نيوزيلندا تعاقب إسرائيل، وتلغي زيارة رئيسها موشي كتساب لأوكلاند، وتجمد كل الاتصالات السياسية مع الدولة العبرية. السبب عميلان ل"موساد"يتجسسان فينتهكان سيادة نيوزيلندا. إنه واحد من الأخبار النادرة السعيدة، للعرب، منذ العام 1990، لأن العالم كله، بما فيه مجلس الأمن والعرب جميعاً، عاجز عن معاقبة دولة ما زالت تفرض إرادتها بالقوة والاحتيال والتزوير، أي بنهج العميلين ذاته... وهو في النهاية دليل آخر، أو نموذج لسياسة الابتزاز. لكنها نيوزيلندا فحسب في النهاية، رغم قرارها الجريء، في وقت عز على الفلسطينيين تحديداً حَكَم منصف. فقدوا ثقتهم بالعرب، وحطم آمالهم التواطؤ الأميركي الذي يبتزهم أيضاً بمشروع دولة، ويبارك المجزرة الكبرى لشارون... لكنهم أيضاً فقدوا الصديق الأوروبي الذي تراخى أمام عصا واشنطن في حلبة"الحرب على الإرهاب". آخر خسائرهم الأممالمتحدة التي يفترض أن تكون ذلك الحَكَم المنصف، لكنها في الواقع تتحول حلبة أميركية، وهذه المرة عبر بوابة اللجنة الرباعية. الأمثلة بالعشرات على الاحباط الفلسطيني من صوت اللجنة، التي لم تمنع حكومة شارون من تحويلها إلى مجرد شاهد زور على جولات المجازر، منذ الاجتياح الكبير للضفة الغربية، واحتجاز الرئيس ياسر عرفات في مقره في رام الله، شاهداً عاجزاً أمام مأساة شعبه. والمأساة الجديدة للأمم المتحدة التي كانت كسيحة أمام الغزو الأميركي - البريطاني للعراق، أن تسمح بانقلاب عجزها في فلسطين إلى"بطولة"لمصلحة إسرائيل. ف"مأثرة"تيري رود لارسن في ادعاء العدل، حين وقف ليحاكم"فشل"السلطة الفلسطينية في الإصلاحات، لا يمكن إلا أن تؤخذ بسوء نية، إذ جعل الإصلاح في كفة معادلة لكفة واهية هي وقف النشاط الاستيطاني الإسرائيلي... كأنه لا يعلم مثل الأمين العام للأمم المتحدة كوفي أنان أن لا المنظمة الدولية ولا أوروبا ولا روسيا أعضاء اللجنة الرباعية، قادرة على ارغام حكومة شارون على وقف الاستيطان، أو على الأقل سرقة مزيد من أراضي الفلسطينيين، تحت غبار القصف والغارات والاغتيالات. وإذا كان أبسط ما يقال في مقايضة الإصلاح - رغم مشروعيته بقرار فلسطيني مجرد من أي تدخل - بالاستيطان، انه نموذج آخر للابتزاز الأميركي - الإسرائيلي، فالمؤسف أن تسقط الأممالمتحدة ومعها لارسن في فخ شارون لإنقاذه من"محاكمة"دولية على الجدار العنصري المسمى جدار الفصل. لماذا الآن يغضب تيري من السلطة و"فشلها"، بعد أيام معدودة من حكم محكمة العدل الدولية في لاهاي ببطلان شرعية الجدار، وعشية الجمعية العامة؟ ألم يكن الأولى بالمنظمة الدولية أن تعوّض عجزها المفجع في العراق، حيث فضائح الغزو لا تتوقف، بموقف محايد على الأقل، يقر بأن معاناة الفلسطينيين نتيجة واقعية لديكتاتورية شارون ومجازره، قبل أن تكون بسبب"ديكتاتورية"التفرد لدى رأس السلطة الوطنية؟ الأكيد ان أزمة السلطة التي تحاصرها مجدداً"أصوات نشاز"في الأممالمتحدة، لن تتوقف أو تجد حلاً، بمجرد مقاطعة لارسن عقاباً له على"عدائيته". والأكيد ايضاً ان الأزمة الجديدة ستحرم الفلسطينيين من استثمار قرار محكمة لاهاي الى الحد الأقصى... وهم جميعاً مع عرفات سيبقون أسرى الفخ الأميركي - الاسرائيلي الذي جعلهم رهائن لذاك الاصلاح الذي لا يعني سوى ازاحة رأس السلطة، أو انتظار موته البطيء. ما يؤلم الفلسطينيين ان يقرع لارسن المفترض ان يكون محايداً، على طبول اللجنة الرباعية، بإيقاع اسرائيلي، وهو يعرف مسبقاً انه عاجز عن منحهم أي ضمان، حتى لاقتلاع مستوطنة واحدة، في حال تخلّوا عن سلطة"فاشلة"، كما يدرك ان تخييرهم هو بمثابة المزج بين الماء والنار. والغريب ان تستأسد الأممالمتحدة معهم، وكأنها تحلم بقوة لقراراتها تعرف أين مآلها، منذ ما قبل غزو العراق، في وقت تتردد كثيراً قبل النطق بأي عتاب خجول إزاء كل ما ترتكبه اسرائيل، ولا تحلم حتى بمجرد التفكير في معاقبتها. أما مأساة الرئيس السجين في رام الله، ومعه شعبه في الضفة الغربية وقطاع غزة، فهي أنهم وحدهم يسمعون طبول اللجنة الرباعية، وهدير دبابات شارون، فيما العالم كله، بمن فيه العرب، ملّ الصور، ولا يسمع سوى شكاوى بوش، وبيانات البيت الأبيض.