لنتصور السيناريو الآتي: "تنفذ إسرائيل تهديداتها للرئيس عرفات، ويغيب عن الساحة السياسية، وهو الصمغ اللاصق للنظام السياسي الفلسطيني الحالي بما في ذلك حركة"فتح". يبدأ التفتت في حركة"فتح"المنقسمة أصلاً إلى مجموعات وفئات ومحاور غير ممأسسة، متنافسة ومتناحرة أحياناً، وتقوم اللجنة المركزية للحركة بعقد اجتماع لها وإصدار بيان بغرض تثبيت تمثيلها كلجنة ل"فتح". يجري الطعن بشرعية تمثيلها من قبل مجموعات مختلفة، سياسية وميدانية، في بيانات مضادة، ويدعو البعض لعقد اجتماع للمجلس الثوري لعله هو الإطار المناسب لإعادة الوحدة الداخلية. يسبق اجتماع المجلس الثوري مداولات ومناقشات واجتماعات عدة لغرض الاتفاق على محاور جديدة تشكل قيادة مرحلية، لكن الاتفاق متعذر ويجري تأجيل الاجتماع مرات عدة. في الأثناء، تقوم الوزارة الفلسطينية بمحاولة لسد الفراغ السياسي، ولكنها ليست في وضع يمكنها من السيطرة على الأمور على الأرض، على رغم المناشدات المتعددة الصادرة عنها للجمهور العام. ويتفاقم الوضع الميداني أثناء ذلك وتتعاظم سطوة المجموعات المسلحة داخلياً وتزداد مطالبتها ب"تبرعات"نقدية من الجمهور، خصوصاً المقتدرين نسبياً منهم، على أساس أن هذا دعم لمقاومة الاحتلال. وتستمر المقاومة بأشكال مختلفة لاستمرار التوغل والاعتقالات والاغتيالات ولحاجة المجموعات المسلحة لتبرير سبب وجودها وحاجتها ل"التبرعات"، خصوصاً المجموعات المستقلة عن الحركات والأحزاب السياسية، أو تلك التي تدعي أنها تنتمي إلى إحداها. ويقوم بعض عناصر من الأجهزة بالانضمام إلى هذه المجموعات أو تشكيل مجموعات جديدة نظراً لتوقف دفع الرواتب بسبب تفتت السلطة وحصول انهيار إضافي في الوزارات والدوائر الحكومية، بسبب إعادة الاصطفاف المحموم الجاري في كل المحاور التي كانت تشكل النظام السياسي قبل اضمحلال مؤسسة الرئاسة. بعد ثلاثة شهور من توقف دفع الرواتب لموظفي الحكومة واستمرار الوضع الميداني مستعراً، تزداد نسبة البطالة ويعم الفقر وتزداد السرقات والاعتداءات الداخلية، ويصبح الوضع جاهزاً لتدخل خارجي. فالوضع الاقليمي والدولي لا يتحمل استمرار حال الفوضى هذه التي تهدد دول الجوار بدليل قيام الأردن ومصر بتشديد اجراءات عبور الحدود إلى ما يقارب الإغلاق، حتى ان مؤدي العمرة لم يتمكنوا هذا العام من الحصول على تصاريح دخول إلا لنزر يسير. وتقوم الولاياتالمتحدة بالتحرك، بالتنسيق مع الرباعية والأممالمتحدة وإسرائيل، نظراً لأن الوضع داخلياً أصبح مهيأ لظهور قيادة جديدة، وبوجود تقبل لدى الجمهور الفلسطيني لمبادرات يؤمل منها ايقاف المعاناة الاقتصادية وحال الفوضى التي طالت الجميع. وتنعقد أخيراً القمة العربية لبحث الوضع في فلسطين وتوفير غطاء عربي لمبادرات دولية متعلقة بفلسطين. ويجري الضغط على"حماس"وفصائل المقاومة المختلفة، إضافة إلى سورية بمزيج من الترهيب أولاً والترغيب ثانياً. وتتعاون إسرائيل مع مشروع وقف اطلاق