يبدو أن الاسلام التركي لا يزال العقبة الرئيسية على الاقل من الناحية النفسية عند أوروبا لضم تركيا الاسلامية إلى النادي الأوروبي الذي طرقت أبوابه الدولة العثمانية منذ مؤتمر باريس عام 1854. وبعد 160 عاماً تحاول تركيا أن تجمع بين العالمين الاسلامي والأوروبي. فقد انعقد مؤتمر اسطنبول لوزراء خارجية الدول الاسلامية في منتصف حزيران يونيو الماضي وانتخب السيد إحسان أوغلو أميناً عاماً جديداً للمنظمة، وكانت المرة الأولى التي يتم فيها التصويت بعدما كانت القاعدة هي صدور القرارات بتوافق الآراء، وقد أثار انتخاب أول أمين عام تركي للمنظمة الاسلامية جدلاً واسعاً حول الطابع الاسلامي لتركيا وسياساتها في العالم الاسلامي، خصوصاً أن حكومتها من حزب العدالة والتنمية تحاول أن تقيم توازناً دقيقاً بين مختلف التيارات والمصالح والإتجاهات الأميركية والأوروبية، والعربية والاسلامية، كما تحاول جاهدة أن تفك الارتباط التاريخي في المدرك العربي بين تركيا وإسرائيل باعتبارها الدولة الاسلامية الوحيدة التي اعترفت باسرائيل فور قيامها، وأقامت لها سفارة في تل ابيب وقنصلية عامة في القدس الغربية. ويذكر المراقبون والباحثون في الشأن الاسلامي أن العلاقات التركية - الإسرائيلية كانت دائماً العقبة الرئيسية في علاقة تركيا بالمنظمة الاسلامية. وقد لاحظت ذلك بنفسي عندما كنت المستشار القانوني لهذه المنظمة طوال السنوات الأخيرة من القرن الماضي، اذ توترت العلاقات السورية - التركية إلى درجة الصدام المسلح، كما كانت سورية تشن حملة عاتية داخل المنظمة على التحالف الاستراتيجي بين تركيا وإسرائيل، وبلغ هذا التوتر ذروته عام 1997- 1998 مع التهاب الملف الكردي الذي كان يشكل أولوية مطلقة للسياسة الخارجية التركية حتى الآن، وكان لمصر دور في تسوية هذا التوتر. ولا يخفى أن إثارة التحالف التركي - الاسرائيلي في اجتماعات منظمة المؤتمر الاسلامي كان أحد الأوراق التي تسلحت بها سورية في مواجهة تركيا حتى تحصل على وضع أفضل في قضية المياه بين البلدين. وفي ضوء العلاقات التركية - الاسرائيلية، كان هناك ربط كامل في المدرك العربي بين هذه الوصلة من العلاقات الاقليمية وبين العلاقات الأميركية - التركية لدرجة أن المتخصصين في هذا الملف يربطون ربطاً كاملاً بين درجة حرارة العلاقات التركية - الأميركية، ودرجة حرارة العلاقات التركية - الإسرائيلية. ولهذا السبب فإن إضطراب العلاقات التركية - الأميركية بسبب ملف العراق، وإن كان الاضطراب راجعاً إلى عدد معقد من الحسابات الداخلية والدولية، فقد لاحظ المراقبون التوازي بين هذا الاضطراب وتحسن موقف تركيا في مساعيها للانضمام إلى الإتحاد الأوروبي، مهما كانت الشروط القاسية ومتطلبات العضوية عسيرة، وتواكب ذلك مع تدهور في العلاقات التركية الاسرائيلية بعدما اتخذت تركيا موقفاً عنيفاً ضد إسرائيل وناقداً لسياساتها في رفح، خلال زيارة أحد الوزراء الإسرائيليين لأنقرة. وترتب على ذلك سحب السفير التركي من تل ابيب احتجاجاً على الموقف الإسرائيلي. أثار هذا الموقف التركي دهشة كبرى في العالم العربي، لأنه بالمقارنة بمواقف الحكومات العربية وبسياق المجرى العادي للعلاقات التركية - الإسرائيلية يلفت الانتباه. ومن دون أن