روسيا تعلن السيطرة على بلدتين جديدتين في أوكرانيا    النيابة العامة السعودية والأردنية توقعان مذكرة تعاون لتعزيز مكافحة الجريمة والإرهاب    القبض على (5) إثيوبيين في جازان لتهريبهم (90) كجم "قات"    المملكة توزع 724 سلة غذائية و724 حقيبة صحية في مدينة سرمدا بمحافظة إدلب    المسعودي يُوقِّع «الاتصال المؤسسي.. المفهوم والاتجاهات الحديثة» في «كتاب جدة»    شيخ شمل قبائل الحسيني والنجوع يهنى القيادة الرشيدة بمناسبة افتتاح كورنيش الهيئة الملكية في بيش    "مالك الحزين" يتواجد بمحمية الملك سلمان الملكية    صورة الملك تستوقف معتمرا بوسنيا    نائب رئيس نيجيريا يغادر جدة    غداً "رينارد" يعقد مؤتمراً صحفياً عن مواجهة الأخضر والبحرين    الأمير محمد بن ناصر يفتتح شاطئ الهيئة الملكية بمدينة جازان للصناعات الأساسية والتحويلية    ولي العهد يجري اتصالاً هاتفياً بملك المغرب للاطمئنان على صحته    الشؤون الإسلامية بجازان تنفذ ورشة عمل بمحافظة صبيا    مدير عام الشؤون الإسلامية في جازان يتفقد مسجد العباسة الأثري بمحافظة أبي عريش    %20 من المستثمرين شاركوا في الاكتتابات العامة بالمملكة    وزارة التعليم تنظم ورشة عمل "المواءمة مع التغيير والتحول في قطاع الخدمات المشتركة" في جازان    تعرف على قائمة المتوجين بلقب كأس الخليج    لدراسة أجندة المرحلة الانتقالية.. سورية على موعد مع حوار وطني شامل    إمام الحرم المكي: الرسل بعثوا دعاة إلى الخير وهداة للبشر    آل بنونة وآل قاضي يتلقون التعازي في حورية    خطيب المسجد النبوي: أعظم وسام يناله المسلم أن يكون أحبّ الناس إلى الله    الدفاع المدني السوري: «تماس كهربائي» أشعل نيران «ملعب حلب»    البدء بأعمال صيانة جسر تقاطع طريق الأمير نايف مع شارع الملك خالد بالدمام ... غدا السبت    (عيد) أفضل حارس للبطولة الخليجية الأولى والثانية    تراجع أسعار الذهب 2596.89 دولارًا للأوقية    الخطوط السعودية ووزارة الإعلام ترفعان مستوى التنسيق والتعاون المشترك    5 إستراتيجيات لإنهاء حرب روسيا وأوكرانيا    رئيسا «الشورى» والبرلمان الباكستاني يبحثان تعزيز التعاون المشترك    كأس العالم 2034.. السعودية ترسم مستقبل الرياضة والشراكات العالمية    خير جليس يودّع «عروس البحر» بتلويحة «جدّة تقرأ»    الأندية السعودية.. تألق آسيوي في الملعب والمدرجات    رغم المخاوف والشكوك.. «سورية الجديدة» تتحسس الخطى    لسرعة الفصل في النزاعات الطبية.. وزير العدل يوجه بتدشين مقر دوائر دعاوى الأخطاء المهنية الصحية    دروس قيادية من الرجل الذي سقى الكلب    الحصبة.. فايروس الصغار والكبار    مدربون يصيبون اللاعبين    تقطير البول .. حقيقة أم وهم !    328 سعودية ينضممن إلى سوق العمل يومياً    استغلال الأطفال على منصات التواصل الاجتماعي يهدد صحتهم النفسية والاجتماعية    تمارا أبو خضرا: إنجاز جديد في عالم ريادة الأعمال والأزياء    إبراهيم فودة.. الحضور والتأثير    رسائل    السعوديون في هيثرو!    بحضور تركي آل الشيخ ... فيوري وأوسيك يرفعان التحدي قبل النزال التاريخي    النصر ومعسكر الاتحاد!    الإخلاء الطبي يشترط التأمين التعاوني للممارسين الصحيين    25 ألف سعودية يثرين الأسواق الناشئة    «سكن».. خيرٌ مستدام    مشاعل الشميمري: أول مهندسة في هندسة الصواريخ والمركبات الفضائية في الخليج العربي    مستشفى الدكتور سليمان الحبيب بالفيحاء ينقذ مراجعاً عانى من انسداد الشرايين التاجية    أدوية إنقاص الوزن قد تساعد في القضاء على السمنة لكن مخاطرها لا تزال قائمة    انفراد العربيّة عن غيرها من لغاتٍ حيّة    السيسي: الاعتداءات تهدد وحدة وسيادة سورية    التجارة تضبط 6 أطنان مواد غذائية منتهية الصلاحية بمستودع في جدة    صحة الحديث وحدها لا تكفي!    وزير الدفاع يستقبل نائب رئيس الوزراء وزير الدفاع الأسترالي    د. هلا التويجري خلال الحوار السعودي- الأوروبي: المملكة عززت حقوق الإنسان تجسيداً لرؤيتها 2030    رئيس الوزراء العراقي يغادر العُلا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



