تباينت الآراء حول الحكومة المصرية الجديدة بين مستبشر ومتشائم، لكن الجميع اتفق على أنها حكومة مختلفة وتحمل بوادر تغيير عن سابقتها، يبدو في أحد أوجهه أعمق وأبعد مما تصور كثيرون، فيما يمكن اعتباره في الوقت نفسه أقل كثيراً من المطلوب ولا يستجيب تطلعات المصريين. وتفسير اجتماع هاتين السمتين ليس عسيراً، فالتغيير حقيقي لكن داخل إطار النخبة الحاكمة وضمن المنظومة الراسخة السائدة، الا انه بعيد من التوقعات كونه لم يعكس تغييراً في الفكر ولا تجديداً في طريقة إدارة الحكم. ما جاءت به حكومة أحمد نظيف تغيير مرحلي، وجسر انتقالي بين مجموعة حاكمة رحلت أو في سبيلها، وأخرى جاءت أو قادمة على الطريق. لكن المجموعات الثلاث منضوية تحت عباءة واحدة. وهذا ما يفسر استناد المتفائلين بتلك الحكومة إلى حجج أقرب إلى الأمنيات منها إلى الحقائق، وتكرار المتشائمين أسباب استيائهم نفسها من الحكومات السابقة. لكن إنصاف هذه الحكومة يستلزم أولاً رصد ما حملته من تغيير فعلي عن سابقاتها، ثم البحث في دلالات وخلفيات هذا التغيير إن وجد. لم يُشر أي ممن تناولوا التغيير الوزاري في مصر - مدحاً أو قدحاً - إلى دلالة خروج رئيس الوزراء عاطف عبيد، الرجل المعروف منذ كان وزيراً بتوجهاته "التخصيصية" حتى أصبح الأب الروحي للخصخصة وعراب بيع القطاع العام المصري. وتصبح الدلالة أعمق إذا ما أرفقناها بخطوة سحب حقيبة التجارة الخارجية من يوسف غالي وإبعاده إلى وزارة المال التي يغلب عليها الطابع الفني. لكن هذا التحول النسبي الذي اعتبره كثيرون ابتعاداً بسياسات الدولة ووسائل إدارتها عن رجالات الاقتصاد، لم يصحبه دخول لفئة أخرى بعينها، فلا هي حكومة سياسيين ولا إداريين، ولا يعني ترؤس رجل تكنولوجيا واتصالات لها أن علوم التقنية والمعلومات ستحكم مصر. الحاصل أنها حكومة بلا لون ولا طابع يغلب عليها، وهو ما يتضح أكثر بالنظر إلى التركيبة الفكرية والعمرية لأعضائها، فاجتماع الشباب والشيبة، كما يعني التكامل والتنوع، يعني في الوقت نفسه غياب الانسجام والتفاوت في الرؤى وأساليب العمل. ونزعم أنه لا يوجد في مصر من يملك تفسيراً واحداً مُقنعاً لاختيار أحمد نظيف رئيساً للوزراء. فأبرز مؤهلات الرجل نظافته وحسن سيرته الشخصية والمهنية، بيد أنه لم يمتلك خبرة كافية بالعمل العام ولم يعترك الحياة السياسية بتعقيداتها ومشكلاتها، ولم يعرف عنه موقف سياسي أو توجهات فكرية أياً كانت، فهو رجل تقني بامتياز، ومصر ليست مرشحة قريباً لتكون دولة تقنية وحكومة مصر ليست - وغالباً لن تكون - إلكترونية. في مستوى آخر، وضح أن التغيير الوزاري يحمل في أحد معانيه رسالة إنهاء خدمة إلى مراكز القوى التقليدية من رجال السلطة، لكنه في الوقت نفسه لم يستبعد كل هؤلاء بل أبقى بعضهم من دون مبرر وابعد بعضهم أيضاً من دون تفسير. فإذا كانت إطاحة وزير الزراعة يوسف والي متوقعة ومفهومة، فإن إطاحة صفوت الشريف تبدو غامضة ومثيرة للدهشة، فالرجل أخلص للنظام بكل ما أوتي من قوة، ونجح في تسخير الإعلام الحكومي لخدمة سياسات النظام وحمايته في آن. وفي المقابل كان المتوقع - أو ربما المرغوب - أن يطاح بكمال الشاذلي في سياق القضاء على مراكز القوى، وهو ما لم يحدث على رغم ما يتعرض له من انتقادات وما يحيط به من أقاويل معروفة للكافة. وفي كلتا الحالتين لا تبرير واضحاً ولا تفسير مقنعاً. وهنا تكمن المعضلة الحقيقية في السياسة المصرية. إذ لا يمكن لأحد مهما ادعى من علم ومعرفة أو حتى قرب من القيادة أن يقدم تفسيراً لخروج هذا الوزير أو ذاك، ودخول ذاك أو هذا. أغلب الظن أن حكومة نظيف ليست سوى حكومة تهدئة، أي حكومة مرحلية تمتص حال الاحتقان المتزايدة في الشارع المصري، وتدفع بمجموعة جديدة من رجال الحكم لكن بالتدريج حتى لا يحترقوا سريعاً. لذا جاءت بتشكيلة رمادية باهتة ومتنافرة في آن. وينذر تداخل تركيبتها وتباين تصنيفات أعضائها بأنها حكومة قصيرة الأجل مهمتها الأساسية استلام وتسليم. وربما يكون عمرها محدداً سلفاً. فالاستحقاق الرئاسي سيحل بعد خمسة عشر شهراً، وعندها سيكون لكل حادث حديث. لكن لم يكن من المقبول، لا داخلياً ولا خارجياً، أن يستمر الوضع القائم. ولم يكن وارداً بحال أن تحدث نقلة مفاجئة أو تحول جذري في المسار. في هذا الإطار يمكن فهم حكومة نظيف بتركيبتها غير المتجانسة واختياراتها غير المبررة، وتجسيدها النمط السلطوي الديكتاتوري ذاته، حيث لا استبعاد إلا بتوجيهات ولا إحلال إلا بتعليمات. فهكذا تسير الحياة في مصر وهكذا يحدث التغيير دائماً... من دون تغيير. * كاتب وباحث مصري.