يستعيد المؤرخ نقولا زيادة هنا ذكريات طفولته في مدينة جنين، بعد ان قرأ في "آفاق" مقالاً عن هذه المدينة. ما يتذكره نقولا زيادة يشبه وثيقة تاريخية ونصاً خاصاً يبحث عن زمن ضائع وأمكنة مفقودة: المقال الذي نشرته "الحياة" في "آفاق" 15 أيار/ مايو 2002 أثار في نفسي ذكريات عن جنين، لكنها تعود الى العقدين الثاني والثالث من القرن الماضي. فقد أقمت مع أمي وأخوي ألفرد وجورج في جنين من سنة 1917 الى سنة 1923. صحيح انني كنت في السنتين الأخيرتين تلميذاً في دار المعلمين، لكنني قضيت صيفيهما في جنين. كانت جنين يومها بلدة يبلغ عدد سكانها نحو أربعة آلاف نسمة، لكنها كانت مركز قائمقامية لقضاء تبلغ قراه الستين عدداً. في أول سنتين لم تكن في جنين مدرسة أذهب اليها، وكنت في العاشرة من سني. ذلك ان مبنى المدرسة الرسمية أيام الإدارة التركية كان بعيداً من وسط البلدة قليلاً، لذلك اختارته القوة الألمانية الجوية، التي كانت تتمركز الى الشمال من البلدة، منزلاً لصف الضباط فيها. فأقفلت المدرسة. كنت أنا وأترابي نقضي أوقاتنا في الأزقة أو في الأماكن المحيطة بالبلدة - عين نيني، وهي أول مصدر لمياه نهر المُقَطّع الذي كان يصب في البحر المتوسط الى الشمال من حيفا" بساتين جنين الغنية جداً بالفواكه، خصوصاً عند أولاد كان آباؤهم يملكون بساتين هناك" وعلى البيادر بعد جمع الحبوب، فنساعد في الأعمال التي يسمح لنا بها" وفي الحقول الواقعة الى الشمال والشمال الشرقي من البلدة - هناك كنا نجمع الفطر أيام وجوده، ونلتقط التين عن أشجاره، حلالاً أو حراماً" وقد نصطاد الحنكليس من مجرى عين نيني جنوب البلدة" وكانت ثمة بركة في بساتين جنين للري كان الشبان يسبحون فيها فنشاهدهم. أما في بعض الأماسي - خصوصاً في الصيف وفي أيام القمر الجميلة - كنا نتقاتل أولاد الحارة الغربية مع أولاد الحارة الشرقية وبالحجارة. كنا نجمع الحجارة في العصر في مكان يختلف دوماً في اليوم الواحد عن اليوم الآخر ونستعملها في القتال ليلاً. وقد يصاب البعض اصابات مدمية، لكنها لم تكن قتالة، فنحن صغار ومن ثم فإن قوة الحجر لم تكن مؤذية الى هذا الحد. بعد الاحتلال البريطاني لشمال فلسطين في أيلول سبتمبر 1918 بفترة وجيزة وخروج صف الضباط الألمان من مبنى المدرسة استعمل المبنى لإيواء صف ضباط بريطانيين. لكن الأمر لم يطل، وفي شتاء 1918 - 1919 خرج هؤلاء منها وفتحت المدرسة أبوابها. كان الطلاب من اعمار مختلفة. ففي الصف الذي كنت أنا فيه، وكنت في الثانية عشرة، طلاب في سن السادسة عشرة. وفي السنة التالية انضم الى المدرسة تلاميذ من القرى. ولم يكن معلمونا أقل خلطاً منا. تولى ادارة المدرسة في السنة الأولى جاد خوري من مقيبلة الى الشمال من جنين. وجاء بعده موريس خباز، من حمص وقد تركت المدرسة في صيف 1921 للدخول الى دار المعلمين وكان بعد مديراً لها - لكنني اجتمعت به فيما بعد في طبريا وفي بيت لحم، حيث ادار المدرستين هناك. أما المعلمون الذين اذكرهم وأذكر أسماءهم فهم على غير ترتيب معين: معروف السعيد وسليم عزوقة ومصطفى السعيد من جنين أو من قراها وسليم الجاعوني ومحمد الجاعوني وجراسيموس خوري الاثنان الأولان من القدس قطعاً ولا أذكر إن كان الثالث من القدس أصلاً، لكنه كان قد قضى مدة في مصر. لكن المعلم الذي كان له أثر في نفسي هو الشيخ سعيد مرعي. كنا نعرف الشيخ سعيد، الرجل الجليل ذا الوجه الأحمر، المملوء نشاطاً لأنه كان إمام الجامع الكبير في البلدة. كان صوته في قراءة القرآن في المسجد وكنا نتسرب الى أطراف المسجد لنسمعه يجوّد القرآن الكريم فنطرب وعند الأذان، خصوصاً عند أذان الفجر، إذ كانت شبابيك البلدة جميعها تفتح كي يصل اليها صوت الشيخ سعيد. جاء الشيخ سعيد معلماً للدين واللغة العربية في المدرسة. لم أحضر دروسه في