كتاب أحمد داوود أوغلو "العمق الاستراتيجي"... الأبعاد الدولية والإقليمية للعلاقات التركية - الإسرائيلية (3 من 3)
نشر في الحياة يوم 09 - 09 - 2010

يوضح وزير الخارجية التركي أحمد داود أوغلو أبعاد الاتفاق الاستراتيجي التركي - الاسرائيلي وعواقبه على السياسة التركية حيال العالم العربي الذي جاء رد فعله ليزيد من هامشية تركيا في المنطقة وذلك قبل أن تعيد أنقرة تقويم موقفها بعد عام 2000 وتقرر تغيير مقاربتها للصراع العربي - الاسرئيلي بما يأخذ في الاعتبار وضع تركيا كعنصر رئيسي في المنطقة.
والفصل المنشور جزء من الترجمة العربية لكتاب داود أوغلو «العمق الاستراتيجي: موقع تركيا ودورها في الساحة الدولية» الذي تنشر «الحياة» على ثلاث حلقات فصولاً منه.
يصدر الكتاب قريباً عن «الدار العربية للعلوم - ناشرون» و«مركز الجزيرة للدراسات» بترجمة محمد جابر ثلجي وطارق عبد الجليل ومراجعة بشير نافع وبرهان كوروغلو.
تعد التطورات السريعة والشاملة التي تشهدها العلاقات التركية - الإسرائيلية واحدة من أهم التطورات التي تعنى بالتوازنات العامة داخل المنطقة، وبوضعية تركيا داخل المنطقة في مرحلة ما بعد الحرب الباردة. وبالنظر إلى تطور العلاقات التركية - الإسرائيلية منذ قيام دولة إسرائيل وحتى الآن، نجد أن هذه العلاقات تسير على مستويين: يتعلق أحدهما بالحسابات الدولية، ويتعلق الآخر بالحسابات الإقليمية.
يقع في صلب المقاييس الدولية ذلك التوافق القائم بين محور القوة الدولية الذي حقق لإسرائيل الظهور بوصفها دولة داخل الوضع الدولي في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وبين اختيار تركيا للمعسكر الذي اضطرت للانضمام إليه بسبب التهديدات السوفياتية آنذاك. وكما أكدنا في القسم الذي تناولنا فيه ظهور إسرائيل على مسرح التاريخ بوصفها قوة إقليمية، فإن ظهور هذه الدولة كان نتيجة لدعم المحور الأطلسي (إنكلترا - الولايات المتحدة) في الأساس. أما تركيا، فقد نجحت في تجاوز التهديد السوفياتي بعد الحرب العالمية الثانية باتخاذها القرار الاستراتيجي في الاتجاه نحو المحور ذاته. وإذ أدت حالة التوازي هذه داخل المحور العالمي إلى جعل تركيا شريكاً إقليمياً حتمياً لإسرائيل، فقد كانت تركيا تضع دائماً في اعتبارها ارتباطات إسرائيل في البنية السياسية الإقليمية، وتأثيرها داخل النظام الأميركي على وجه الخصوص. وفي ظل هذا التوازي في المحور الدولي، لعبت قوة اللوبي اليهودي العالمي دوراً مؤثراً في أن تصبح إسرائيل عنصر ضغط على القوى الدولية، وعلى رأسها الولايات المتحدة، أكثر من كونها دولة قومية ذات صبغة إقليمية. وعند النظر من هذه الزاوية، نجد أن العلاقات التركية - الإسرائيلية قد اتسمت بخصوصية تبادلية مع العلاقات التركية - الأميركية، فقد أدت فعاليات اللوبي اليوناني والأرميني ضد تركيا إلى سعي تركيا إلى الحصول على دعم اللوبي اليهودي، باعتباره عنصراً موازناً. وأبدى اللوبي اليهودي بدوره اهتماماً بتوظيف هذا الدور التوازني على نحو يفتح الطريق أمام العلاقات التركية - الإسرائيلية.
