منحت موافقة رئيس السلطة الفلسطينية على توصيات لجنة "ميتشل" لتقصي الحقائق و"خطة تينيت" مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية CIA لوقف اطلاق النار وتبريد النزاع، عدداً من القوى الدولية الاقليمية فرصة تنشيط حركتها لمعالجة أزمة المفاوضات والعلاقات الفلسطينية - الاسرائيلية، وشهد الشرق الأوسط حركة ديبلوماسية واسعة تصدرتها إدارة بوش، بعدما ظلت قرابة خمسة أشهر ترقب تدهور الأوضاع، وتتفرج على تصاعد عمليات القتل والتدمير الاسرائيلية للفلسطينيين بشراً وشجراً وممتلكات. وكانت العلاقات الفلسطينية - الاسرائيلية تأزمت بعد فوز شارون في شباط فبراير الماضي في انتخابات رئاسة الحكومة الاسرائيلية. وبلغت الأزمة ذروتها بعد تفجير الجناح العسكري لحركة "حماس" ملهى الدولفينريوم في تل أبيب وقتل أكثر من 20 اسرائيلياً وجرح قرابة 100 آخرين. وأياً تكن دوافع ادارة الرئيس بوش، الخفية والمعلنة، لصمتها شهور طويلة على رفض شارون استئناف المفاوضات من حيث توقفت في طابا وقمة كامب ديفيد الثلاثية الماراثونية التي جمعت كلينتون وباراك وعرفات، فتحركها الجديد جاء بعد انتقادات واسعة وجهها لها أصدقاؤها العرب وحلفاؤها الأوروبيون، الذين حذروا من أن تراجع واشنطن عن لعب دور فاعل ومتوازن في معالجة النزاع العربي - الاسرائيلي سيؤدي حتماً الى تدهور الأوضاع وانفجار الصراع وتوسيع رقعته بما يهدد استقرار المنطقة ويمس بالمصالح الأميركية والأوروبية فيها. وبعد فشل شارون في وقف الانتفاضة على مدى 100 يوم منحتها له، خرجت إدارة بوش عن صمتها. وبعد تصاعد حدة المواجهات والاشتباكات المسلحة في الضفة وقطاع غزة وسقوط عدد كبير من القتلى في صفوف الفلسطينيين والاسرائيليين، وتوتر الأجواء في جنوبلبنان، أنهت هذه الادارة استنكافها عن النهوض بمهمتها راعياً لعملية السلام على مساراتها الثلاثة. وبدلاً من اعتماد إدارة بوش قرارات الشرعية ومبادئ حقوق الانسان وتوجهات مؤتمر مدريد للسلام واتفاق أوسلو وما تلاه من اتفاقات... الخ قاعدة لحركتها نحو تبريد النزاع وبقاء عملية السلام على قيد الحياة، تبنت مفاهيم شارون وشروطه لتطبيق توصيات لجنة ميتشل على رغم معرفتها أنها شروط تعجيزية هدفها تعطيل تنفيذ هذه التوصيات ونسفها. وساندت شارون في تحميل سورية مسؤولية الأعمال الحربية التي يقوم بها حزب الله في جنوبلبنان. وشكل هذا الموقف بداية الخلل في دور بوش في معالجة النزاع العربي - الاسرائيلي. وظهرت أمام العرب والفلسطينيين على أنها تساند سياسة حكومة شارون القائمة على تجاهل مرجعية عملية السلام ونسف الاتفاقات التي تم التوصل اليها في عهد من سبقوه. الى ذلك، بينت الحركة الأميركية الجديدة، كما تجلت في جولة وزير الخارجية الأميركي كولن باول الأخيرة ومساعده لشؤون الشرق الأوسط بيرينز على عدد من دول المنطقة، عدداً من القواعد التي تتحكم بتحرك ادارة بوش أهمها: أولا، ان ادارة بوش لم تغير قناعتها التي استخلصتها من درس ملف المفاوضات الفلسطينية - الاسرائيلية والسورية - الاسرائيلية في عهد باراك، باستحالة التوصل الى اتفاق فلسطيني - اسرائيلي أو سوري - اسرائيلي في عهد شارون، حتى لو كرست وقتها وجهدها وغرقت في التفاصيل كما غرق كلينتون. خصوصاً أنها تعرف أكثر من سواها ان شارون لا يملك مشروع حل سياسي يصلح لاستئناف المفاوضات على