غريب هذا الجدل على محاكمة صدام حسين. لعل المُعْتَقَل مُتَعجّب شخصياً ازاء ما يقال، تعجّبه من بقائه على قيد الحياة حتى الآن، فهو خبير لا محاكمات او محاكمات خاطفة وبرقية. لكن خصومه، اميركيين وعراقيين، عبّروا عملياً عما لاح في ذهنه بل عما يعرفه، اذ تحدثوا عن "محاكمة" اعدام، والفارق بينه وبينهم هو سرعة التنفيذ. ولو عُثر عليه في الايام الاولى، ايام الفوضى بعد سقوط بغداد، لكان "حوكم" على الطريقة المعهودة في الانقلابات العراقية القديمة من سحل وشنق وتمثيل بالجثث. وجه الغرابة في الجدل انه بدأ بلهجة راقية ثم راح ينحدر. واضح ان المعنيين لم يدرسوا الامر مسبقاً، ربما لأنهم ظنوا ان اعتقال صدام مؤجل ان لم يكن مستحيلاً. لكنه حصل، ولم يكن ممكناً ان يحصل الا على نحو مفاجئ، لذا اخذهم على حين غرّة. وهكذا قيل اولاً انه سيواجه محاكمة علنية، ثم قيل انها ستكون محاكمة عادلة، فساد انطباع بأن الذين اعتقلوا الرجل هم الذين فرضوا مفهومهم للتعامل معه، بمعنى ان الاميركيين أمركوا المسألة وفقاً لرؤيتهم، فما دام موجوداً عندهم لا بد ان يعامل بالقانون. لكنه عندهم على ارض العراق، وهو يخصّ العراقيين قبل ان يخصّهم، اذاً فلا داعي للاختصام بشأن من سيعدمه، ولتترك هذه المهمة للعراقيين. كان رئيس مجلس الحكم الانتقالي عبدالعزيز الحكيم اول من صرّح بأن صدام سيُعدم، على رغم ان كل المواقف أشار الى "محاكمة"، ومن الطبيعي الا يستبق الحكم حتى لو كان الجميع متأكداً ان ملفه الثقيل لا يمكن ان يقود الا الى عقوبة الموت، بل ان الحكيم اضاف بنداً الى الجدول الزمني لنقل السلطة عندما حدد موعد الاعدام ليتزامن مع "تسلّم حكومة عراقية ذات سيادة" زمام الأمور بحلول الاول من تموز يوليو من السنة المقبلة. اي انه حاكمه عملياً وحكم عليه وعيّن وقت التنفيذ. عندئذ بدأ الانتقال من أمركة حديث المحاكمة الى عرقنته. لكن "العرقنة" قفزت بالجدل الى التفاصيل: محكمة عراقية ام دولية؟ اذا اختيرت المحكمة العراقية فليكن، لكن وفقاً لأي قانون، ومن سيضعه، واستناداً الى اي دستور، خصوصاً ان "المتهم" ليس شخصاً عادياً، ولم يرتكب جناية محددة في حق شخص عادي آخر، بل هو جنى على البلد والشعب. واذا اختيرت المحاكمة الدولية فليكن، لكن اي محكمة، فسابقة سلوبودان ميلوشيفيتش تطلّبت انشاء "محكمة خاصة" لم يفطن الاميركيون او بالأحرى لم يرغبوا في اجراء مماثل بالنسبة الى صدام. فهل يقدم الى المحكمة الجنائية الدولية حديثة الانشاء؟ أغرب ما حصل في الايام الاخيرة ان ثلاثة اطراف انشغلوا بموضوع المحاكمة: العراقيون وهم بالطبع معنيون ويتمتعون بصفة الادعاء، والاميركيون الذين يريدون ان يبرهنوا على "احترامهم" للقوانين والعدالة، والاسرائيليون الذين يريدون اثبات ان ظاهرة المانيا النازية وهتلر، التي استحقت محاكمة دولية توجد في العالم العربي ولا تقابلها ظاهرة اسرائيل وشارون خصوصاً ان الأخير صنفته قوانين بعض الدول متهماً تجب مساءلته ومحاسبته. والاكثر غرابة ان هذه الاطراف الثلاثة ليست موقعة على معاهدة انشاء المحكمة الجنائية الدولية، لكن الفارق ان العراق الجديد لديه مصلحة في التوقيع عليها. على رغم ان الموقف الاول الذي اعلنه الرئيس الاميركي بعد اعتقال صدام، وكذلك المواقف التي ابداها في مؤتمره الصحافي في اليوم التالي، ظلت في اطار ما يمكن ان يتوقع من دولة كبرى، الا ان جورج دبليو بوش ما لبث ان عاد الى "المفهوم العراقي" مطالباً بإنزال العقوبة القصوى في صدام حسين. اذاً، اصبح هناك حكمان مسبقان بالاعدام، والمحاكمة العلنية والعادلة غير متوقعة قبل بضعة اشهر. لماذا أراد الاميركيون المحاكمة طالما ان الاعدام كان متاحاً في لحظة الاعتقال، بمعزل عن السيناريو الذي يمكن ابلاغه للاعلام خصوصاً ان اشد المواقف معارضة للحرب لم تذهب الى حد التعاطف مع صدام او التمسك به؟ هناك أغراض اميركية غير عراقية يراد تحقيقها عبر هذه المحاكمة: "شرشحة" حاكم عربي وجعله درساً لمن يعتبر، ابتزاز حكومات المنطقة واحراجها، فضلاً عن حكومات اخرى غير عربية، واستغلال مسلسل المحكمة لحرف الانظار عن مسرحية "نقل السلطة" من دون نقلها... من قال ان صدام، منذ سقط حكمه، لم يعد مفيداً للاميركيين؟ هو مصرّ على ان يخدم أهدافهم الى آخر لحظة في حياته، وهم مصمّمون على استنفاد خدماته طالما انه على قيد الحياة، لذلك لم يقاوم، ولذلك لم يقتلوه.