لم تتضح بعد الوجهة التي يمكن إعادة تحريك سفينة عملية السلام الفلسطينية - الإسرائيلية باتجاهها. فقد أصاب هذه السفينة عطب فادح أغرقها أو كاد. وتجرى الآن محاولات إما لتعويمها مجدداً أو لإيجاد سفينة أخرى أكثر قدرة على الإبحار وسط أمواج المواجهات التي قلت حدتها نسبياً في الأسابيع القليلة الأخيرة، من دون أن يتراجع خطر احتدامها مرة أخرى. هناك اتفاق ضمني عام على أن صيغة أوسلو، التي قامت على أساسها المفاوضات منذ العام 1993، انتهت بشكل أو بآخر. وتبادل الفلسطينيون والإسرائيليون الاتهامات في شأن المسؤولية عن تقويضها. كما تلقى الرئيس الأميركي بوش تقريراً من "معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى" يفيد أنها انتهت. ويبدو هذا التقويم لصيغة أوسلو قائماً على تحليل موضوعي أكثر منه نتاج موقف سياسي. فقد ظلت هذه الصيغة تعمل بصعوبة عندما كان الأمر متعلقاً بالمرحلة الانتقالية الخاصة بإعادة انتشار قوات الاحتلال ونقل السلطة الى الفلسطينيين ليمارسوا حكماً ذاتياً يقتصر على الإدارة في "المناطق ب" ويشملها الى جانب الأمن في "المناطق أ". لكنها توقفت عن أن تعمل عندما دخل الطرفان في مفاوضات الوضع النهائي، واصطدمت مطالبهما المتعارضة في قمة كامب ديفيد الثانية في تموز يوليو 2000 . فقد اعتمد وزير الخارجية الأميركي الأسبق جيمس بيكر في تصميمه صيغة أوسلو على أن يكون الوضع النهائي غامضا، في إطار مفهوم "الغموض البناء" الذي يفيد أحياناً في السعي الى حل وسط. لذلك ظلت الصيغة تعمل حين كان هذا الغموض قائماً. ولكن، ما إن بدأت مفاوضات الوضع النهائي حتى أزيل هذا الغموض من دون حدوث تقدم في العلاقة بين الطرفين يكفي لعبور الفجوة التي ظلت واسعة بينهما، بل ظهر أنها أوسع مما كان يبدو لكثيرين خلال المرحلة الانتقالية. وإذا كانت إعادة صوغ صيغة أوسلو صعبة الآن، فالأكثر صعوبة هو إيجاد بديل عنها. وهذا هو المأزق الذي يواجه الجهود المبذولة لاستئناف المسار السلمي الفلسطيني - الإسرائيلي في ظروف تعتبر بدورها أصعب مما كانت عليه، سواء عند عقد مؤتمر مدريد في العام 1991 أو إبان اتفاق أوسلو في العام 1993، على رغم كثافة تلك الجهود. فالإدارة الأميركية صارت أكثر اقتناعاً من أي وقت مضى، منذ تنصيبها في كانون الثاني يناير 2001، بضرورة التفاهم على خطة سلام وجدول زمني لتنفيذها. وهناك مناقشات تجرى في داخلها في ضوء الاتصالات مع الدول العربية، خصوصاً السعودية ومصر والأردن والمغرب، ومع إسرائيل. التقى الرئيس بوش قادة هذه الدول جميعها، وآخرهم الرئيس حسني مبارك، في وقت قياسي لا يتجاوز خمسة أسابيع. غير أنه لا يتوافر حتى الآن يقين في امكان استئناف المسار السلمي، أو في شأن فرص نجاحه إذا استعيد. فالاحتمالات كلها ما زالت مفتوحة، ربما باستثناء احتمال خوض مواجهة فلسطينية - إسرائيلية شاملة خلال الأسابيع القليلة المقبلة الى أن تظهر نتائج جهود استعادة المسار السلمي. وعلى هذا الأساس، يمكن تصور أربعة احتمالات - سيناريوات على النحو الآتي: السيناريو الأول: امتداد للوضع الراهن الذي يشهد خفوت حدة المواجهات نسبياً من دون أن تنتهي، مع تفاوت مستواها صعوداً وهبوطاً من يوم الى آخر. وهذا وضع ليس مريحاً على الصعيدين الإقليمي والدولي، لكنه لا يمثل إزعاجاً شديداً في الوقت نفسه، ويمكن الدول المعنية باستقرار المنطقة قبوله موقتاً الى أن يتيسر السبيل الى وضع أفضل. ويمثل السيناريو الثاني، هذا، الوضعَ الأفضلَ نسبياً، وهو الوصول الى وقف كامل لإطلاق النار مع تكثيف التحرك الذي يستهدف استئناف المفاوضات، سواء في إطار المؤتمر أو اللقاء الدولي الذي ما زال شكله غامضاً منذ أن دعت اليه اللجنة الرباعية أميركا - روسيا - الاتحاد الأوروبي - الأممالمتحدة في آخر نيسان أبريل الماضي، أو في أي سياق آخر. وينتهي