خلال وجودي في الخارج أخيراً، أتاح لي صديق سعودي الاطلاع على كتاب جديد من تأليف وزير الخارجية المصري الأسبق أحمد أبو الغيط، خلال فترة من أهم حُقب السياسة العربية من 2004 إلى 2011... عنوانه «شهادتي». وجدت الكتاب على مقدار كبير من الهيكلية المدروسة، والأفكار المنظمة، والأهداف المحددة، وبيّن كيف اهتمت الحكومة المصرية خلال حُقب ما بعد ثورة 1952 بالخارجية المصرية، وآلية الاختيار للتعيين ثم التدريب ثم آلية الاختيار للعمل في الخارج. يتطرق المؤلف في شكل سلس وجذاب إلى الشخصيات التي عملت في منصب وزير خارجية مصر وما قامت به من جهد في سبيل إعلاء كلمه بلادها. ويتبيّن من الوهلة الأولى أن المؤلف لا يعتمد على ما لديه من ذخيرة مهمة واسعة في مجال عمله فحسب، بل إنه مؤلف على مقدار كبير من الاطلاع والدراسة في شتى مناحي العلوم ذات الصلة بعمله في وزارة الخارجية حتى تسلمه منصب الوزير. ولقد استمتعت بقراءة الكتاب، ولمّا كنت قضيت ردحاً من الزمن في مصر، خلال عمل والدي - رحمه الله - في سفارة المملكة بالقاهرة، أدركت أن المؤلف صادق وأمين إلى أبعد الحدود في سرد الشأن المصري، وما أحاط به من ملابسات وظروف وأحداث تاريخية ذات أهمية، ليس في ما يخص الشأن المصري فحسب، بل العالم العربي إلى حد كبير. ولا أحد ينكر أن الدور المصري الكبير خلال حِقَب مؤثرة وحرجة في ال60 عاماً الماضية، يصبُ في المصلحة المصرية، وبالطبع في المصلحة العربية والإسلامية، على حدٍ سواء. وما أثار إعجابي بمؤلف الكتاب أنه رجل ذو بعد استراتيجي واضح، ويحاول دوماً أن يطّلع على مستقبل الأمور، من خلال الزمن الحاضر الذي عاشه في حقب مختلفة. ولكن، علينا أن نتذّكر أنه يكتب من خلال رؤية المؤلف، وأنا هنا بالطبع لن أحاول أن أكتب تقريراً عن هذا الكتاب الشيّق، ولكن لكي أشارك القارئ وأقف عند نقطة استراتيجية مهمة للغاية، وعلى مقدار إلمامي بالشأن المصري لم يسبق أن قرأتها من قبل على لسان أحد رجال السياسة المصريين على هذا المستوى الرفيع. وهذا المحور الاستراتيجي الذي ذكره المؤلف في منتصف التسعينات الميلادية، لم يلقَ أي استحسان أو قبول آنذاك على ما يبدو، ولكن، نظراً إلى أن ما يحدث من تقارب ثلاثي منذ فترة بين مصر وإيران والعراق دفعني إلى أن أفكّر... هل هذا رجوع إلى ملفات الخارجية السابقة ذات الأبعاد الاستراتيجية الخطرة أم مجرد انتهاز فرص الأمر الواقع؟ أشار أبو الغيط إلى أن مصر فكّرت في إنشاء تحالف بينها وبين العراق وإيران في مرحلة ما ولكن، لم يتم أي شيء في هذا الصدد في ذلك الحين. إن من يطّلع على الأحداث في الوقت الراهن من زيارة الرئيس المصري إيران لحضور أحد المؤتمرات، ثم زيارة الرئيس الإيراني مصر، التي غلب عليها الطابع الإعلامي في شكل كبير لإظهار نوعية العلاقة - ربما هي في ذهن إيران فقط - بين مصر وإيران، ثم زيارة رئيس وزراء مصر العراق أخيراً، وما تلى ذلك من وعود مالية واقتصادية ونفطية لمساعدة مصر، ولا بد من أن معاهد الأبحاث في الدول العربية والخليجية تدرس الآن أبعاد هذه التحركات وما قد ينتج منها. في تقديري