النار المقترح ولا تجد الأطراف الفلسطينية صعوبة كبيرة في الموافقة أخذاً في الاعتبار موقفها السابق أن الهدنة يجب أن تكون من قبل الطرفين. يبدأ العمل على مركزة الأجهزة من قبل الرباعية بعد إعادة هيكلتها ويتم دفع الرواتب لموظفي الحكومة كإجراء مرحلي، وتبدأ المؤسسات الأجنبية بتوزيع الاغاثات بشكل مكثف بما في ذلك وكالة الغوث. ويتم الإعلان عن موعد لانتخابات نيابية جديدة تحت اشراف الأممالمتحدة وممثلين عن جامعة الدول العربية، بعد موافقة"حماس"على المشاركة فيها، إضافة إلى أحزاب أخرى. وكبادرة حسن نية، تقوم إسرائيل بالافراج عن عدد"معقول"من المعتقلين، بما في ذلك قياديون من بينهم عبدالرحيم ملوح وحسن يوسف ومروان البرغوثي، إضافة إلى آخرين. ويشكل خروج مروان البرغوثي حدثاً مهماً داخل"فتح"، لأنه يبشر بقدر من إعادة اللحمة الداخلية وتوفير قيادة لها مشروعية. فتعتري"فتح"حمى جديدة من إعادة الاصطفاف بين المحاور المختلفة استعداداً للمرحلة المقبلة. ويطالب مروان البرغوثي بانعقاد اللجنة الحركية العليا والمجلس الثوري لغرض الإعداد لانتخابات داخلية لاختيار ممثلين في مختلف الأطر، بما في ذلك اللجنة المركزية. في الأثناء، يبدأ العمل بسرعة على انجاز قانون انتخابات جديد والذي كان المجلس التشريعي بصدد مناقشته سابقاً قبل تجميد العمل على انجازه بانتظار"الظرف الملائم"، ولا تعترض"حماس"على ادخال التمثيل النسبي لنصف المقاعد على الأقل، ذلك أن القانون القديم قد يؤدي إلى حصولها على غالبية المقاعد، لأن المنافسة ستكون في الأساس بينها وبين"فتح"التي تعاني من ضعف نسبي. وهذا بدوره سيؤدي إلى قيام"حماس"بتشكيل الحكومة الجديدة، وهو أمر غير مرغوب فيه من قبلها في الوضع السياسي الراهن، لأنه يعني التفاوض مع إسرائيل والولاياتالمتحدة حول المسار السياسي المقبل. فهي ترى أن الوضع الأفضل لها أن تكون في المعارضة، لا أن تشكل الحكومة في ظرف مثل هذا، بشرط حصولها على نسبة"معقولة"من المقاعد في المجلس النيابي المقبل، وهذا قد يوفره التمثيل النسبي الذي يسمح بتعددية أكبر في المجلس. وبعودة الدعم المالي للحكومة والمؤسسات الأهلية، تنتشر حمى الإعداد للانتخابات من ندوات وورشات عمل وتدريب وتسجيل للناخبين ولجان محلية لمراقبة الانتخابات والتأكد من نزاهتها وشفافية اجراءاتها. وتقوم الأطر والمؤسسات النسوية بمتابعة عملها والضغط على المجلس التشريعي لتوفير حد أدنى من المقاعد للنساء في القانون الجديد. ويجري في الأثناء ضخ الأموال لاحياء الاقتصاد المحلي من خلال مشاريع إعمار في غزة خصوصاً، وإعادة تأهيل الشوارع والمباني بما في ذلك مطار غزة، وخلق فرص عمل جديدة، نظراً إلى فهم كل المعنيين أن المسار السياسي يلزمه رافعة اقتصادية. وتقوم الرباعية بالإعلان أنه بعد اتمام الانتخابات وتشكيل الحكومة الجديدة، ستجري العودة إلى"خريطة الطريق"بهدف انشاء دولة فلسطينية ذات حدود موقتة". هذا ليس الاحتمال