ووفر التأثير الإسرائيلي داخل الولايات المتحدة، والقوى المنتمية للمعسكر الغربي باعتبارها عناصر دعم جانبية، عنصر ضغط ملموس في علاقات تركيا ذات الصبغة الإقليمية مع إسرائيل. أدى الضغط المزدوج من مطالب الدول العربية في المنطقة، من ناحية، وتأثيرات المعسكر الغربي، من ناحية أخرى، إلى قيام تركيا بالبحث عن التوازن في سياستها الإقليمية. وتثير التعرجات السياسية لسياسة تركيا الخارجية خلال عقد الخمسينات الانتباه، لا سيما عند تصاعد ضغوط الاتحاد السوفياتي وتهديداته الاشتراكية التوسعية في المنطقة، التي أدت بدورها إلى ارتفاع قيمة الدعم من قبل المعسكر الغربي. وفقاً لمقتضيات المعيار العالمي، تأثرت العلاقات التركية - الإسرائيلية بسبب التوترات التي تعرضت لها العلاقات التركية - الأميركية، التي بدأت مع أزمة قبرص عام 1964 وخطاب جونسون، ثم تصاعدت في منتصف السبعينيات مع الحظر الأميركي. في تلك الفترة، أقامت تركيا علاقات اقتصادية مع الاتحاد السوفياتي. كما أدى إقصاء إسرائيل، بعد حرب 1967، من قبل معظم الدول غير الغربية، وفي مقدمها دول معسكر عدم الانحياز، وليس من قبل الدول العربية فقط، إلى انتهاج تركيا سياسة متأنية في علاقتها بإسرائيل. واكتسبت علاقة تركيا بإسرائيل مزيداً من الشفافية مع الأزمة النفطية، وبعد إعلان إسرائيل القدس عاصمة أبدية لها، فخفضت تركيا من علاقتها الدبلوماسية مع إسرائيل إلى مستوى سكرتير ثانٍ.
اكتسبت الولايات المتحدة مع انتهاء الحرب الباردة صفة القوة العظمى الوحيدة، وأفصحت عن هذه الصفة في الشرق الأوسط من خلال حرب الخليج، وطرح مفهوم «النظام العالمي الجديد». وبهذا عملت على ترسيخ تصور بأن ثمة بناء جديداً سيجري إنشاؤه في الشرق الأوسط في ظل هذا النظام العالمي الجديد. ولد هذا الطرح زخماً من التوقعات والسيناريوات المتعلقة بأن ثمة دولتين من دول الشرق الأوسط ستصبحان دولاً محورية في النظام الجديد هما تركيا وإسرائيل؛ فقد استمرت علاقة هاتين الدولتين التحالفية مع الولايات المتحدة خلال فترة الحرب الباردة دون انقطاع، على رغم ما شابها من مشكلات بسيطة. وقد أدت نتائج عملية السلام في الشرق الأوسط، بما في ذلك إنهاء المقاطعة الدولية لإسرائيل، إلى أن تتصرف تركيا بمزيد من الحرية في علاقاتها مع إسرائيل، بعد فترة لم تتضح فيها في شكل عام طبيعة العلاقات بينهما، سيما أن وضع الضغط المزدوج تعرضت له تركيا أثناء الحرب الباردة في الاعتبار. أما إسرائيل، فقد انطلقت نحو تحقيق انفتاح ديبلوماسي، واقتصادي - سياسي، من أجل تطبيق استراتيجيتها الجديدة التي تناولناها من قبل، وذلك من خلال تعميق علاقاتها مع الدول التي تعاملت معها في إطار موازٍ لخياراتها الدولية الأساسية في مرحلة الحرب الباردة. ومن ناحية أخرى، تبنت إسرائيل سياسة فعالة، لا سيما في النطاقات التي خلفها الاتحاد السوفياتي، وهو ما أدى إلى ترسيخ الاعتقاد بأن إسرائيل ستتعاون مع تركيا، التي تبدي اهتماماً استراتيجياً طبيعياً بالنطاقات ذاتها، ضمن المحور الأميركي وفي المناطق خارج الشرق الأوسط أيضاً.
