إذا كان امامك في مهرجان سينمائي واحد، لا دخل للسينما التجارية فيه، عشرات الأفلام بعضها من البلدان العربية والبعض الآخر من بلدان العالم الخارجي، ولا سيما من اوروبا، ستكون المقارنة غير عادلة بأي حال من الأحوال بين البعض والبعض الآخر، ولأسباب يمكن كتابة صفحات في سردها وتحليلها، ولكن قد يكون في الإمكان اختصارها بعناصر تقنية وتمويلية. إذ، حتى لو اشتكى سينمائيو "العالم الخارجي" من كونهم يعانون في الحصول على التمويل الكافي ومن كون هذا النوع من السينما غير الخاضعة لمقاييس العرض التجاري، أو حتى العرض التلفزيوني المنمّطة والرائجة، فإن الواقع يقول لنا ان الفرص امامهم اكبر بكثير من تلك المتاحة لزملائهم العرب. ولنضف الى هذا ان بعض انواع هذه السينما التسجيلي، أو القصير الروائي، أو أفلام التحريك إذا كانت تعتبر هناك فناً قائماً في ذاته، فإنها عندنا تعتبر، على الأرجح، محطة على الطريق. ذلك اننا اذا استثنينا مخرجين عرباً قلائل - تجعلهم الصدفة من الأكثر تميزاً في هذا المجال - من امثال أكرم زعتري ومي مصري، بين آخرين، سنجد ان العدد الأكبر من صانعي هذه الأفلام، انما يصنعها في انتظار ان تمكنه الظروف المقبلة من الحصول على تمويل لما يليها من مراحل في حياته: مراحل الفيلم الروائي الطويل. وفي هذا السياق يبتدئ الأمر، كما لو ان الأفلام التسجيلية، أو الأفلام الروائية القصيرة التي تصنع، ليست سوى "مسودات" او تجارب أو إرهاصات. وفي أحسن الأحوال لا يكون الأمر نابعاً من مواقف مقصودة لذاتها، بقدر ما يكون نابعاً من واقع الأمور، إذ لا مكان تؤدي إليه تلك الأفلام. ولعل هذا ما يصنع الفارق الأساسي بين الفيلم العربي القصير او التسجيلي، وابن عمه الغربي، إذ ان هذا يبدو منتمياً - في معظم الأحيان - الى نوع قائم في ذاته، له جذوره وتاريخه، وله مستقبله وكينونته، له من يموله وله من يصل إليه. في الإسماعيلية، على قناة السويس في مصر، اقيم اخيراً، مهرجان السينما التسجيلية والقصيرة. والصدفة جعلت مهرجاناً مشابهاً - فيه مع ذلك افلام روائية طويلة - يقام في بيروت في الوقت نفسه تقريباً. وهكذا بدا المهرجانان متكاملين، يستطرد ثانيهما الأول، مؤكداً ما بدا عليه من سمات، مضيفاً الى ذلك امكان المقارنة بين ما هو قصير و"موقت" وبين ما هو طويل يشكل غاية الغايات في السينما العربية. والحال ان تأملاً في المهرجانين وأفلامهما - بعض الأفلام بالنسبة الى الثاني، البيروتي - يضع المتأمل مباشرة في قلب قضية السينما، ليقفز الى ذهنه، في شكل من الأشكال، ما يمكن ان نسميه "عالم سينما الفقراء" وبالتحديد، سينما الأفلام التسجيلية والقصيرة. والمرء، من بعد ما يختبر امام معظم ما حقق من هذه الأفلام، داخل بلدان العالم العربي، ويكتشف سماتها ك"سينما موقتة" سرعان ما يجد نفسه امام عنصر مفاجئ اساسي، قد يكون من الصعب عليه توقعه منذ البداية. وهذا العنصر يمكن تلخيصه ب"مدى الفن الفاقع" في هذه السينما الفقيرة. وإذا كان المرء يشك بعض الشيء بوجود هذا الفن الحقيقي، سيتعين عليه ان يلجأ الى السلاح الأقوى: سلاح المقارنة. وتحديداً المقارنة بين نتاجات هذه السينما كما عرضت في الإسماعيلية ثم في بيروت، وبين ركام الأفلام التجارية التي تعرض في الصالات، وحتى تلك المعروضة من على شاشات التلفزة، سواء كانت مصنوعة اصلاً للسينما ام للتلفزة. فمن المؤكد ان هذه المقارنة ستكون لمصلحة سينما الفقراء الشبان: من ناحية اختيارات المواضيع، والصدق الفني، واللجوء الى احدث التقنيات المتاحة، والتعاون بين أفراد الفريق العامل في كل شريط، بحيث يبدو التناسق قائماً بين كل عنصر من العناصر. وبحيث يبدو الموضوع ملتصقاً بالعاملين لإبرازه، مهما كانت وظيفتهم في عمل الشريط. في مثل هذه الحال، إذا كان شعار مثل "السينما المستقلة" يبدو مثيراً للتساؤل بعض الشيء، وأسلوب مثل اسلوب "سينما المؤلف" يبدو على المحك، فإن مما لا شك فيه ان الأعمال نفسها تكشف مقدار التبني الكلي لها من العاملين فيها كلهم. وقد لا يكون المجال متسعاً هنا لإيراد لائحة بالأعمال التي اوحت بمثل هذه المشاعر ازاءها، ولكن نماذج معينة يمكن ذكرها لتقول لنا الأمر نفسه، من افلام