كان من الطبيعي ان يتخلص الاميركيون من عبء اعتقال صدام حسين ومحاكمته، ليس من قبيل"نقل السلطة"الى العراقيين، وانما لأنهم استجوبوا الرئيس السابق طويلاً وباتوا يعرفون تماماً اذا كان يستطيع ايذاء الولاياتالمتحدة ام لا، وبما ان ملفه صعب ومعقد ومثير، فإنهم يفضلون ان يتولاه العراقيون الراغبون جداً في ذلك، وها هم قدموه امس كأنه اول"الانتصارات"او اول دلائل مباشرة"السيادة". منطقي ان يحاكم صدام في اطار عراقي، لكن الحكومة العراقية تخطئ اذ تعوّل على تسلّم الرئيس السابق ومحاكمته لتلميع صورتها وتأكيد فاعليتها واكتساب شرعيتها. وتشاء المفارقة ان تجعل من هذه المحاكمة بداية البدايات لنهج في الحكم يريد ان يطلّق فعلاً اي نوع من"الصدامية"يمكن ان يوصم بها. لا احد يطالبها بالعفو عن صدام او بمسامحته او حتى برحمته، لكن المحاكمة هي المحاكمة وما دامت الحكومة التزمت ذلك فمن مصلحتها ان تلعب اللعبة وفقاً للقواعد والواجبات المعروفة في مثل هذه الاحوال. التعليقات والتمنيات التي اطلقت، احياناً بلسان مسؤولين عراقيين على صلة بالمحاكمة، لم تعط انطباعاً سوياً. هناك من اعدمه منذ الآن، ولكن حتى لو كان مصيره الاعدام امام محكمة محترمة، فالافضل ان يترك"اعدامه المسبق"للناس فتقول ما تشاء، لا ان يتبرع وزراء ومسؤولون بمثل هذه الاحكام. هناك دول عربية وغير عربية قائمة، لا فوضى فيها او حروب، لكن يعاني فيها القضاء من سمعة لا يحسد عليها. فكيف بالعراق الذي لا يزال يستعيد نفسه كدولة وشعب ومؤسسات. هذه المحاكمة يجب ان تختلف، بشفافيتها ونفاذ القانون والعدل فيها، عن كل ما شهده العراق من"محاكمات"سابقة بعضها كان نموذجاً للوحشية وبعضها الآخر كان نموذجاً في المهازل. هذه محاكمة يجب ان تكون مهووسة بالانتقام، لان اكثر الانتقام حصل ولم يبق سوى الاقتصاص الجسدي من صدام واعوانه، بل يجب ان تؤخذ ببعدها التاريخي ليبقى منها شيء يتعلمه الشعب العراقي في مواجهة مستقبله. وبهذا المعنى، فإنها ذات علاقة مباشرة مع"تأسيس"الدولة العراقية للمرة الرابعة او الخامسة او العاشرة. ومهم جداً ان يحصل التأسيس الجديد، لا على جثث تسحل او تتدلى من خشبات المشانق او تعرض في الساحات وعلى شاشات التلفزة، وانما على مفاهيم ومبادئ يراد لها ان تسود بعدئذ ليكون سقوط النظام ايذاناً حقيقياً بقيام نظام جديد يستوعب الحقب السوداء ويستمد من دروسها ما يصنع التغيير. لا شك ان كلاماً كهذا سيثير غضب ذوي ضحايا النظام السابق، فهم تركوا عقوداً يتألمون وحدهم ويعانون القهر والقمع والاضطهاد وحدهم. لكن مشاركتهم هذه المشاعر واسترجاع المأتم الدائم الذي فرضه عليهم صدام كما الوقوف معهم، وهم ينتظرون بقايا احبائهم في المقابر الجماعية، لا تنفي ان الوقت الآن هو للمستقبل. لا يمكن لاي حكومة ان تنصح اولاد الضحايا وذويهم بمواصلة المآتم، لمجرد ان لديها مصلحة في ان يصرفوا اوقاتهم وطاقاتهم على انشطة تقعدهم وتبعدهم عن المشاركة في اعادة بناء البلد. ليس مطلوباً منهم ان ينسوا او ان يغفروا، بل ان يعملوا ليكون لهم دور في"التأسيس"متجاوزين مآسيهم. فالانتقام حاصل، وسيحصل، والمهم كيف سيحصل لئلا تتكرس معه تقاليد توصف بأنها"عراقية"من قبيل ان شيئاً لن يتغير. الحكومة العراقية على محك بالغ الحساسية، مهمتها منذ امس ان تؤمن اقصى الحماية والرعاية لعدوها، لان محاكمته ستكون علامة فارقة في عهدها ومستقبلها والنظرة الخارجية والداخلية اليها. هناك الكثير من الانطباعات الشعبية بأن صدام لن يصل الى المحاكمة، اي سيصار الى التخلص منه بشكل او بآخر. هذا ممكن طبعاً، بأوامر وايماءات رسمية او شبه رسمية، وحتى من دون اوامر. لكن المحاكمة افضل لمصلحة العراق والعراقيين. وليأت محامون من كل مكان. ما الضرر. طبعاً، ليس 1500، كما يقال، فهذه تظاهرة وليست"هيئة دفاع". واذا صحّ ما قاله وزير العدل لأحد المحامين الاردنيين، فهذا يعني ان احداً لن يتمكن من تولي الدفاع، ولو شكلياً، عن صدام حسين واعوانه. هل تريد الحكومة العراقية فعلاً محاكمة بهيئة الاتهام فقط. اذاً فهي اصدرت الحكم مسبقاً ولا داعي للمحاكمة. ما يعني عودة الى محاكم ما بعد الانقلابات المعروفة، وبالتالي ترسيخاً ل"التقاليد"التي يراد التخلص منها.