الوحيد الممكن. لنتصور احتمالين آخرين. سيناريو رقم 2: "إن تبعات تنفيذ تهديدات إسرائيل للرئيس عرفات تجري دراستها بدقة ويلزمها ضوء أخضر من الولاياتالمتحدة، وتحديد التوقيت المناسب لأخذ ردود الفعل الفلسطينية والعربية في الاعتبار، لأنها قد تؤجل أي مسار سياسي لفترة يصعب تقديرها. لذا يبدأ العمل على خيار آخر وهو تحويل منصب الرئيس عرفات إلى منصب فخري أو شبه فخري. وبوجود انسداد في المسار السياسي تبدأ المطالبات من قبل عدد من النخب الفلسطينية، خصوصاً السياسية منها، بأن يسمح الرئيس عرفات بظهور قيادات جديدة نظراً الى فشل"القيادة القديمة والتي شكّل المسار السياسي سبباً لوجودها كسلطة فلسطينية. وضمن هذا التطور، يتطلب فصل منظمة التحرير الفلسطينية عن السلطة الفلسطينية، على أن تتولى السلطة مسار المفاوضات والمسؤوليات"الأمنية". لكن يصطدم هذا التوجه بثلاث عقبات يجب حلها: الأولى، قبول الرئيس عرفات بهذا الدور. والثانية، قبول إسرائيل والولاياتالمتحدة به. والثالثة، وجود قناعة لدى إسرائيل والولاياتالمتحدة أنه حتى لو قبل الرئيس عرفات بهذا الدور، أنه لن تكون في إمكانه إعادة خلط الأوراق لاحقاً وفي منتصف الطريق. سيناريو رقم 3: "يستمر الوضع الراهن على ما هو عليه، ولكن بوجود احتمالين يتعلقان بمبادرة رئيس الحكومة الإسرائيلية ألا وهي"انسحاب من طرف واحد". الأول، نجاح ارييل شارون بتسويق خطة معدلة داخل الحكومة، ربما بإعادة تشكيلها بائتلاف مع حزب"العمل"وخروج الأحزاب على يمين ليكود. في هذه الحال، يجري التهليل لهذه المبادرة من قبل الولاياتالمتحدة والرباعية والادعاء أنها مرتبطة مع"خريطة الطريق"، أو طلب ربطها، حسب الموقف السياسي للأطراف المختلفة. لكن الوضع الميداني لا يختلف كثيراً، فتستمر إسرائيل بالاغتيال أو التوغل أو هدم البيوت، كرد على أي عمليات مقاومة مهما كان حجمها محدوداً، بغرض الحفاظ على"قوة الردع". ومع مرور الوقت، ينتهي المفعول السياسي لهذه الخطوة وتنشأ حاجة لمسار سياسي آخر غير"الانسحاب من طرف واحد". أما الاحتمال الثاني، فإنه ينشأ في حال فشل شارون في إعادة تجميع"خياره السياسي"والحصول على موافقة داخلية عليه. وهو الاحتمال الأبعد، لأنه يعني فقدان إسرائيل لزمام المبادرة السياسية والتخلي عنها لأطراف أخرى. وكانت الولاياتالمتحدة أقنعت شارون أنه بعدم وجود حل عسكري للوضع الراهن نظراً إلى القيود السياسية على العمل العسكري، الذي يتطلب قتل أعداد أكبر من المدنيين لإنهاء الصراع، أقنعت الحكومة الأميركية شارون بالحاجة لمبادرة سياسية تقوم بها إسرائيل ومنحته الأولوية للقيام بهذه المبادرة. وكان لقاء وزير الخارجية الأميركي كولن باول قبل شهور عدة مع متنبي وثيقة جنيف ايماءة واضحة تهدف إلى الاشارة الى وجود خيارات إسرائيلية أخرى في حال استمرار الانسداد السياسي. والاحتمال الثاني يتلخص بقيام الولاياتالمتحدة بمبادرة سياسية تضغط فيها على إسرائيل