أي من المسارين الفلسطيني والسوري، وان وجود حزب العمل في الحكومة لا يغير في الأمر شيئاً. ثانياً، ان هذه الادارة لا تنوي، في الوقت الحاضر، تقديم أفكار واقتراحات أميركية خاصة، وتتمسك بدور "إدارة الأزمة" الذي رسمته لنفسها منذ استلامها سدة الحكم أواخر كانون الثاني يناير الماضي. وليست بصدد الانغماس في البحث عن حلول لأزمة المنطقة ومعالجة النزاع العربي - الاسرائيلي كما انغمست ادارة كلينتون وحصدت الفشل. ولسان حالها يقول إذا كان الفلسطينيون والسوريون رفضوا العروض السخية... التي قدمها لهم باراك، فحكومة يمينية بزعامة شارون لن تقدم للفلسطينيين نصف ما قدمه باراك في الأرض والقدس والاستيطان واللاجئين، ولن توافق على الانسحاب من الجولان كما طرحه الرئيس كلينتون في آخر لقاء جمعه بالمرحوم الرئيس حافظ الأسد في جنيف في آذار مارس 2000. ثالثاً، ان التباين الاسرائيلي - الأميركي كما ظهر يوم 27 حزيران يونيو الماضي في المؤتمر الصحافي لشارون وبوش في البيت الأبيض حول شروط تطبيق توصيات لجنة ميتشل وتجميد الاستيطان واستئناف المفاوضات... الخ، تباين محدود لا يمس جوهر موقف إدارة بوش المتبني لمواقف شارون وشروطه، وغير قابل للتحول الى خلاف أميركي - اسرائيلي أساسي يتلوه ضغط أميركي على اسرائيل يمكن للفلسطينيين والعرب البناء عليه. وتراجع باول بعد أقل من 30 ساعة عن موقفه الذي طرحه في رام الله بشأن المراقبين الدوليين يؤكد ذلك. رابعاً، ان أقصى ما تسعى اليه إدارة بوش في زمن حكم اليمين في اسرائيل هو: أ- محاولة استيعاب شارون وتعطيل قيامه بمغامرات عسكرية تؤدي الى تأجيج الصراع وتمدد انتشار النار المشتعلة في الضفة والقطاع الى دول الجوار وتحوله الى نزاع اقليمي. ب- تثبيت وقف اطلاق النار بين الفلسطينيين والاسرائيليين وتخفيض مستوى العنف الى أدنى مستوى ممكن. وتليين مواقف الطرفين واخراجهما من خنادق القتال التي تمترسا فيها منذ فشلهما في عهد كلينتون وباراك في التوصل الى اتفاق حول قضايا الحل النهائي. ج- تبريد حدة الصراع السياسي والمسلح على الجبهة اللبنانية - السورية، حسب شروط شارون ومقاييسه الأمنية والسياسية. د- بقاء مفهوم حل النزاع الفلسطيني - الاسرائيلي والسوري - اللبناني - الاسرائيلي بالوسائل السلمية على قيد الحياة، حتى لو لم تلتزم به الأطراف على الأرض. وتسعى إدارة بوش قدر المستطاع لإعادة الفلسطينيين والاسرائيليين والسوريين الى غرف المفاوضات لحل خلافاتهم الكثيرة المعقدة عبر الحوار الثنائي المباشر من دون ضغوط على حكومة شارون ومن دون التورط المباشر في هذه المفاوضات. وعلى رغم سماع كولن باول، قبل وخلال زيارته الأخيرة، نصائح عربية وأوروبية صادقة تؤكد أهمية عدم مغادرة المنطقة قبل نزع فتيل الانفجار، إلا أنه عمل بموجب التوجهات المذكورة أعلاه، وتحاشى الاصطدام بالحكومة الاسرائيلية، وآثر التحرك في الاتجاه والمساحة اللذين حددهما رئيسها شارون في لقائه بالرئيس بوش خلال زيارته الثانية لواشنطن. وخلال فترة وجوده في المنطقة، قبل باول الخضوع لما يشبه التحقيق حول تصريحه بشأن المراقبين الدوليين الذي أطلقه، بالصوت والصورة، في المؤتمر الصحافي المشترك مع عرفات في رام الله... واستسلم وزير أعظم دولة في العالم أمام شارون من دون مقاومة، وتراجع عن موافقته على وجودهم. وغادر المنطقة بسرعة قياسية، وتجنب