذاباتها مئات السنين. وحتى بعض الدراسات المنصفة (ومنها كتاب «الاعتبار» لأسامة بن منقذ والذي عرفته أوروبا باكراً، لم يعرف إلا بكونه كتاباً منصفاً في حق الصليبيين إنصاف حكاية صلاح الدين وقلب الأسد)، ولم تلق من الانتشار ما يناقض الصورة السائدة في الغرب عن «حروب قامت لخدمة الدين واستعادت، ولو لفترة، أراضي مقدسة، كانت وقعت تحت هيمنة غزاة برابرة...». ومن هنا أهمية المشروع الذي أخذه أمين معلوف على عاتقه، هو الذي - منذ كان صحافياً في اللغة العربية ثم الفرنسية - كان شاغله وهمّه صعوبة وتاريخ وآفاق العلاقة بين الشرق والغرب. ومن هنا، حين قرر أن يكتب «الحروب الصليبية كما رآها العرب»، إنما كان يؤسس لمشروع كتاب ينطلق من ذلك الهم، ونعرف طبعاً أن العدد الأكبر من كتبه التالية، سواء كانت روائية أم تاريخية أم فكرية، انطلق كذلك من هذا الهم. ... وبعد هذا، ما هو «الحروب الصليبية كما رآها العرب»؟ الجواب بسيط وموجود في العنوان نفسه. فإذا كانت أوروبا قد كتبت كثيراً حول تلك الحروب، سيكتب معلوف بدوره، ولكن بالاستناد الى عدد لا بأس به من كتب المؤرخين المسلمين والعرب الذين تناولوا تلك الحروب، في نصوص طويلة أو قصيرة لهم. وهنا، في هذا السياق، لا بد من جملة اعتراضية: ان المؤرخين والمهتمين بالاستشراق يعرفون، طبعاً، أن المستشرق الإيطالي غابرييلي قد وضع، قبل معلوف بعقود من السنين كتاباً يحمل الموضوع نفسه: اختار عدداً من كتب المؤرخين العرب ليترجم فصولاً منها كتبها أولئك حول الحروب الصليبية، ثم يجمعها وينشرها في كتاب واحد، من دون أية تعليقات أو توضحات كافية، وحتى من دون أن يصدر حكماً سلبياً أو إيجابياً، على تصديقه أو عدم تصديقه لها. ومن هنا أتى الكتاب عملاً جافاً يتسم بحيادية باردة. ومن هنا قد تكفي مقارنة بين ما قام به غابرييلي، وما فعله أمين معلوف، بعد قرون، لإدراك أهمية كتاب هذا الأخير، وعدم حياديته، وكيف أنه وانطلاقاً ربما من النصوص نفسها التي اختارها غابرييلي، تمكن من أن يبعث حياة كاملة في ذلك التاريخ الذي يرويه. والسر هنا في الأسلوب أكثر مما هو في الموقف. فأسلوب أمين معلوف في حكاية أحداث التاريخ هو الأساس... حيث أنه في هذا الكتاب الذي كان يمكن أن يكون نصاً علمياً تاريخياً خالصاً، حوّل الأحداث التاريخية، والتي يتحمل تفسيرها الكثير من وجهات النظر والاستنتاج، حوّلها الى روايات تحكى وكأن الكاتب كان هناك وكأننا نحن بدورنا، معشر القراء، كنا معه نرصد الأحداث تبعاً لخطواته بينها، نتعقب خطواته، نحدق في نظراته. لنعرف، كيف ننظر الى ما حدث. وهكذا، في لغة فرنسية بسيطة - والكتاب كما قلنا كتب في الفرنسية أولاً -، وفي فقرات وجمل قصيرة أحياناً بحيث تكفي ثلاث كلمات لقول فصل كامل من التاريخ، وفقرات طويلة أحياناً بحيث تصلح كل منها لتكون أساس رواية (راجع مثلاً، الصفحات التي تتكلم عن نور الدين زنكي، وتلك التي تروي حكايات صلاح الدين أو أسامة بن منقذ... الخ)، يسير الكتاب بين أدغال التاريخ، ناسباً أحداثه - على أية حال - الى المؤرخين، مقارناً بين نظرة هذا أو ذاك منهم، كي يطلع في نهاية الأمر ينص أساسي، من النوع الذي لا يكون السؤال المتعلق به: كيف كتب؟ بل: كيف لم يكتب قبل الآن؟ وانطلاقاً من هذا النص القوي كان من الطبيعي للناشر، أن يصف الكتاب حين صدر في طبعته الأولى بأنه «دروس في التاريخ ولكن... يا لها من دروس!»... محدداً أن الفرسان الفرنجة الذين انطلقوا في حملاتهم الصليبية، انطلقوا في مشروعهم ذاك من نيات طيبة، حاملين صلبانهم والكلام الإلهي الى الشرق. ولكن الشرق كان بالنسبة إليهم الأرض الموعودة أي، في شكل محدد أرض التوابل والذهب والأقمشة الحريرية... الأرض التي يمكن نهبها وإحراقها واغتصابها. وهم بالفعل نهبوا الأرض واغتصبوا النساء وذبحوا الرجال وشردوا الأطفال... وكل ذلك باسم المسيحية. غير أن أولئك الهمجيين (بدلاً من أن يجدوا مناطق خالية تنتظر وصولهم كما كانوا يعتقدون)، وجدوا فرسان الإسلام يقاتلونهم بوحشية وضراوة، كما وجدوا في تلك المناطق من العالم، واحدة من الحضارات الأكثر تقدماً في العالم، الى جانب صراعات ومنافسات محلية قاتلة «عرفوا كيف يستفيدون منها ويسخّرونها لمصلحتهم... في القدس كما في دمشق وبيروت، تلك المدن المقدسة والملعونة والشهيرة، التي عرفت مع وصولهم جهنماتها». ويختتم الناشر قائلاً: «أيها الدين كم من الجرائم ارتكبت باسمك!!». وللحديث عن هذا كله، في الشكل الرائع الذي جعل كتابه، في هذا السياق، مرجعاً يغني عن كثير من المراجع، قسم أمين معلوف النص الى ستة أقسام تناول في كل قسم منها حقبة تاريخية تتفاوت طولاً بين سنوات قليلة (4 سنوات مثلاً في القسم الأول «الغزو») أو كثيرة (28 سنة ل «الاحتلال» و18 سنة ل «الردّ»، و41 ل «الانتصار» و57 ل «الهدنة» وأخيراً 67 سنة للفصل الأخير «الطرد»)... ما يجعلنا، على مدى 300 صفحة نتجابه مع حكاية تاريخ يمتد على مسافة زمنية تفوق الثلاثة قرون... لكنها القرون التي لا شك قد أسست لقرون طويلة مقبلة من تاريخ البشرية، ولكن في شكل أكثر خصوصية، لتاريخ تلك العلاقة الصعبة والغامضة بين الشرق والغرب. العلاقة نفسها التي ستكون، وبنسب متفاوتة، في خلفية الأدب الكبير، الذي أبدعه أمين معلوف، ذلك المبدع اللبناني الذي ولد عام 1949، وانتقل عام 1976، ليستقر في فرنسا وصار واحداً من كبار كتّابها من دون أن يتخلى لحظة عن انتمائه اللبناني والعربي، وعن جعل شرقه الغامض وتاريخه ميداناً لتجارب كتابية متنوعة وشيقة تراوحت بين النص الروائي (لا سيما في «سمرقند» و «ليون الأفريقي» و «سلالم المشرق» و «صخرة طانيوس»...) والبيان الفكري («الهويات القاتلة») وأدب البحث عن الجذور («جذور») وحتى الكتابة الأوبرالية. [email protected]