نادراً ما تحظى السياسة الخارجية بمرتبة عليا في انتخابات الرئاسة الأميركية كما هي الآن. حرب الإرهاب وحرب العراق تجعلان من العرب والمسلمين فاعلاً ومفعولاً به أثناء الحملة الانتخابية والمنافسة الضارة المتوقعة هذا الخريف. هاتان الحربان تحتلان صدارة الاهتمام بالسياسة الخارجية، وكلاهما معطوف أيضاً على هوية الدولة العظمى الوحيدة وعلاقاتها بالحلفاء والأعداء. إيران، أثناء أزمة الرهائن الأميركية خريف عام 1979 خلعت الرئيس الديموقراطي جيمي كارتر من البيت الأبيض وقدمت إلى الجمهوري رونالد ريغان هدية اطلاق سراح الرهائن يوم الاحتفال بتنصيبه رئيساً. العراق قد يساهم في خلع الرئيس الجمهوري جورج دبليو بوش، والإرهاب قد ينقذه ويبقيه في المنصب إذا حصلت عملية وقع في الأراضي الأميركية. ولأن رئيس الوزراء الإسرائيلي ارييل شارون تمكّن من تقليص الفلسطينيين إلى"إرهابيين"في قاموس الإدارة الحالية، في أياديه مفاتيح إضافية أثناء المعركة الانتخابية الأميركية. وأهم ما يريده هو الاحتفاظ بتصنيف الفلسطينيين"إرهابيين"وتعزيز علاقة التحالف الأميركية - الإسرائيلية في"الحرب على الإرهاب". الانتخابات الرئاسية في شهر تشرين الثاني نوفمبر المقبل ستكون استفتاء على عقيدة جورج دبليو بوش والحروب الانفرادية والاستباقية. الأشهر القليلة من الآن حتى الانتخابات تشكل فرصة للتثقيف ولإبراز القضايا ولتصحيح الأخطاء ولقطع الطريق على التطرف لئلا يبدو هو المتحدث باسم المنطقة العربية. فهذه المرة هناك ناخب"أجنبي"غير الفرد الأميركي المتوجه إلى اقتراع قد يعتمد مصيره أيضاً على نتيجة الانتخابات الرئاسية الأميركية. مع إعلان المرشح الديموقراطي المفترض للرئاسة، السناتور جون كيري، اختاره السناتور جون ادواردز نائباً للرئيس، تنطلق المعركة على البيت الأبيض نحو شهور صعبة، خصوصاً أن شراسة المعركة لن تخلو من"قذارة"تأتي معها. نادراً ما تقع المعركة من أجل البيت الأبيض بين المرشحَين لمنصب نائب الرئيس، كما هي الآن، والسبب هو نائب الرئيس الجمهوري ديك تشيني الذي يُلام على"تلقين"بوش عقائدية الحروب الاستباقية والانفرادية في خوضها، ويُتهم بعلاقات ازدواجية مع شركات كبرى مثل"هاليبيرتون". أصبح تشيني عند المعارضين لبوش"رأس الأفعى"وأصبح لدى الجمهوريين المستائين من تسلط الصقور على بوش عالة على الحزب الجمهوري. وهو في اعتبار الديموقراطيين وبعض المستقلين أسهل حلقات التشكيك في صدقية الإدارة الأميركية وتوجهاتها وايديولوجيتها. جون ادواردز، على رغم تجربته المحدودة في ميدان السياسية الخارجية مقارنة مع ديك تشيني، يتشوق إلى مقارعة مع تشيني بسبب الحرب على العراق. هناك مسائل عدة أخرى ذات أهمية بالغة بالطبع، إنما في العراق توجد مقومات تحدي ايديولوجية الانفرادية، واساءة الحسابات، وارتكاب الأخطاء الفادحة وازدواجية المصالح. الجمهوريون بدأوا الحملة ضد ادواردز باعتباره يافع التجربة وغير متمكن من السياسة الخارجية. ولأن ادواردز الآن نائب الرئيس الديموقراطي المرشح، سيزداد التدقيق في خلفيته وقد تُكشف أسرار غير معروفة عنه بعد. لذلك، فمن المبكّر الاستنتاج القاطع بأنه نجح في الامتحان الصعب الذي يتعرض له كل مرشح على رغم خوضه المعركة المبكرة على الترشيح الديموقراطي للرئاسة قبل شهور. ما وجده كيري في ادواردز يشمل التعويض عما يفتقده كيري من حيوية تنشط الحملة الانتخابية ومن قرب للناس ودفء الشخصية. فأول ظهور مشترك للعائلتين بعد إعلان اختيار كيري لإدواردز لمنصب نائب الرئيس المرشح بدا كأنه