المصريين: احمد حسونة وفاضل تامر وأحمد رشوان، كما في افلام الفلسطينيين: محمد بكري وأكرم صفدي ومحمود مسعد، وصولاً الى اللبنانيين: اكرم زعتري وهشام بزري ومنى مرعي وإليان الراهب... وإلى رهط من عرب آخرين يعيشون، اما في الديار وإما في المهاجر وحملوا اعمالهم، الى الإسماعيلية كما الى بيروت كما يحملونها الى كل مكان. وهؤلاء جميعاً، يشكلون اليوم، مع عشرات الأسماء غيرهم، جمهرة السينمائيين العرب الجدد. صحيح ان كلاً منهم يحمل على لسانه شكوى وفي قلبه مرارة... ولكن أفليس هذان الشعوران طبيعيين وسط الإحباط العام الذي تعيشه الفنون وضروب الآداب العربية اليوم؟ المهم ان الشكوى والمرارة لا تبدوان محبطتين... لأنهما لا تمنعان من الاستمرار... وكذلك لن يبدو محبطاً، بالنسبة الى المراقب الموضوعي - أو "الشاهد المتورط"، بحسب تعبير مستعار - ان يكون ثمة شعور لدى معظم هؤلاء بأن وجودهم داخل هذا النوع من السينما، انما هو وجود عابر، طالما ان كل واحد منهم يحمل مشاريعه / آماله التي يمكنها ان تنقله، لو تحققت، الى مستوى آخر في الهرمية المفترضة: مستوى الفيلم الروائي الطويل، فالمسألة هنا ليست مسألة افراد، بل قضية تيارات، اجيال تعبر ليطلع غيرها. وسينما تحيا عنيدة مشاكسة، بفضل تتابع هذه الأجيال. إن كثراً من "فقراء سينما اليوم"، سينتقلون لاحقاً الى عوالم اخرى: منهم من سيختفي نهائياً، ومنهم من سيتحول الى فنون اخرى. منهم من ستبتلعه التلفزة، ومنهم من سيبرز في السينما التجارية مبرراً انحداره اكثر وأكثر. لكن منهم من سيستمر، من سيدرك، وإن دفع الثمن غالياً، ان هذه السينما التي يصنعها "الفقراء" ليست مرحلة انتقالية، بل ضرورة دائمة. هي طبعاً في حاجة الى تطوير وتبديل دائمين ولكن ضمن أطرها وعناصرها وآفاقها الخاصة بها، لا بالاستعارة من عوالم السينمات الأخرى. بل قد يصل التطرف بالمرء الى ان يقول انها هي - اصلاً - في جذور السينما. وحتى لو كان المرء شعر ببعض السعادة حين اعترف "أثرياء" السينما الرائجة بأحقية هذه السينما في ان تكون مثلاً في الدورة الأخيرة لمهرجان "كان" السينمائي، أدخل فيلم "بولنغ لكولومباين"، رائعة مايكل مور التسجيلية، المسابقة الرسمية، وفي الدورة التي سبقته نافس "شْريك" التحريكي الرائع للحصول على السعفة الذهبية...، فإن المسألة تتجاوز مسألة اعتراف من الآخر. المسألة هي، اساساً، في قوة هذه السينما الذاتية وحضورها، من دون ان تسعى الى الرواج، أو الى ان تزعم نفسها بديلة، أو انها قائمة لكي تكسر "هيمنة ما" كما يقول شعار خاطئ تتمسك به جماعة السينما المستقلة في مصر اليوم!. مسعاها الوحيد هو في وجودها، في اعطائها فن السينما نفسه، شرعية تقارب شرعية الحياة. وفي مدّها هذا الفن بعناصر اضافية، غنية صادقة حقيقية تعرف كيف تلتقط لحظات الحياة وجوهرها. المسألة هي ان تعرف هذه السينما ان لديها من الثراء، ما يغنيها عن انتظار اي فتات يأتي من لدن انواع السينما الأخرى، وهذا الثراء تجلى دائماً، منذ فجر وجود السينما حين صور الاخوان لوميار تلك المشاهد الأولى التي سحرت وبهرت وأعطت للحياة مذاقاً آخر تماماً. إن مثل هذه الأمور، إذ تؤخذ كما هي وتتضافر لتحدد لسينما "الفقراء" قيمتها المطلقة وثراءها العميق، يمكنها ان تترك المجال بعد ذلك لمناقشة الأمور التي لا تقل عنه اهمية، مثل قضايا التمويل والعرض والوصول، وهل هي تصنع اصلاً للتلفزة أو لغيرها من وسائل العرض، أو يصنعها المبدع للتعبير عن ذاته او عن عالمه، ومجتمعه. وهل يمكنها حقاً ان تكون سينما فردية بقدر ما هي جماعية او جماعية بقدر ما هي فردية. كل هذا يمكن طرحه والسجال من حوله. لكن ما يمكن حقاً التوقف عنده الآن هو ان هذا النوع من السينما ينحو في يومنا هذاً، لأن يجعل من "فن السينما" أو بالأحرى "فن الصورة المتحركة" واحداً من اكثر الفنون ديموقراطية في تاريخ البشرية، طالما ان الإمكانات التقنية الجديدة والمتجددة في تطور يسير ضمن قفزات هندسية مذهلة، تمكن اياً كان من ان يلتقط كاميرا ويصور، ومن ان يعرض ما يصوره، وأحياناً في وتيرة زمنية تشبه وتيرة الزمن نفسه... الزمن المتحرك، حركة الصورة. الزمن الذي يعطي هذه الصورة قوتها ونكهتها.