تحدث مظاهر مثل هذه التحالفات الاستراتيجية المستقرة الساكنة في نظام العلاقات الدولية، الذي تصنعه قوى دينامية وأنشطة تكتيكية سريعة ومرنة، تأثيراً من شأنه تضييق ساحة التحرك أمام الدول الدينامية. فعندما يقوم اللاعبون الذين يتصرفون بمرونة تتجاوز ذلك الوضع في علاقات التحالف لديهم بفتح ساحاتهم، تضيق المساحات المتاحة للاعبين الذين يقومون بأنشطة علنية صاخبة. وقد ظهرت نتائج مشابهة لذلك في العلاقات بين تركيا وإسرائيل؛ ففي بداية تعمق علاقاتهما، بدا ذلك التوجه مناسباً لكل منهما من حيث الخيارات الدولية، ثم أخذ مع مرور الوقت يشكل تبعات بديلة بالنسبة للعلاقات مع اللاعبين الدوليين والإقليميين. وإن أدت الإمكانات التي وفرتها هذه العلاقة إلى فتح مجالات جديدة بالنسبة لإسرائيل، فإن ما تتسم به هذه العلاقات من بعد علني ورسمي وأيديولوجي في بعض الأحيان، أثر سلبياً على علاقات تركيا الأخرى. أدى ذلك التقارب، الذي تمت صياغته في مثلث الولايات المتحدة - إسرائيل - تركيا، إلى بروز تحفظات على علاقات تركيا مع قوى دولية أخرى، في مقدمها الاتحاد الأوروبي، ثم الصين وروسيا. ومن ناحية أخرى، أخذ ذلك الترابط الديبلوماسي الذي يتصف بالسكون، يشكل عبئاً على علاقات تركيا مع دول آسيا وإفريقيا ومنظمة المؤتمر الإسلامي على وجه الخصوص.
الاستراتيجية الإقليمية الإسرائيلية
وعملية السلام في الشرق الأوسط
والعلاقات التركية - الإسرائيلية
كما سبق أن أكدنا في القسم الذي تناولنا فيه وضعية إسرائيل في المنطقة، فإن إسرائيل التي تشعر بأنها باتت حبيسة شريط ضيق في المنطقة، وتواجه أزمة أمنية خطيرة، وضعت تلك الحقيقة في بؤرة معاييرها الاستراتيجية، وحددت ثلاثة شروط أساسية من أجل تأمين وجودها وتأثيرها في المنطقة:
1- الحصول على الدعم الأمني الدولي، والأساس الشرعي والقانوني.
2- الحصول على الدعم الفعال من القوى غير العربية في الشرق الأوسط، أو على الأقل تحييدها إزاء مشكلة الشرق الأوسط، التي تبدو للوهلة الأولى مشكلة عربية - إسرائيلية.
3- التحكم في إيقاع التوازنات بين الدول العربية، من خلال المناورات التي من شأنها الحيلولة دون تحول الدول العربية إلى معسكر واحد.