لتنفيذ التعهدات المتبادلة مع الولاياتالمتحدة التي وافق عليها رئيس الحكومة الإسرائيلية وربما ربطها مع"خريطة الطريق"لغرض استمرار المسار السياسي. وتشكل المقالة التي كتبها هنري كيسنجر في بداية أيار مايو والتي دعا فيها لمبادرة سياسية أميركية، مؤشراً على بداية توحد الطبقة السياسية في الولاياتالمتحدة حول الحاجة لإعادة احياء المسار السياسي في حال فشل شارون في إعادة ترتيب وتمرير خطته داخلياً"لإنقاذ إسرائيل من نفسها"كما دعا البعض في السابق. نظرة أبوية؟ ربما، ولكنها أيضاً حاجة اقليمية ودولية في الظرف الراهن. لذا من المستبعد أن يكون هذا الاحتمال كبيراً لحاجة إسرائيل كدولة للاستحواذ على زمام المبادرة السياسية. وفي كل الأحوال يبقى في يدها إمكان الهروب إلى أمام من خلال الانتخابات كسباً للوقت ولإعادة خلط الأوراق الداخلية، درأً لمخاطر التدخل الخارجي بما في ذلك"الحليف الاستراتيجي"الولاياتالمتحدة". ماذا يمكن للمكونات الأساسية للمجتمع المدني الفلسطيني أن تفعله؟ يجب القول أولاً إن التفتت الحاصل حالياً في المجتمع الفلسطيني سببه طبيعة النظام السياسي الفلسطيني والتي تكمن صفته العامة في عدم مأسسته وفي فسيفسائيته، أي أنه كان متفتتاً قبل الانتفاضة الثانية، ولكن الصراع الميداني أظهر نقاط ضعفه بوضوح، وأدى إلى تفتت أكبر فيه. إضافة، أن وجود سلطة فلسطينية داخل فلسطين في وضع فيه صراع ميداني، خلق أزمة كبيرة لها. فهي من جهة تسعى إلى الحفاظ على وجودها المرتبط باستمرار عملية سياسية، لكن بتوقف المسار السياسي لا بدّ أن تبرر وجودها تجاه جمهورها الداخلي في خضم الصراع من خلال دعم غير رسمي للمقاومة، أي أنها حاولت أن تمسك بالعصا من الوسط، كما يقال. ونظراً إلى أن"خريطة الطريق"تشكل المسار السياسي الوحيد المتفق عليه بين جميع الأطراف المعنية، بما في ذلك السلطة الفلسطينية، يبقى هذا المسار الوحيد الممكن حتى لو تم تعديله ليأخذ في الاعتبار"الانسحاب من طرف واحد"إن تم. ولكن مفعول هذا الانسحاب السياسي سيتلاشى خلال ما لا يزيد على العام في حال استمرار الصراع الميداني، وسيتم دفع جميع الأطراف للعودة إلى"خريطة طريق"معدلة. إن مقدرة المجتمع المدني في التأثير على المسار السياسي محدودة بسبب ضعف الأحزاب السياسية ومركزة القرار السياسي الفلسطيني. لذا تكمن الأولوية لمؤسسات المجتمع المدني في العمل المستمر والدؤوب من أجل فتح النظام السياسي للتغير باتجاه يعكس الرأي العام الفلسطيني في القرار السياسي. إنه لمن الأهمية بمكان أن تنعكس التعددية الموجودة في المجتمع الفلسطيني في بداية النظام السياسي، لأن تعدد المحاور هو الضمانة الوحيدة لعدم مركزة القرار، ولأنه يوفر التوازن المطلوب للاستقرار الداخلي وايقاف التفتت. كل ذلك مشروط أيضاً بالمأسسة، الترياق المضاد للفسيفساء الحالية. * أستاذ في الفلسفة وبرنامج الماجستير في الديموقراطية وحقوق الإنسان، جامعة بيرزيت، فلسطين.