هل وصلت حمى السينما الوثائقية الى السينما العربية ومتفرجيها؟ من ناحية مبدئية لم يكن للسينما الوثائقية في الماضي مكانة اساسية في الخريطة السينمائية العربية. وبالكاد كان يمكن لصاحب فيلم من هذا النوع ان يقنع اعداداً غير كبيرة من المتفرجين بمشاهدة الفيلم، هذا اذا كان اصلاً - كصاحب مشروع قبل تحقيق فيلمه - تمكن من إقناع احد بتمويل انتاجه. اليوم يبدو ان هذا الواقع قد بدأ يتبدل. والدليل واضح خلال هذه الدورة السابعة لمهرجان الفيلم العربي الذي يقام في قاعات معهد العالم العربي في باريس: إذ ثمة جمهور لا بأس بحجمه بدأ يتضافر لمشاهدة ما هو معروض من افلام وثائقية أو تسجيلية، او حتى من افلام "روائية" قصيرة، ضمن اطار المهرجان. والدليل ايضاً هو الإقبال الكثيف، ومنذ الآن على المشاركة في مهرجان الإسماعيلية للسينما الوثائقية والقصيرة الذي سيقام في ايلول سبتمبر المقبل، برئاسة الناقد علي ابو شادي. فهذا المهرجان الذي كان جاهد في الماضي طويلاً لكي يثبت حضوره ومكانته، يرى دربه اليوم اكثر سهولة. والإقبال عليه اكبر. والحقيقة ان جزءاً من هذا الواقع الجديد يعود الفضل فيه الى المخرج الأميركي "المشاكس" مايكل مور، الذي إذ سبق له ان فاز بأكثر من جائزة - بينها الأوسكار والسعفة الذهبية - في "كان"، عن افلام تسجيلية له، أعاد الحياة الى نوع كان منسياً منذ زمن. ولعل الفضل يعود ايضاً الى الواقع السياسي نفسه، والذي يضع في الواجهة صوراً وأحداث وقضايا، يصعب على السينما الروائية الإسراع بالتعبير عنها. وفي الأحوال كافة يبقى ان هذا كله افاد تلك السينما "الفقيرة" والتي كانت تقدم نفسها بخجل شديد في الماضي. وأفادها الى درجة ان كثراً، حتى من بين الذين شاهدوا فيلم "باب الشمس" للمصري يسري نصر الله، في "كان" اعلنوا انهم يفضلون الجانب التأريخي "الوثائقي" فيه على الجانب الروائي، مع ان الجانب "الوثائقي" نفسه ليس وثائقياً، بل هو روائي صوّر على نمط السينما الوثائقية. مجد الفقراء مهما يكن من الأمر فإن هذه الظاهرة تتواصل كما اشرنا، بالنسبة الى عروض معهد العالم العربي، واللافت ان جزءاً كبيراً من السجالات التي تدور بين المعنيين قبل عرض الأفلام وبعدها، إنما يدور من حول تلك الأفلام، حيث تبدو الأفلام الروائية وكأنها باتت، هي، الابن الفقير في مهرجان يروح معظم جوائزه اصلاً الى الأفلام الروائية. فهل يمكن ربط هذا الواقع بواقع آخر هو تضاؤل عدد الأفلام الروائية العربية التي تنتج عاماً بعد عام؟ او بواقع ان معظم الجهد الروائي الذي عرض، وسيعرض خلال الساعات المتبقية حتى ينتهي هذا المهرجان، هو افلام سبق عرضها وأشبعت نقاشاً وسجالاً في مناسبات اخرى؟ مهما كان الجواب، واضح ان الفيلم التسجيلي - الوثائقي، ناهيك بالفيلم الروائي القصير، هو المستفيد الأساس من هذا كله، خصوصاً ان عدداً كبيراً من هذه الأفلام إنما يعرض هنا للمرة الأولى، او حتى، يأتي من بلدان لم تعرف بإنتاج سينمائي - تسجيلي او روائي - من قبل في شكل يكفي لإيجاد حال ما. وهذه حال بعض البلدان الخليجية كالسعودية والإمارات التي عرضت افلاماً لافتة، وفي شكل اعتبر وعداً مستقبلياً حقيقياً. ويمكن التوقف هنا عند السعودية هيفاء المنصور التي كانت شهرة عملها سبقتها، لتشكل ظاهرة في حد ذاتها بفيلمها القصير "انا والآخر"، كما يمكن التوقف عند الإماراتي هاني الشيباني الذي قدم فيلمه الجديد "جوهرة" المتحدث "عن اسرة اماراتية من خلال ذكريات امرأة عن طفولتها بين ابويها وجديها". وهناك ايضاً مواطنته لمياء حسين قرقاش، التي تقدم في "الأرض المبتلة" 8 دقائق ونصف دقيقة تقريباً تجربتها الأولى والتي تثير كونها "كشف اغوار لأفكار تدور في رأس فتاة شابة" فضولاً كبيراً، بخاصة انها تطرح موضوعها من موقع اجتماعي بحت. والحال ان هذه النماذج الخليجية تأتي لتسد نقصاً كان يلاحظ دائماً في مثل هذا النوع من التظاهرات. وعلى عكس ما هو حاصل بالنسبة الى السينما الروائية التي يقتصر الحضور فيها على البلدان المعروفة سلفاً بإنتاجها أقل أو أكثر، تتنوع البلدان "المصدّرة" للأفلام التسجيلية والقصيرة، في شكل يكسر احتكاراً لبنانياً كان واضحاً خلال سنوات ماضية، حيث كان ينظر الى جيل ما - بعد - الحرب في لبنان على اعتباره "الجيل الأكثر حضوراً" في مجال انتاج السينما القصيرة، هذه المرة لم يعد الآتي من لبنان الأكثر ولم يعد الأفضل، حتى وإن كان في الإمكان المراهنة على بعض ما هو لبناني في هذا السياق. لكن هذا "البعض" لا يشكل ربيعاً متواصلاً وكان تواصله مرجواً لسنوات خلت. وفي المقابل ها هو جيل مصري جديد يثبت نفسه وحضوره، وغالباً في منافسة حادة لجديد السينما الروائية المصرية نفسه. فمن كاملة ابو ذكرى التي تعرض "نظرة الى السماء" الى مواطنتها سعاد شوقي صاحبة "ليلة" وصولاً الى احمد غانم في "ألوان الحب" ثم بخاصة هالة جلال التي تقدم في "دردشة نسائية"، مساهمة متميزة في مشروع "نساء رائدات" الذي تنتجه ماريان خوري وتهاني راشد التي تأتي من كندا بفيلمها الجديد "سريدا... امرأة من فلسطين" ومروراً بأعمال اكثر تواضعاً تحمل تواقيع محمد الرومي ونادر هلال ومحمود سليمان وعلية البيلي وأحمد ماهر، من اولئك الى هؤلاء، ثمة ما يتحرك فعلاً في فضاء السينما المصرية الفقيرة... وثمة اعمال تقول منذ الآن، ان اصحابها يمكن ان يكونوا هم، كما حال كاملة ابو ذكرى وسعد هنداوي وهالة خليل، مستقبل الفن السينمائي المصري. طوفان ما... ولئن كنا ذكرنا شيئاً عن الحضور الفلسطيني في هذا المهرجان الباريسي، فإن ما يمكن التوقف عنده هنا، ايضاً، هو حضور فلسطين في سياق هذه السينما ايضاً. فمن علا طبري التي حققت، بعد سنوات جهاد طويلة فيلمها الأول الموعود "خلقنا وعملنا" 90 دقيقة عن حياتها وتجربتها في مدينة الناصرة ومدارسها ايام الطفولة عبر شخصيات نموذجية عدة، الى نزار حسن "اجتياح" ومحمد بكري "جنين... جنين"، مروراً بهيام عباس في "الرقصة الأبدية" وآن - ماري جاشر "كأننا عشرون مستحيلاً" تواصل السينما الفلسطينية المتقشفة تخريج "نجوم سينماها المستقبلية". بالنسبة الى دول المغرب العربي، ليس ثمة ما هو مفاجئ بالطبع، فإذا كانت هناك أفلام متغيرة جيدة في شتى تظاهرات السينما التسجيلية والقصيرة، فإن