المتواضع، فإن الهدف الاستراتيجي الأبعد لإيران ثم العراق هو إيجاد موطئ قدم جديد يعوّض عن سورية عندما، بل قبل، أن ينتهي النظام القائم في سورية وفي أكبر دولة عربية في المنطقة. وبالطبع، فإن الاستهداف الإيراني مصرَ هو استهداف سياسي في الظاهر، ولكن، من يدرك أبعاد السياسات الإيرانية في الخارج يعلم أن الهدف الأول هو «مذهبي». إن مصر من أكبر الدول العربية وأهمها على الإطلاق، ولها وزن وشأن كبيران، لا يمكن أي منصف أن يتجاهلهما... وقد يرد قائل إن مصر دولة سنّية المذهب ولا يمكن أن تتأثر بأية حملات مذهبية على أراضيها. من جهة أخرى، من درس في الخارج وله إلمام بشؤون التبشير، فإنه يقوم بالدرجة الأولى على حاجة الإنسان من مأكل ومأوى ثم التركيز على العقول العامة بالتأثير الديني واختيار المتفوقين منهم للدراسة في الخارج والعودة ليكونوا أداة التبشير للسكان الأصليين في دولهم. لذا، يمكن القول إن الظروف الاقتصادية والاجتماعية المتردية في مصر، سبب شلل آلية الاقتصاد المصري، قد تجعل هدف إيران في مصر قابلاً للتنفيذ، ولا بد أن أشدد هنا بأن إيران لا تعتبر عامل الوقت ذا أهمية، بل إن استراتيجيتها هي تحديد الأهداف ومن ثم آلية تنفيذ تلك الأهداف بطرق متعددة، قد تكون اقتصادية أو اجتماعية أو طبيّة أو تعليمية، مثلما حدث في لبنان، واستطاعت خلال عقود عدة تغيير التركيبة السكانية لبيروت الكبرى، وكذلك جغرافيتها في مناطق عدة، وكذلك مفاوضاتها في شأن مفاعلاتها النووية منذ سنوات عدة. ولا ينكر أحد براعة إيران استراتيجياً وبأنها صاحبة نفس طويل جداً، ولكن، يعاب عليها أيضاً بأنها قارئة غير جيدة للتاريخ. أذكر أنني كنت أتناقش مع أحد المسؤولين الألمان في الشأن الخليجي الإيراني في شكل شخصي وأكد ما أشرت إليه، وقال يجب أن لا ننسى بأن الإيرانيين هم من اخترعوا لعبة الشطرنج! وفي محاولة لتلخيص ما أود الذهاب إليه من خلال مقالتي هذه هو أنه لا بد من ألّا يُؤخذ هذا التحرك الإيراني - العراقي في مصر في شكل غير جدي وأن مصر - حماها الله - دوله سنيّة، بل لا بد للمسؤولين في مصر، وكذلك الدول المحبة لها كافة، من الأخذ بزمام المبادرة لبتر هذا التواصل في أقصر وقت ممكن، وألا يعترض ما يحدث في الكثير من الدول العربية من تقلبات وفوضى تأجيل هذا الهدف. إن التحرك الإيراني الأخير لا يأتي من فراغ خلال الحقبة الحرجة التي تعيشها مصر اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً وفي شكل شامل في شتى شؤونها. لذا أكرّر أنه لا بد من الوقوف جِدّياً أمام هذا التحرك الإيراني وتابعه العراقي تجاه مصر الشقيقة، ولا بد من أن يكون ذلك في شكل استباقي تجاه هذه السياسة الخطرة للغاية. وأختتم هذه المقالة بعبارة بالغة وعميقة الدلالة والتأثير، ذَكرها أحمد أبو الغيط في كتابه الذي أشرت إليه، يقول: «يجب أن أعترف باقتناعي بأن الجغرافيا و (التاريخ) لهما سيطرتهما المحورية على محدودات أفعالنا، كما أن من المؤكد أيضاً أن الثقافة ومنطلقاتها لها تأثيرها في خياراتنا ومصيرنا». (أحمد أبو الغيط ، شهادتي، صفحه28). * وزير إعلام سعودي سابق