يفتح صفحة جديدة من التواصل مع الناخب الأميركي مليئة بالأمل والتفاؤل باستعادة أميركا احترامها عالمياً. بدت العائلتان وكأنهما على وشك بدء نزهة مع الأطفال الصغار والشباب الكبار. ملامح جون ادواردز تشبه كثيراً ملامح عائلة كينيدي، ووقوفه مخاطباً أميركا مع كيري ويده على رأس ابنه الصغير جاك، أعاد إلى الذهن الرئيس السابق جون كينيدي. شخصيته محبوبة، ورسالته ايجابية، وذكاؤه معترف به من جانب الأكثرية ومَن يعرفه عن كثب. ديك تشيني أكثر خبرة بالتأكيد، وهو بدوره يُعترف له بالذكاء والحنكة. يُعرف عنه انه متعافٍ من مرض القلب، وهو متقدم بالسن، ويوصف بأنه عقائدي وبين أكثر الصقور تطرفاً. في الماضي، لم يكن المرشح لمنصب نائب الرئيس بالأهمية التي هو عليها اليوم. والسبب عائد إلى الخوف من الاغتيالات، وبالتالي التدقيق في الرجل الذي قد يصبح رئيساً غير منتخب لمنصب الرئاسة. السبب الآخر هو نسبة تأثير تشيني في رئاسة جورج دبليو بوش عقائدياً وعملياً لدرجة اعتباره رئيساً مشاركاً وليس فقط نائب رئيس. جون كيري، بعد إعلانه اختيار ادواردز للمنصب، قال عنه"إنه جاهز للمساعدة في قيادة أميركا"، وهو"يفهم ويدافع عن شجاعة أميركا"أميركا"المحترقة"،"أميركا"الأقوى". الفارق بين الحملتين، الجمهورية والديموقراطية، ليس في شعارات أميركا"الألطف"، فكلاهما يرفع شعار أميركا"الأقوى". الفارق يبدو في كيفية"احترام"أميركا، بالقوة والعمل الانفرادي أو بالعمل الدول المشترك والجماعي؟ المرشح السابق للرئاسة الأميركية، الديموقراطي غاري هارت، يصف الفارق بأنه"دراماتيكي". تحدث إلى"الحياة"معبراً عن آرائه الشخصية وليس باسم كيري. قال إن كيري"سيعيد أميركا إلى تقليد القرن العشرين باتخاذ مواقف عالمية حيث التركيز على التفاوض والعمل مع الحلفاء والتعاون". وزاد أن كيري"سيتخلى عن نمط الانفرادية إلا إذا تعلقت بالأمن القومي". حسب تقدير هارت، وهو من أذكى السياسيين الأميركيين وأكثرهم معرفة بالسياسة الخارجية وصدر له في الأيام القليلة الماضية كتاب"الاستراتيجية العظمى"عن"دار نشر جامعة اوكسفورد"، ان الحرب على الإرهاب في عهد جون كيري"ستكون لها ملامح حرب أفغانستان وليس حرب العراق". أي أن التدخل عسكرياً لن يكون طبقاً لعقيدة الاستباقية التي يعتمدها الرئيس الجمهوري، ولن يكون بلا دعم دولي كما حدث في العراق. الديموقراطيون يريدون"ورشة دولية"في كل من التدخل العسكري وإعادة البناء كما حدث ويحدث في أفغانستان. يريدون التشديد على أن الإرهاب خطر عالمي يهدد الأسرة الدولية وليس حرباً أميركياً تستبيح أراضي الآخرين لابعاد الخطر عن الأراضي الأميركية. وهم سيركزون على أن إلحاق الهزيمة بالارهاب غير ممكن عبر الانفرادية. الفارق"جذري"، حسب رأي غاري هارت، بين جون كيري وجورج بوش، عقائدياً وخبرة وشخصية،"وبوش عكس كيري تماماً". بعض ما يميزهما ان كيري"منفتح"على آراء الآخرين فيما بوش"متزمت ايديولوجياً وعنيد"، وأن كيري"مرتاح"مع الثقافة غير الأميركية، متزوج من تيريزا المهاجرة الى أميركا التي تتحدث خمس لغات، فيما بوش سبق وسافر مرات قليلة الى الخارج قبل دخوله البيت الأبيض ويبدو خارج سربه مع بقية العالم. انما حتى ولو كانت في ذهن كيري استراتيجية مضادة لاستراتيجية"العقيدة الاستباقية"وان عاد فعلاً الى التنسيق مع الحلفاء ونبذ الكراهية عن أميركا، لقد ورث حربين قد لا يتمكن من تغيير جذري فيهما. ما قد يكون مطمئناً، انما غير مضمون اطلاقاً، ان توجيه ضربة عسكرية لإيران أو لسورية أقل احتمالاً إذا فاز كيري