تحقق الشرط الأول، الذي تناولناه في إطار البعد الدولي، من خلال الدعم الأميركي الفاعل، وتوجيه الولايات المتحدة للمنظمة الدولية لتعزيز هذا الدعم؛ واستخدام الولايات المتحدة لحق الفيتو حيال كثير من قرارات الأمم المتحدة ضد إسرائيل، مؤشر واضح على ذلك. ويعتبر الشرط الثاني عنصراً مهماً في سياسات إسرائيل منذ إنشائها حتى الآن. فحلف الإطار الخارجي (Periphery Pact)، الذي طورته إسرائيل عقب قيامها، كان يستهدف إقامة علاقات تعاون وطيدة مع الدول غير العربية التي تحيط بالدول العربية مثل إيران، وتركيا، وإثيوبيا. ذلك التعاون، الذي كان الهدف من زيارة بن غوريون غير الرسمية لتركيا آنذاك، بات مقياساً دأبت إسرائيل على وضعه في اعتبارها دائماً. كما أن لهذه المقاربة أثرها أيضاً في علاقات التقارب التي قامت بين إسرائيل وإيران في عهد الشاه. وقد حملت الخلافات التي عاشتها تلك الدول مع الدول العربية أهمية كبري بالنسبة لإسرائيل، نظراً لأن هذه الخلافات أتاحت لإسرائيل ساحة مناورة إقليمية. وعلى رغم أن التطورات التي برزت مع سقوط نظام الشاه في إيران أدت إلى إضعاف جهود إسرائيل لإقامة توازن إقليمي، فإن إسرائيل لم تواجه خطراً إقليمياً شاملاً، وذلك لنجاحها في اختراق مصر ديبلوماسياً من خلال معاهدة كامب ديفيد. وتحمل العلاقات التي طورتها إسرائيل مع الدول غير العربية أهمية كبرى من حيث إمكانية تشكيل سياسات إقليمية مستقرة نسبياً، لا سيما في الفترات الانتقالية التي تحكمها مقاييس أكثر دينامية. فتقدم إسرائيل بخطى ثابتة نحو مزيد من التعاون المرحلي مع تركيا، من خلال استغلال الوضع الذي وجد مع حرب الخليج وعملية السلام في الشرق الأوسط، يمثل تطوراً ملائماً لأقصى درجة، وهو تطور يعبر عن استمرارية في الاستراتيجية الإقليمية العامة.
وأما الشرط الثالث لهذه الاستراتيجية الإقليمية المتعلق بأن لا تصبح الدول العربية معسكراً واحداً، فقد تحقق من خلال الديناميات الداخلية للسياسة العربية، والاستخدام الفعال للروابط الدولية، والخلافات الثنائية القائمة بين الدول العربية. استطاعت إسرائيل توجيه ديناميات آليات المثلث الاستراتيجي (المؤلف من تركيا ومصر وإيران)، بواسطة انتهاج ديبلوماسية مؤثرة لأقصى درجة، واستخدام قوة السياسة الواقعية عند اللزوم. وهناك العديد من الأمثلة المدهشة، التي يكتظ بها تاريخ العلاقات التي أقامتها إسرائيل مع الدول العربية، كل على حدة. ويحتوي هذا المسار على تجارب جديرة بالانتباه، مثل ديمومة عناصر الارتباط الإسرائيلي بإنكلترا والولايات المتحدة في السياسات الإسرائيلية حيال الأردن والمملكة العربية السعودية؛ والديبلوماسية متعددة الخيارات، التي تم تطبيقها أثناء عملية جذب مصر ومنظمة التحرير الفلسطينية، اللتين كانتا تحتلان موقع الريادة في السياسة العربية في المرحلة السابقة، إلى دائرة العلاقات المباشرة مع إسرائيل؛ وتهميش دور بعض الدول العربية أمام التكتلات المضادة التي تضم بعض الدول العربية الأخرى، مثل مصر عبد الناصر التي شكلت قوة كاريزمية قادرة على إطلاق تحركات جماهيرية في العالم العربي، وعراق صدام في أواخر الثمانينات.
