انطوى التشكيل الوزاري الجديد في مصر على عدد من الأبعاد التي تعكس في مجملها الرغبة في التغيير الجزئي، مع إستمرارية لنفس السياسات العليا. التغيير الجزئي سمة واضحة في حكم الرئيس مبارك، وحيث أن سرعة التغيير تقاس بمدى سرعة العناصر الأخرى، فإن المحصلة النهائية في مصر تصب في خانة التراجع في ربع القرن الأخيرة، من شدة بطء عملية التغيير في العقد الأخير، وهو عقد العولمة والتغييرات العالمية المتسارعة، حيث تعمقت الفجوة بين تطلعات الناس نحو التغيير وبين ما هو حادث فعلاً. وللأمانة، هذا هو حال أغلب الدول العربية وليس مصر فقط، وهو ما دفع بكولين باول لأن يصف الأزمة العربية "فجوة الأمل". بعد التغيير الوزاري تساءل الناس عن تفسير لما حدث وهل يمثل نقلة ضخمة أم مجرد خطوة محسوبة ومقيدة في النهاية بالرؤية الكلاسيكية الشديدة المركزية للدولة، والتي تعكس تجمع سلطات لا حصر لها في يد مؤسسة الرئاسة وشخص الرئيس تحديداً. وفي تصوري يمكن إجمال عدد من الملاحظات على التغيير الوزاري الأخير بعضها بالتأكيد يصب في خانة التغيير الإيجابي والبعض الآخر يحتاج إلى تفسير: أولا: الفصل بين العمل التنفيذي لمجلس الوزراء والسياسات العليا والاستراتيجية، ولهذا أعلن عن تكوين مجلس خاص مصغر يتكون من وزير الدفاع حسين طنطاوي ورئيس المخابرات عمر سليمان ورئيس ديوان رئيس الجمهورية زكريا عزمي ورئيس الوزراء السابق عاطف عبيد، ويترأس المجلس بالطبع رئيس الجمهورية. هذا المجلس، إذا تم تشكيله رسميا، سيكون بمثابة حل وسط، من وجهة نظر السلطة، بين الرغبة الشعبية في تعيين نائب للرئيس للخوف من حال الفوضئ في حال حدوث مكروه لرئيس الجمهورية، وبين رغبة الأخير في عدم تعيين نائب له وهو عنده أسبابه وحساباته الخاصة تجاه هذا الأمر والتي لم يفصح عنها. هذا المجلس على ما أعتقد سيمسك في يده بزمام القرارات الاستراتيجية ويجعل مجلس الوزراء، كما إتضح من تشكيله، يقوم بالمهام التنفيذية على الأرض. كما أن هذا المجلس المصغر بالتأكيد سيكون مسؤولاً عن انتقال السلطة في حال حدوث أي شيء طارئ. ثانيا: إذا فصلنا الإطار الاستراتيجي عن الإطار التنفيذي، لا يمكن إلا أن نشيد باختيار الوزراء الجدد. فمعظمهم متميزون علمياً، ينتمون إلى تخصصات حداثية، مهنيون وليسوا إيدلوجيين، من جيل الشباب والرجولة وليس الكهولة التي ميزت العقدين المنصرمين. لكن ما يحد من هذه الإيجابيات بالطبع أنهم مجرد تنفيذيين لسياسات عليا. وبالتالي جاءت تصريحاتهم لتبين غياب الرؤية السياسية الإصلاحية الأوسع، وكانت كلها كلمات مكررة عن تجويد العمل التنفيذي والاهتمام بمحدودي الدخل، وهو يعني التزامهم بالسياسية العليا القديمة ومفادها أن مهمة الحكومة إطعام الشعب وليس الإرتقاء به. ثالثاً: من الأمور الإيجابية في الحكومة الجديدة أيضا، اعلانها الضمني