العربية، ولكنني حضرت دروسه في الدين. وهناك تعلمت المبادئ الأولى عن الإسلام عبادة وعقيدة بقدر ما يعطى لنا وحفظت على يديه الكثير من السور القصيرة وآيات كثيرة كان هو يختارها للتفسير. وكان عندنا معلم نعرفه باسم "زكي بك". كان هذا مديراً للمدرسة أيام الحكم التركي. وكان يقول دائماً انه تعلم في اسطنبول. كان يعلمنا الخط - كان خطه ممتازاً جداً - وكان يعلمنا مبادئ الهندسة. أفدت منه في الأول، ولكنني لم أفهم من الثاني الكثير! كانت جنيني تختلف عن جنين فخري صالح. كانت أصغر مدى وأقل سكاناً، ولكن لأنها تتوسط منطقة زراعية غنية ولأن فرع سكة حديد الحجاز كان قد مد اليها من العفولة ثم الى نابلس وطولكرم، فقد كانت ترتبط به بحيفا ونابلس وطولكرم. وكانت تمر بها طريق عربات - على قد الحال - آتية من القدس ونابلس من الجنوب ومتجهة الى الناصرة شمالاً. فهي تبعد من نابلس 45 كيلومتراً ومن الناصرة 20 كيلومتراً. في السنوات الأخيرة من الحرب العالمية الأولى عزت أشياء كثيرة من المؤن ولوازم المنازل. فنحن مثلاً مر علينا وقت، لا أذكر طوله، كنا نشعل السراج الزيتي القديم إذ لم يكن في البلدة كاز. بعد الاحتلال كانت تنكات الكاز تصل الى السوق، لكن نحن والكثيرين من درجتنا في الفقر أو الثروة، كنا نبتاع الكاز من الدكان بالقنينة. أذكر بيت الحاج قاسم عبدالهادي الأنيق وحديقته الجميلة. هذا البيت عرفت أجزاءه المختلفة. ذلك ان جمال، ابن الحاج قاسم الأصغر، كان معي في صف واحد. ولست أذكر كيف بدأت عنايتي بجمع طوابع البريد في ذلك الوقت المبكر. لكنني عرفت أيضاً ان جمال كان مولعاً بذلك. فكنا نقابل ما عندنا ونتبادل الفضلات. بعد نحو خمسين متراً كان ثمة شارع لا أستطيع ان استعمل سوى هذه الكلمة لأنه كان مرصوفاً يتجه شرقاً ويمر بمنزل كان يملكه عفيف عبدالهادي. استعمل المنزل وحديقته الخلفية مستشفى عسكرياً المانياً، لكن عفيف عبدالهادي اشترط على ان يحتفظ بحقه بالعناية بحديقته الامامية - وكانت حديقة ورد. بعد مجيء الانكليز استأجر الجيش البريطاني المنزل ليسكنه الميجر الماجور مكلرن الذي كان الحاكم العسكري لقضاء جنين. لما انشئت الإدارة المدنية في فلسطين في تموز/ يوليو 1920، ظل الرجل حاكماً، لكنه خلع البزة العسكرية وارتدى البدلة المدنية، وأصبح اسمه رسمياً مستر مكلرن. بعد هذا المبنى، وعلى تلة لطيفة كان يقع مبنى المدرسة التي قضيت فيها ثلاث سنوات، كنت فيها سعيداً بالمعلمين وأصدقائي من التلاميذ. عودة الى الشارع الرئيسي. كانت تقع على يسار السائر فيه محطة لضخ المياه الى المناطق المرتفعة من البلدة في الشرق والمستشفى الالماني. وفي وسط ساحة صغيرة كانت ثمة طريق تصل الى محطة سكة الحديد على يسار السائر، وفي وسط هذه الساحة الى اليمين كان يقوم بيت كبير لصاحبه نظمي عبدالهادي. لما سكنا جنين كان هذا المنزل يستعمل مستشفى حكومياً. بعد الاحتلال استعمل مركزاً لإدارة القضاء. وتركت جنين وهو على هذه الحال. لما بدأت بقراءة مقال فخري صالح، وهو يشير الى قريته قلت في نفسي ليته يذكر اسم قريته لعلني اعرفها. ولم يخب ظني. فقد أشار اليها متأخراً - اليامون. عندها ابتسمت لأنني زرتها أكثر من مرة. كان في المدرسة تلميذ من اليامون. كان أكبر مني سناً ولكنه دوني صفاً. كان طيب النفس والقلب. دعانا يوماً لزيارة "البلد"، على ما كان يشير القرويون الى قراهم. ذهبنا. كنا ثلاثة. استقبلنا الوالد بالترحاب وسر من زيارتنا للبلد". وتغدينا بيضاً مقلواً بالزيت. ليس في الأمر غرابة علي، فأنا لم أكن أكلت البيض المقلو إلا بالزيت، لكن الجديد عليّ كان ان يُقلى البيض في مقلاة صغيرة - أو على الأصح ما يشبه الصحن - من الفخار. لست أذكر اسم صديقي التلميذ، ولا اسم أبيه، ولكن من يدري يا فخري فلعله كان أحد أقارب أهلك.