كما أوجدت العلاقات التركية - الإسرائيلية، التي تقدمت بسرعة فائقة في مرحلة ما بعد الحرب الباردة، تأثيرات عززت هذه المرتكزات الثلاثة بالنسبة لإسرائيل؛ فدخول تركيا، وهي واحدة من أهم القوى في المنطقة، في علاقات وثيقة مع إسرائيل، دعم جهود إسرائيل الرامية للحصول على الشرعية الدولية. وكان دخول دولة غير عربية واقعة في المحيط الخارجي للشرق الأوسط في تعاون استراتيجي مع إسرائيل، وتولد مناخ عداء لتركيا في أوساط الرأي العام العربي، لفت الانتباه إلى أن ساحة الخلاف في الشرق الأوسط، الذي يموج بالمشكلات، لا تتمثل فقط في العلاقات الإسرائيلية - العربية، بل أن من الممكن أن يحدث تدهور مشابه في العلاقات التركية - العربية أيضاً. وعند النظر من حيث الشرط الثالث، نجد أن الموقف حيال تركيا، قد أدى إلى نشوب خلافات تكتيكية جديدة بين الدول العربية، انعكست على قمة القاهرة. وفي المقابل، سعت تركيا إلى الحيلولة دون أن تؤدي هذه العلاقات إلى تضييق ساحاتها، فأكدت وبإصرار على أن علاقاتها مع إسرائيل ليست موجهة ضد أي طرف ثالث. بيد أن تطور هذه العلاقات على نحو سريع وشامل، حال دون تجاوز ردود الفعل المناهضة لتركيا. ومن الواضح أن هذه العلاقة اتسمت بصبغة تكتيكية موجهة ضد سورية، التي تدعم حزب العمال الكردستاني وتحاول تشكيل علاقات مع اليونان في مواجهة تركيا، وقصد بها أيضاً تعزيز العمليات الاستخباراتية التركية المضادة للإرهاب، وتوفير إمكانات جديدة لمشروعات التحديث العسكري التركي. وعلى رغم الكم الكبير من الجهود، إلا أن تركيا لم تحُل دون تضييق ساحة المناورات الديبلوماسية التركية في المنطقة حتى نهاية عقد التسعينات. كما أن الضغوط المحتملة من الدول العربية اليوم، تدفع دولاً عربية عدة إلى ترك مسافة في علاقاتها مع تركيا. وينسحب هذا الوضع على دول أخرى أعضاء في منظمة المؤتمر الإسلامي، حيث لم تتمكن تركيا، في الاجتماع الأخير للمنظمة، من الحصول على أي دعم تقريباً لتأييد مرشحها لتولي مقعد الأمانة العامة للمنظمة؛ وهذا أحد النتائج المهمة للمناخ السيكولوجي الذي أوجدته علاقاتها مع إسرائيل.
وكما أن هذه العلاقة لم تحقق لدولة مثل تركيا، وهي من الدول ذات العمق التاريخي والجغرافي في المنطقة، دوراً فعالاً في عملية السلام بالشرق الأوسط، فقد أدت أيضاً إلى أن تبدو تركيا وكأنها عنصر مهمل في هذه العملية. كانت الوسيلة التي يمكن لتركيا أن تحتوي بها التوترات التي شهدتها من الدول الأخرى في المنطقة خلال المرحلة الأولى من العلاقات التركية - الإسرائيلية، أن تحتل تركيا موقعاً ذا ثقل ديبلوماسي لدى كل من الطرفين، أي العرب وإسرائيل. إلا أنها لم تتمكن أيضاً من تحقيق ذلك. إضافة إلى ذلك، لم يكن لتركيا دور مركزي في الاجتماعات ذات المحتوى الاقتصادي والسياسي المتعلقة بإعادة بناء الشرق الأوسط، ولم تظهر حتى في موقع من يستشار بخصوص مباحثات السلام. ومن الصعب في هذا الصدد القول إن الوضع الملائم الذي تطور بعد لقاءات باراك - عرفات في تموز (يوليو) 2000 قد ساعد على تقييم الموقف التركي تقييما جديداً. والواقع أن إعادة بناء الشرق الأوسط ومكانة العلاقات التركية - الإسرائيلية في هذا البناء، تشمل عناصر تتطلب فعلاً إعادة التقييم. أول هذه العناصر، ظهور صورة الدور التركي، في فترة ما بعد حرب الخليج وفي عملية السلام في الشرق الأوسط وجهود إعادة بنائه، وكأنه قد حصر في ملفات القضايا الأمنية. ويضع مثل هذا الموقف تركيا فعلياً خارج الدائرة، لا سيما في ما يتعلق بالموضوعات الاقتصادية. شاركت تركيا في دفع كلفة مشروعات أمنية متعددة في المنطقة، بغية التحكم والسيطرة في شؤون بعض دول المنطقة مثل العراق وسورية وإيران، بيد أنها لم تتبوأ مكاناً فاعلاً في القمم الاقتصادية التي استهدفت إعادة توزيع ثروات الشرق الأوسط. أضف إلى ذلك، أنها فقدت بعض مواردها السابقة، مثل خط أنابيب كركوك - يومورتالك.