الاشتباك مع شارون والغرق في تفاصيل مطالبه التعجيزية. ولم يأبه باول لظهور فشله أمام أهل المنطقة وعدد واسع من المراقبين طالما ان هذا المنظر يجنبه غضب الكونغرس، خصوصاً وأن مساندة اسرائيل باتت قضية أميركية داخلية. وللأسباب ذاتها لم يفكر الوزير باول بزيارة دمشق وبيروت ومناقشة القيادتين السورية واللبنانية حول سبل تبريد جبهة مزارع شبعا وتكريس الحل الذي تم التوصل اليه في جنوبلبنان في عهد حكومة باراك. وتسبب استهتاره بالسوريين واللبنانيين واهماله الوضع على جبهة مزارع شبعا بتدهور العلاقات السورية - الاسرائيلية أكثر فأكثر. أظن ان الوزير باول غادر المنطقة وهو على يقين أن الأزمة بلغت الذروة وباتت على وشك انفجار كبير، ولا جدوى من التحرك الأميركي قبل حدوث تطور نوعي في موقف الطرفين الفلسطيني والاسرائيلي أو احدهما على الأقل. وأغلب الظن انه لن يفكر بالعودة اليها قبل وقوع هذا التطور ويتوقعه بعد الانفجار وليس قبله. وأياً تكن دوافع الوزير باول ونواياه من منح شارون حق تقدير مدى تبريد الوضع المتحقق على الأرض حسب خطة تينيت، وتقرير إذا كان الهدوء بلغ الدرجة والمستوى المطلوبين للبدء بتعداد الأسابيع الستة المطلوبة لتنفيذ توصيات لجنة ميتشل، فموقفه هذا حد من امكان قيام أي طرف دولي أو اقليمي بأي دور مثمر لم يستطع باول القيام به. وقدم لشارون وأركانه الأمنيين غطاء أميركياً كاملاً لتصعيد عمليات القتل والاغتيال والتدمير ضد الفلسطينيين. وبصرف النظر عن مواقف إدارة بوش وقناعة باول، قبل وبعد مغادرته المنطقة، فالثابت ان اتفاق وقف اطلاق النار الذي دخل حيز التنفيذ في 13 حزيران 2001 اثر وساطة "تينيت" قد انتهى. وبديهي القول ان انتهاء ترتيبات تينيت يعني تلقائياً التحاق خطة ميتشل بالمبادرة المصرية - الأردنية التي لم يعد أحد يتحدث عنها. وجاءت قرارات حكومة شارون الأخيرة التي اتخذت تحت شعار "الدفاع عن النفس ومكافحة الارهاب الفلسطيني" وأكدت ضرورة البحث في اتفاق آخر يحمل الرقم 2، وقد يكون هناك حاجة الى خطة جديدة لإعادة الطرفين الى طاولة المفاوضات، خصوصاً وأنها أعطت الضوء الأخضر لأجهزة الأمن الاسرائيلية بتصعيد عمليات الاغتيال ضد نشطاء "الانتفاضة والمقاومة" واطلاق النار عليهم من دون تمييز في انتماءاتهم التنظيمية. وأطلقت يد المستوطنين للتنكيل بالمدنيين الفلسطينيين. وردت السلطة الفلسطينية على هذا التصعيد بإعلان انتهاء فترة "اسبوع الهدوء التام" وتأكيد حقها في الدفاع عن نفسها وعن شعبها إزاء هجمات المستوطنين. اعتقد ان هذه التطورات المتلاحقة جمعت في سماء فلسطينولبنان غيوماً حالكة تنذر بهبوب عاصفة دموية قوية، وان هذه العاصفة قادمة لا محالة. خصوصاً وان ادارة بوش لا تفعل شيئاً لوقفها. وإذا كانت الحرب الاقليمية الواسعة ممنوعة أميركياً ودولياً فشارون وأركانه يتحركون باتجاه تدمير السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية وحصر وجودها في قطاع غزة، كمرحلة أولى. وتوجيه ضربة قوية لحزب الله وتدمير الوجود العسكري السوري في لبنان. ويحاولون اقناع ادارة بوش والدول الأوروبية بأن هذه العملية لا ترقى الى حرب اقليمية وانها ضرورية لإعادة تحريك عملية السلام. وفي كل الأحوال اعتقد ان تقديم الذريعة والغطاء لحرب شارون القادمة جريمة لا تغتفر أياً كان مقدمهما. * كاتب فلسطيني.