نقلل من أهمية هذا الموقف إلا أننا لاحظنا أنه اتخذ في وقت ظهر فيه رئيس الوزراء التركي شخصياً في أجهزة الإعلام العربية يدعو الى انتخاب المرشح التركي أمينا عاماً للمنظمة الإسلامية، ما أدى إلى تفسير الموقف التركي في العالم العربي على أنه مغازلة للحكومات العربية حتى تؤيد هذا الترشيح، باعتبار أن المجموعة العربية تشكل أقوى المجموعات الثلاث في المنظمة إلى جانب المجموعة الافريقية والآسيوية. وإذا أخذنا في الاعتبار خلفية العلاقات الإسرائيلية التركية ونظرة العالم العربي إلى عاصمة الخلافة الاسلامية السابقة، وعاصمة الدولة العثمانية، نظرة الشك وعدم اليقين، فإن تركيا ظلت بعيدة تماماً عن المنظمة الإسلامية ولم تنضم إليها رسمياً حتى الآن اعتماداً على ميوعة نظام العضوية في المنظمة وترك الباب مفتوحاً لأي دولة تدعي أنها دولة إسلامية من دون أن يشترط ميثاق المنظمة شروطاً محددة أو معايير منضبطة لمعنى الدولة الاسلامية. ويمكن أن نصور إجمالاً العلاقة بين تركيا ومنظمة المؤتمر الاسلامي على أساس أن تركيا كانت مترددة في الابتعاد أو الاقتراب من المنظمة وفقاً لحسابات تركية خالصة. أما دوافع الاقتراب من المنظمة، فأهمها المشكلة القبرصية التي كانت ولا تزال إلى حد ما جزءاً مهماًً من السياسة الخارجية التركية. فعندما قرر رؤوف دنكتاش زعيم طائفة الأتراك القبارصة في قبرص الاستفادة من الاحتلال العسكري التركي لحوالي نصف الجزيرة المقسمة، واتجه إلى إعلان دولة مستقلة إسلامية، كانت تركيا متحمسة تماماً لهذا الاتجاه نكاية في غريمتها التاريخية اليونان، إذ كانت قضية قبرص أحد الملفات الساخنة في العلاقات المتدهورة بين البلدين خلال السبعينات والثمانينات من القرن الماضي، ولذلك استضافت تركيا من دون أن تكون عضواً في المنظمة، المؤتمر السابع لوزراء خارجية الدول الاسلامية في اسطنبول عام 1976، ولكن هذا المؤتمر خيب أمل تركيا، لأنه وقف موقفاً حذراً من القضية القبرصية مراعياً موقف اليونان الموالي للقضايا العربية في ذلك الوقت، وإذ كانت اليونان المسيحية الأرثوذكسية أكثر نفعاً للعالم الإسلامي من تركيا الإسلامية. فقرر المؤتمر تحويل قضية قبرص من طابعها السياسي إلى طابعها الإنساني، وأكد تضامن العالم الإسلامي مع الأقلية المسلمة في قبرص، ولكن في إطار وحدة الجزيرة وسلامة أراضيها، وذلك في إطار النظرية العامة للمؤتمر الاسلامي بالنسبة الى الاقليات الاسلامية في الدول غير الاسلامية. وكان هذا الموقف كافياً لتركيا، لأن تتجنب مرة أخرى دعوة المنظمة إلى اجتماعات سياسية فيها، وإن كانت قد رأست إحدى لجان القمة الاسلامية، وهى اللجنة الاسلامية للتعاون التجاري والإقتصادي. وعندما أعلن الجزء التركي من قبرص استقلاله عن الجزيرة عرض الموضوع على مجلس الأمن عام 1983 فأصدر قراره الرقم 592 الذي استنكر فيه هذا العمل ودعا أعضاء المنظمة الدولية إلى عدم الاعتراف بالجمهورية الوليدة، ولم يؤيد أحد في العالم الإسلامي هذا القرار إلا باكستان التي كانت عضواً في مجلس الأمن في ذلك الوقت، وعبرت عن هذا الموقف بالامتناع عن التصويت، لأنها لم تجرؤ على مواجهة المجتمع الدولي الذي أصر على المحافظة على وحدة قبرص وسلامة أراضيها. أما المناسبة الثانية