كان انعدام التوازن بين التكاليف الأمنية والمصالح الاقتصادية من الخصائص الأساسية للعلاقات التي أقامتها تركيا مع المعسكر الغربي. في الماضي، تحملت تركيا الأعباء الأمنية للجناح الجنوبي في حلف الناتو، ولكنها حرمت لسنوات طويلة من إيرادات الاتحاد الأوروبي. وثمة ظنون حول وجود نية في حرمان تركيا من المصادر والمكاسب الاقتصادية في مرحلة ما بعد الحرب الباردة، على رغم أنها الدولة التي تحملت الأعباء الأمنية لإسرائيل وللدول الغربية في الشرق الأوسط. فتبني دور الشرطي في المنطقة، من دون امتلاك الكلمة في شكل أو آخر في ما يخص الموارد الاقتصادية في الشرق الأوسط، والعمل على توفير الأمن الإقليمي بهذه الطريقة، يبدو وكأنه لعبة سهلة، غير أنها مجازفة خطيرة. وعلى تركيا أن تتساءل عن سبب استدعائها إلى المقدمة في قضايا الترتيبات الأمنية، أكثر من وجودها داخل المحافل الاقتصادية في ترتيبات الشرق الأوسط الجديدة.
ويظهر العنصر الثاني قدرة إسرائيل على توسيع نطاق ساحة مناورتها فيما يتعلق بالمسائل الأمنية؛ فبينما كانت إسرائيل تجري مباحثات للتعاون الأمني مع تركيا، كانت في الوقت نفسه تعرض على قبرص اليونانية بيعها طائرات تجسس تعمل بالتحكم عن بعد، وحاملات جنود مصفحة، وأنظمة اتصالات إلكترونية. ومن اللافت للنظر هنا أن إسرائيل تحتل المرتبة الثالثة من حيث توريد السلاح لقبرص اليونانية، بعد روسيا وفرنسا. وقد حملت الزيارة الرسمية التي أجراها الرئيس الإسرائيلي عزرا وايزمان إلى قبرص اليونانية خلال مرحلة التوتر بين تركيا وسورية خصائص لافتة للنظر، من حيث التوازنات في شرق المتوسط والتأثير الإقليمي المتبادل والمرونة الديبلوماسية التي تتبعها إسرائيل. كانت لهذه الزيارة أهمية خاصة نظراً الى كونها الزيارة الأولى التي يقوم بها رئيس إسرائيلي لقبرص اليونانية، وقد أثبتت مرة أخرى أن لعبة الديبلوماسية في المنطقة تمضي داخل متاهة بالغة التعقيد. أكد وايزمان في زيارته هذه على ثلاث نقاط، أجاب فيها على كليريديس، الذي أعرب عن قلقه من اتفاقية التعاون العسكري والاستراتيجي بين إسرائيل وتركيا والحساسية التي يبديها الشعب اليوناني حيالها:
1- إن علاقة التعاون الاستراتيجي التركي - الإسرائيلي لا تحمل مطلقاً أي صفة ضد النظام اليوناني - القبرصي، وهي في هذا الإطار لا تمثل أي عبء خاص بالنسبة لإسرائيل.
2- لن تنفتح هذه العلاقة على أية جبهة ثانية، موجهة ضد سورية من إسرائيل، في حال تصاعد التوتر التركي - السوري.
3- إن إسرائيل، المنهمكة في مشكلاتها الخاصة، ليس بوسعها القيام بأية وساطة لحل المشكلة القبرصية بين تركيا وقبرص اليونانية.