هذا الامر ليس جديداً بالنسبة الى سينمات جزائرية ومغربية وتونسية يمكنها ان تغرف من تاريخ بات اليوم طويلاً، ومن دعم حكومي، أو دعم فرنسي لا ينضب. ومن هنا فإن "المفاجأة" الحقيقية - في هذا السياق - تأتي من سورية حيث، بعد انتظار طويل، بدأ ينشأ جيل تسجيلي لافت، وتشهد على هذا أفلام سورية تسجيلية وقصيرة، قد تكون قليلة العدد نسبياً، لكنها لافتة في لغتها السينمائية كما في مواضيعها الاجتماعية وليد حريب في "متر مربع" وعمار البيك في "كلاكيت"... ولافتة بخاصة اذ تأتي على يد سينمائي مخضرم هو عمر اميرالاي، الذي يقدم عملاً جديداً له، من انتاج سوري - فرنسي، عنوان في العربية "الطوفان" لكنه في الفرنسية "طوفان في بلاد البعث". واذ يقدم المهرجان فيلم اميرالاي بالعبارات التالية: "قبل ثلاثة وثلاثين عاماً، كان المخرج من اكبر المناصرين لتحديث بلاده، مخصصاً اول افلامه لتمجيد "سد الفرات" احد انجازات حزب البعث الحاكم. وها هو يعود اليوم نادماً على ما يعتبره هفوة شباب، الى قرية "الماشي" قرب بحيرة الاسد...". وهذا ما يجعل فيلم اميرالاي هذا، عملاً يسير في خط فيلم كان حققه اللبناني برهان علوية قبل سنوات - وبتمويل فرنسي ايضاً - عن سد اسوان في مصر. في انتظار الاسماعيلية اذاً، من الافلام الخليجية، الى فيلم عمر اميرالاي... ها هي القضايا العربية تقفز الى الشاشة في هذا النوع من الافلام... فارضة حضوراً على الشاشة الباريسية لنوع سينمائي من المؤكد ان اهميته والاقبال عليه سيزدادان عاماً بعد عام، طالما ان فسحة الحرية الجديدة المتاحة، بفضل تطورات السنوات الاخيرة، باتت تسمح للسينمائيين، وهم بالتأكيد الأكثر حساسية بين ممارسي شتى انواع الفنون، وقدرة على التعبير عن حساسيتهم هذه، تسمح لهم بصنع صور تقول الواقع، ولا سيما بخيباته ومراراته... وفي اكثر الاحيان بفضل تمويل يأتي من السلطات المعنية! اما الحضور اللبناني، فإنه يبدو هذه المرة، وكما اشرنا، اقل أهمية كمياً، حتى وإن حمل تواقيع معروفة في عالم السينما اللبنانية، من اكرم زعتري فيلم "اليوم" الى الثنائي جريج - حاجي توما في "رماد" الى تواقيع اقل شهرة مثل ديغول عيد "يلعن الغربة" وبخاصة ميرنا معكرون في فيلمها "برلين / بيروت" وصولاً الى ليلى كنعان التي تعرض هنا فيلم تخرجها في احد المعاهد السينمائىة اللبنانية في عنوان "بيت بيي". فهل علينا ان نقول انطلاقاً من هذا كله ان ما يلفت النظر حقاً هو ان المستوى العام للسينما التسجيلية والقصيرة، يفوق المستوى العام لما هو معروض من افلام روائية طويلة؟ طبعاً لن يقودنا هذا الى لعبة التخمينات بالنسبة الى توزيع الجوائز الذي سيتم، غداً، خلال الحفلة الختامية للمهرجان... لكنه سيقودنا بالتأكيد الى ناحية لعبة تخمينات اخرى: اذا عرف مهرجان الاسماعيلية، كيف يحصل على مثل هذه الافلام في دورته المقبلة، سيكون بالتأكيد مناسبة مهمة للبرهنة مرة اخرى على ان السينمائيين العرب - من ابناء الاجيال الجديدة - في خير... وربما خيرهم هذا يفوق خير زملائهم المخضرمين من صانعي افلام روائية طويلة، بات الجيد منها نادراً...