للمرة الأولى عن أحد إختيار مزدوجي الجنسية، وهو وزير السياحة الذي يحمل الجنسية السعودية أيضا، وهو رجل أعمال بارز وناجح. والحقيقة التي يعملها الكثيرون أن في هذه الحكومة والتي سبقتها عدداً لا بأس به مزودجي الجنسية وخاصة من حاملي الجنسيات الكندية والأميركية وجنسيات بعض الدول الأورويبة. لكن سياسة الكذب والنفاق والغوغائية وإدعاء الوطنية وتصفية الحسابات الشخصية هو الذي أثار من قبل مشكلة إزدواج الجنسية. فبين أفضل أبناء مصر تعليميا وثقافيا ومهنيا هم من تعلموا أو عاشوا في الغرب، وأغلبهم مزدوجو الجنسية. والسؤال الجوهري: ماذا ستفعل هذه الحكومة في المشاكل الرئيسية لمصر؟ وما هي رؤيتها للخروج من المحنة؟ وما هي رؤيتهم لمشكلة غياب الديموقراطية؟ ولمشكلة الفساد الذي أصبح مؤسسىاً ومتوحشاً لدرجة الإشادة بأي مسؤول غير فاسد وكأنه فاكهة نادرة. لقد انفجر الفساد مع سياسة الإنفتاح التي دشنها الرئيس السادات وهذا وضع طبيعي ومتوقع، فكل المجتمعات التي تتحول من الإنغلاق إلى الإنفتاح يصحب هذا التحول فساد مرحلي، لكن المشكلة في مصر إنه تحول إلى فساد مؤسسي عنكبوتي متجذر، أعاد تشكيل المجتمع من قمته إلى قاعة، وأعاق التنمية الحقيقية والإستثمار والمعاملات، وأدى إلى تدهور الأخلاق. ثم ما هي رؤيتهم لمشكلة الإنفجار السكاني، والذي يلتهم كل مقومات التنمية وقد جعلنا نتسول من كل دول العالم لإطعام هذه الأفواه المفتوحة. هل سيستمرون في السماح بترويج سياسة تشجيع التناسل التي تروج لها الحركة الاسلامية فى الزوايا والمدارس ووسائل الاعلام الحكومية وغير الحكومية، أم لديهم رؤية شجاعة لوقف هذه الكارثة؟ وما هي رؤيتهم لمشكلة التطرف الديني الذي جعل المصري شخصاً مشبوهاً في كل مطارات العالم؟ لقد قامت فلسفة الدولة السابقة على علاج الإرهاب وليس التطرف، ولهذا استفحل التطرف واكتسح الشارع والمدرسة والصحيفة والتلفزيون بشكل بشع. بل أن الدولة لم تتحرك لملاحقة الإرهاب إلا عندما إستهدفها وإستهدف نظام الحكم، في حين تركته عندما كان يستهدف الأقباط في أرواحهم وممتلكاتهم. ومحاصرة التطرف تستلزم التفكيك الكامل للمنظومتين التعليمية والإعلامية، وضبط هذه الهلوسة ووضع الدين فى مكانه الصحيح، فهل هناك رؤية حقيقية شاملة لدى هذه الوزارة تجاه مشكلة التطرف الدين ؟ هل هناك رؤية تتصل بتغيير الدستور الذي أصبح لا يناسب أي دولة تسعى للأخذ بأساليب الحداثة؟ هذه هي المشاكل الحقيقية الكبيرة التي تعاني منها مصر، والتي لا يمكن أن تدخل نادي الحداثة من دون التعامل معها بجدية وبشكل جذري غير تجميلي. لكن للأسف لم اسمع أي تصريح من أعضاء الحكومة الجديدة يعطيني الأمل بأن الدولة ستتعامل بجدية مع هذه المشاكل، كما إن استمرار وجود مفاتيح التغيير في يد مؤسسة الرئاسة يجعل حلم التغيير الشامل الجذري بعيد المنال.