تظهر هذه النقاط الخطوط الفاصلة والدقيقة التي يرسمها التعاون الاستراتيجي الإسرائيلي - التركي في ما يخص علاقات إسرائيل - قبرص اليونانية/اليونان، وإسرائيل - سورية/الدول العربية. ويبرز هذا الخط الفاصل أن إسرائيل تنتهج سياسة تخفض من مخاطرها إلى الحد الأدنى على امتداد خطوطها الثلاثة. أما ما يلفت النظر هنا، فهي تلك الحساسية التي تبديها إسرائيل، في سياق علاقة التعاون التي تقيمها مع تركيا، من أجل توطيد علاقات حميمة مع قبرص اليونانية واليونان. وعلى النقيض من الآراء التي ترجع مشروعية التعاون التركي - الإسرائيلي إلى محاولة إيجاد توازن مع الاتفاق الموجود بين اليونان - قبرص اليونانية - سورية، نجد أن العلاقات بين إسرائيل - قبرص اليونانية شهدت تطوراً ايجابياً واضحاً، وتوسعت إلى مجال يشمل تجارة السلاح أيضاً. وبينما تراجعت في ظل هذه العملية العلاقات التركية مع سورية والعالم العربي، اتجهت العلاقات الإسرائيلية مع قبرص الجنوبية واليونان نحو التطور الإيجابي. سعى المسؤولون الإسرائيليون إلى إدارة علاقة إسرائيل - تركيا، وإسرائيل - قبرص اليونانية - اليونان، عبر خطين مستقلين عن بعضهما البعض، على اعتبار أن هذا النهج يمثل خياراً صائباً لهم؛ وهو خيار يمكن تفهمه بالنسبة للإسرائيليين الذين يدركون أن اليونان وقبرص اليونانية هما رأس الاتحاد الأوروبي المتجه نحو منطقة شرق المتوسط، ويتمتعان بمرونة تمكنهما من متابعة التأثير الإقليمي المتبادل وإدارته.
أما العنصر الثالث، فيتمثل في مباحثات السلام التي أجرتها إسرائيل مع سورية في أواخر عامي 1995 و2000 في شأن الانسحاب من الجولان، ومنابع المياه في شرق الأناضول؛ وهي مسألة تتعلق إلى درجة كبيرة بأمن تركيا الاستراتيجي. إن العنصر الوحيد غير القابل للتغير في التوازنات المتغيرة في شكل سريع في الشرق الأوسط هي، العلاقة الوثيقة بين الموارد المائية والنفطية في المنطقة وبين الصراع الديبلوماسي؛ إذ لا يمكن نشوب حرب مباشرة أو غير مباشرة في الشرق الأوسط من دون أن يكون الماء أو النفط سبباً لها. كما لا يمكن وجود عملية سلام ما لم يتم فيها مناقشة هذه الموارد؛ ففي أثناء المباحثات الإسرائيلية - التركية، أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي شيمون بيريز، وللمرة الأولى، أنه من غير الممكن التوصل إلى اتفاق مع سورية من دون التوصل إلى اتفاق حول الموارد المائية في مرتفعات الجولان. وقال إن حل هذه المسألة يكمن في استمرار السيادة الإسرائيلية على موارد المياه في الجولان، حتى وإن تم الانسحاب منها وتركها لسورية، وكذلك من خلال تعويض سورية بمياه من الموارد المائية التركية. أي أن إسرائيل، وفق هذه الرؤية، ستواصل حتى بعد عقد اتفاقية محتملة مع سورية سيادتها على الموارد المائية في مرتفعات الجولان، أهم مصدر للمياه في المنطقة، ومصدر تغذية بحيرة طبرية بالمياه، التي توفر بدورها 30 في المئة من مصادر المياه في إسرائيل.
وهكذا، فإن إسرائيل بموجب الاتفاق المحتمل لن تتعرض لأي فقدان لاحتياطها المائي. وفي المقابل، فإن سورية التي ستستعيد مرتفعات الجولان ستعوض مواردها المائية التي ستفقدها بمياه من تركيا، بما ستقدم من تنازل. وقد أبرزت هذه الرؤية التي تم طرحها خلال مباحثات عام 2000، مرة أخرى، إلى أي مدى تسير التوازنات في الشرق الأوسط على أرضية زلقة. وقد أضحت تركيا مجبرة إلى التخلص من الصور السلبية التي ولدتها علاقاتها مع إسرائيل، كما باتت في حاجة إلى إعادة تقييم هذه العلاقات في إطار السياسة العامة للشرق الأوسط ونتائجها المتعلقة بساحات التأثير الإقليمي المتبادل. وبات ضرورياً أيضاً أن تتحول العلاقات الثنائية التكتيكية التي أقيمت من دون تطوير لاستراتيجيات شاملة حيال المنطقة ككل، إلى محور استراتيجي، وأن تسفر عن نتائج محددة للوضع الدولي الدينامي. وتحمل التطورات المتسارعة في الشرق الأوسط اليوم خصائص من شأنها أن تحقق لتركيا تأثيراً أكبر من أي وقت مضى.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.