هذا السيناريو بالفشل في الاتفاق على صيغة استئناف المفاوضات، الأمر الذي يهدد بتصاعد المواجهات مجدداً. أما السيناريو الثالث فيقوم على النجاح في التفاهم على مثل هذه الصيغة وحل الخلاف المنهجي على النقطة التي تستأنف منها المفاوضات. فالجانب الفلسطيني يطالب باستئنافها من النقطة التي انتهت عندها في مفاوضات طابا التي أوقفت في آخر كانون الأول ديسمبر 2000. ويعني ذلك مواصلة مفاوضات الوضع النهائي في اطار صيغة أوسلو بعد تعويمها ومحاولة تفعيلها. لكن الجانب الإسرائيلي يرفض هذا المطلب ويراه مؤدياً الى اخفاق جديد لصعوبة، إن لم يكن استحالة، الوصول الى اتفاق على القضايا التي نسفت "كامب ديفيد 2"، وفي مقدمها قضية القدس واللاجئين . ولذلك تطرح في المقابل العودة الى المفاوضات الانتقالية أو المرحلية على النحو الذي كان قائماً بين العامين 1993 و 1999. وهذا هو ما نص عليه برنامج حكومة شارون عندما أشار الى التوصل الى سلام مع الفلسطينيين بموجب اتفاقات انتقالية، مع استعداد الحكومة لمرحلة جديدة من إعادة الانتشار ما لم يهدد ذلك أمن إسرائيل. ويعني ذلك - أيضاً - تعويم صيغة أوسلو، ولكن عند مرحلتها الأولى لا الثانية التي يريدها الفلسطينيون. ومن هنا صعوبة الوصول الى صيغة لاستئناف المفاوضات يقبلها كل منهما، إلا إذا أدت الجهود الأميركية والعربية الى رؤية جديدة، أو الى تفعيل "وثيقة أبو علاء - بيريز" المقبولة جزئياً لدى إسرائيل والسلطة الفلسطينية. وهي الصيغة التي تم الوصول الى مسودة لها في شباط فبراير الماضي بين رئيس المجلس التشريعي الفلسطيني أحمد قريع أبو علاء، ووزير الخارجية الإسرائيلي شمعون بيريز. وتقوم هذه الوثيقة على مزيج من المرحلتين الأولى والثانية في صيغة أوسلو، عبر اعلان قيام دولة فلسطينية في قطاع غزة وجزء من الضفة الغربية، مع مواصلة المفاوضات على قضايا الحدود النهائية والقدس واللاجئين والمستوطنات. وتتجه مصر الآن الى تبني هذه الصيغة مع وضع جدول زمني محدد لها، فيما يرفض شارون مثل هذا الجدول. غير أن التفاهم على صيغة استئناف المفاوضات، وفق هذا السيناريو الثالث، لا يعني أن تنجح هذه المفاوضات في الوصول الى اتفاق. فعلى سبيل المثال إذا تم التفاهم على وثيقة أبو علاء - بيريز كصيغة تنطلق منها المفاوضات، يمكن أن يصطدم الطرفان بالخلاف على نقاط أساسية مثل المدى الزمني الذي يفصل بين إقرار هذه الصيغة واعلان قيام الدولة الفلسطينية، والمناطق التي تشملها هذه الدولة في الضفة الغربية، وأوضاع المستوطنات في الفترة ما بين اعلان الدولة والوصول الى اتفاق نهائي، والمدى الزمني لهذه الفترة وهل يتم تحديده مسبقاً أم يكون مفتوحاً من دون تحديد، وما إذا كان هناك اتفاق انتقالي جديد، على هذا النحو يستلزم نصاً على إنهاء الصراع يرجح أن تطالب به إسرائيل ويرفضه الفلسطينيون. لذلك فمن الوارد، بل المرجح، أن ينتهي هذا السيناريو الثالث بفشل المفاوضات. أما نجاحها فينقلنا الى سيناريو رابع يمثل اختراقاً جديداً في الصراع لا يقل أهمية عن اتفاق أوسلو إن لم يزد، لكن احتمال هذا السيناريو يظل محدوداً للغاية. وهكذا، فعلى رغم أن الوضع الراهن يبدو مفتوحاً على أربعة سيناريوات، إلا أنها تتفاوت في ما بينها. ويبدو ممكناً الانتقال من السيناريو الأول الى الثالث في غضون شهور عدة، فيما يظل التحرك نحو السيناريو الرابع الأشد صعوبة والأقل احتمالاً. ولكن، ما ينبغي الانتباه اليه هو أنه إذا تعذر الوصول الى السيناريو الرابع يصير مرجحاً نشوب مواجهة شاملة جديدة، لأن فشل المفاوضات على اتفاق انتقالي جديد ينطوي على عنصر من عناصر الحل النهائي إعلان الدولة الفلسطينية يمكن أن يقود الى تداعيات من نوع ما حدث عقب إخفاق مفاوضات "كامب ديفيد" في العام 2000. * كاتب مصري. مساعد مدير مركز "الأهرام" للدراسات.