التي أقبلت فيها تركيا على المنظمة، فهى سعيها نحو منصب الأمين العام الجديد منها، خاصة وأنها حرمت منذ قيام المنظمة رسمياً العام 1972 من أي منصب قيادي داخل المنظمة. فقد توالى على منصب الأمين العام شخصيات ماليزية آسيا ثم مصرية المنطقة العربية، ثم سنغالية المنطقة الافريقية، ثم تونسية المنطقة العربية مرة ثانية، ثم باكستانية المنطقة الآسيوية مرة ثانية، ثم نيجرية المنطقة الإفريقية مرة ثانية، ثم مغربية المنطقة العربية مرة ثالثة، ثم كان الدور على آسيا، فتقدم مرشح من ماليزيا وآخر من بنغلادش. أما ماليزيا فقد رشحت، على خلفية السمعة الطيبة المدوية في العالم الإسلامي، وزعيمها السابق الدكتور مهاتير محمد، الذي ضرب بدولته المثل في أن الدولة الاسلامية الملتزمة يمكن أن تصبح دولة متقدمة علمياً واقتصادياً، فكسر بذلك الحلقة المفرغة التي ارتبطت بالإسلام والمسلمين وكرسها الغرب، وهى الارتباط بين الاسلام والتخلف. أما بنغلادش فقدمت مرشحاً لها ضد باكستان عام 1984، في مؤتمر وزراء الخارجية في صنعاء كانون الأول - ديسمبر 1984، ولكن المؤتمر أيد شريف الدين بيرزادة وزير الخارجية والعدل السابق في باكستان، فظلت بنغلاديش تنتظر دور آسيا طوال عشرين عاماً. وكان الاختيار بين الدول الثلاث صعباً، فمن الوجهة الاخلاقية بدت تركيا هى الأحق بها تأكيداً لهويتها الاسيوية، وإن كانت تحسب على أنها دولة أوروبية، مما يفتح الباب للمجموعة الإسلامية الأوربية الجديدة في البوسنة وجمهوريات آسيا الوسطى الاسلامية. غير أن التحفظ على تركيا كان مصدره العلاقة بينها وبين الولاياتالمتحدة التي كانت تقترب من مرتبة استخدام تركيا في إطار السياسة الأميركية في العالم العربي وترشيح انقرة كنموذج يطبق في سيناريو الشرق الأوسط الكبير، فضلاً عن بقايا المرارة العربية من الأطماع التركية في العراق والإطار العام للعلاقات التركية الاسرائيلية، بالاضافة إلى المخاوف من أن اهتمام تركيا الدولة بمرشحها على هذا النحو يعكس رغبة هذا البلد في إصلاح المنظمة الاسلامية بالمعايير الأميركية. ومن ناحية أخرى، فإن عوامل التباعد بين تركيا والمنظمة كانت تتمثل أساساً في إصرار تركيا على سياستها العلمانية، وحرص الجيش على تأكيد هذه السياسة والخلط الظاهر بين العلمانية في الداخل والعلمانية في السياسة الخارجية. ونحن نعتقد أن اختيار الدكتور إحسان أوغلو، وهو ليس غريباً عن عمل المنظمة وقد تلقى تعليمه في مصر وله صداقات واسعة في دوائر المنظمة، سيكون نقلة جديدة في إصلاح المنظمة حتى لو ظل العالم الاسلامي على حاله. ونأمل أن يدرك الأمين العام الجديد أن التصويت إجراء لاتخاذ القرار، وليس وسيلة لإثارة الحساسيات مع الدول الاعضاء الأخرى التي لم تسانده، وعليه أن يدرك أن الوجه التركي ليس مألوفاً في المنظمة، وعليه أن يثبت أن هذا الإختيار كان كسباً للمنظمة ولتركيا وللداعين مثلي إلى عدم التفريط في الوجه الاسلامي لتركيا أو اليأس من عودتها إلى الحظيرة الاسلامية بأوسع معانيها، وأن تكون نموذجاً فريداً يجمع بين الحضارتين الاسلامية والغربية، حتى تقضي على هذا التناقض الذي يتسع يوما بعد يوم في ذهن الكثيرين، حتى يأس البعض من مجرد الحوار بين ضفتي المتوسط. * كاتب مصري.