بالرئاسة مما هي اذا بقي بوش متمسكاً بها. فالمحافظون الجدد والصقور المتطرفون يودون تلقين ايران وسورية دروساً عسكرية ويتمسكون بالحروب الاستباقية وحروب اطاحة الأنظمة. الديموقراطيون لا يعتنقون هذه الايديولوجية ولا يريدون المغامرة في حروب غير ضرورية. والتركيز هنا هو على"غير ضرورية"، بمعنى: ما لم تهدد الأمن القومي الأميركي. لذلك، لا يمكن استثناء ايران وسورية من أي احتمال اذا ما تبين تورطهما في دعم وتسهيل عبور المتطوعين الأجانب الى العراق لجعله مستنقعاً أميركياً. فأميركا اليوم تخوض حرب الارهاب الجديدة من نوعها. ولن يكون الرئيس كيري أقل عزماً من الرئيس بوش على الانتصار فيها، مع فارق تحويلها الى مشروع دولي وليس حرباً أميركية محضة. بالنسبة إلى العراق، في ذهن كيري العودة الى الأممالمتحدة، وطلب المعونة الدولية والشراكة الدولية في مشروعي الأمن واعادة البناء في العراق، مع العمل لإصلاح الضرر الذي اصاب العلاقة الأميركية بالحلفاء الأوروبيين. ما يسوقه هو ان استقرار العراق قضية دولية وليس قضية اميركية. وما يؤكده هو أنه لن يسارع الى انسحاب انفرادي من العراق. جورج دبليو بوش، في الأسابيع الأخيرة القليلة شن حملة تلطيف وتعديل لسياساته نحو العراق. بذلك سبق كيري الى حديث الشراكة واصلاح الضرر وتحويل العراق مشروعاً دولياً. لا يوجد أي سبب لافتراض تدفق القوات غير الأميركية للحلول مكان القوات الأميركية في العراق لمجرد ان كيري انتخب رئيساً ولا توجد لدى كيري استراتيجية مختلفة عن تلك التي سبقه اليها بوش، بما فيها تحديد موعد مرجو لانسحاب القوات الأميركية. قد يكون في مصلحة كيري التمييز بينه وبين بوش في ناحية مهمة القوات الاميركية في العراق. بوش يرتكب يومياً خطأ تكراره ان افغانستانوالعراق حربان خاضهما لمحاربة الاعداء الارهابيين خارج الأراضي الأميركية. في وسع كيري الايضاح ان مهمات القوات هي اعادة استتباب الاستقرار في العراق وصون الولاياتالمتحدة من مستنقع أميركي فيه. بإمكانه أن يقول إن إدارة بوش ورّطت أميركا وادارة كيري ستنقذ أميركا من الورطة. لن يتمكن كيري من الاعتراض التام على حرب العراق، فهو صوّت مع قرار الحرب في الكونغرس. يمكنه ابراز مساوئ تطرف الصقور والمحافظين الجدد والأخطاء التي ارتكبوها في العراق وابراز فشل"العقيدة الاستباقية"كنموذج ولأنه يسوّق حملته الآن على انها تفاؤلية بالمستقبل لأميركا أقوى ولاستعادة مكانة واحترام اميركا عالمياً، ما يتحداه في الاسابيع المقبلة هو سياسة واضحة متماسكة نحو العراق الذي بات أمراً رئيسياً في الانتخابات الرئاسية. عُرف عن كيري حتى الآن تردده حيناً وتراجعه أحياناً عن مواقف سبق وتبناها. بينها نحو النزاع الفلسطيني الاسرائيلي والجدار الفاصل. هذا الملف لن يكون بارزاً في الحملة الانتخابية سوى من ناحية تصنيف الفلسطينيين في خانة"الارهاب". ما قد يعد به كيري هو انه سيتبنى أسلوب الرئيس السابق بيل كلينتون في تنشيط البحث عن حل على مستوى الرئاسة في قيادة اميركية ناشطة. لن يدين اسرائيل علناً مهما فعلت، وإلا يكون يقضي على مستقبله. فإلى جانب الأصوات والأموال اليهودية، ان الحزب الديموقراطي، تقليدياً، أعمى الولاء لاسرائيل من الحزب الجمهوري، رغم ان ادارة بوش اثبتت عكس ذلك. اهتمام الناخب الأميركي بالسياسة الخارجية يشكل فرصة لتثقيفه مهما تجانست المواقف من اسرائيل في الحزبين الجمهوري والديموقراطي. فهذه انتخابات فريدة من نوعها ومن الضروري ألا تترك لمساهمة التطرف المتحدث باسم الاعتدال.