هناك فرق بين التكهن والتنظير في التحليل السياسي وبين التشخيص والبحث في حلول عملية من الناحية الواقعية. واعتقد أن القضية الفلسطينية في هذه المرحلة تحتاج إلى البحث في الحلول العملية أكثر مما تحتاج إلى التنظير، وهذه مهمة شاقة تتسم بالالتزام والحرص على مشاركة الزعماء الفسطينيين البحث في خطوات عملية تفيد في ترتيب الموقف الفلسطيني. - أولاً: إن القضية الفلسطينية ارتبطت تاريخياً على الأقل منذ عام 1965 بمجموعة من القيادات التاريخية بزعامة ياسر عرفات، كما أن القضية الفلسطينية في عهد عرفات كانت تتميز بسيطرة عرفات الشخصية على كوادرها المختلفة حتى في الوقت الذي بدت فيه الانتفاضة تمرداً على تلاعب إسرائيل وليونة عرفات وعدم جدوى التسوية السياسية بالطريقة التي كانت تتم بها على الأقل منذ تولي نتنياهو السلطة وبشكل أوضح منذ زيارة شارون للمسجد الأقصى التي فجرت هذه الانتفاضة. - ثانياً: إن القضية الفلسطينية في عهد عرفات مرّت بأطوار ثلاثة، وهذا مفيد للمستقبل كما أنه مفيد في تركيب الصورة في الماضي. الطور الأول، هو مرحلة الكفاح المسلح وكان لهذه المرحلة منطقها ومقومات وجودها، وأهم هذه المقومات وجود تضامن عربي كامل مع القضية الفلسطينية إذ كان المد القومي العربي في مصر الناصرية هو رافد هذا التضامن والذي أدى انحساره في مصر السادات إلى تغير في طرق الكفاح المسلح على أساس أن الكفاح المسلح كان في الستينات هو منطق العصر بالنسبة لحركات التحرر، كما كانت مساندة هذا الكفاح أقوى صور الإيمان بالعروبة على المستوى العربي وبتكامل قضايا الحرية على مستوى العالم. أما الطور الثاني فهو الذي يقع بين 1982-1993 ذلك أن شارون بدأ يظهر في مواجهة عرفات عندما كان شارون وزيراً للدفاع في حكومة بيجن وكان عرفات قد وصل بالمقاومة المسلحة إلى درجة ملموسة أقلقت إسرائيل واضطر الجانب الإسرائيلي في تموز يوليو 1981 أن يطلب تدخل الولاياتالمتحدة ووساطة السفير فيليب حبيب المبعوث الأميركى لعقد هدنة لوقف إطلاق النار بين الجانبين. ولعل خطورة هذا التطور هي التي أقنعت شارون بتنفيذ خططه الجسورة لاحتلال بيروت في حزيران يونيو 1982، دون موافقة مجلس الوزراء الإسرائيلي، ومحاصرة عرفات والتوصل إلى تسوية يتم بموجبها إنهاء الوجود المسلح الفلسطيني في لبنان مما أنهى هذا الطور من أطوار العمل الفلسطيني، مقابل انسحاب إسرائيل من بيروت، وهكذا دخلت القضية الطور الثاني وهو العمل السياسي من على بعد في تونس، وكانت أهم تحديات هذه المرحلة هي إنقاذ القضية من الذبول والانكماش مع تحول النظام الدولى وتراجع مؤشرات المواقف العربية التي شهدت درجات متزايدة من المرونة مع إسرائيل منذ مبادرة فهد 1981 ومصادقة قمة فاس عليها عام 1982 بعد أيام من مغادرة عرفات إلى تونس. أما التحدي الثاني فهو البحث عن استراتيجية للكفاح تجمع القيادات دون أن تفقد الأمل في العودة رغم التنائي، فالبيئة الفلسطينية والعربية والدولية وما شهدتها من تحولات كانت أهم هواجس عرفات وتغلب عليها جميعا. شهدت هذه المرحلة ضغوط واشنطن العاتية التي وصلت إلى حد إغلاق مكتب منظمة التحرير متنفسها الوحيد على العالم الخارجي في نيويورك بحجة أن المنظمة إرهابية، وكسبت المنظمة والأمم المتحدة القضية لصالح الفلسطينيين في ساحات القضاء الأميركي ومحكمة العدل الدولية، في الوقت الذي اندلعت فيه الانتفاضة الأولى عام 1987، وأهميتها من زاوية هذا التحليل أنها أنزلت النضال السياسي إلى المستوى الواقعي والميداني، وهي اختبار لقدرة القيادات الفلسطينية على التواصل مع قواعدها من تحت جلد الاحتلال ورغماً عن حصاره وإجراءاته. ثم تطورت الأوضاع بعد مؤتمر مدريد، وكادت الانتفاضة أن تنتهي دون أن تحصل على أي من كروت اللعبة السياسية التي كانت عملية مدريد بحق تهدف إلى تجاوزها، وصارت الوفود الفلسطينية في محادثات واشنطن تائهة بين الوفود العربية الأخرى، فظهرت أوسلو وكأنها الورقة السياسية الأخيرة قبل أن تخبو الانتفاضة الأولى وقبل أن تقضي عليها عملية مدريد، ولذلك اختلف الرأي حول ما إذا كانت أوسلو فرعاً من مدريد أم كانت تطوراً يجمع بين مدريد والانتفاضة معاً. في أوسلو عاد عرفات مرة أخرى إلى الساحة، هذه المرة ليس في مواجهة إسرائيل عسكرياً أو سياسياً ولكن عاد شريكاً لإسرائيل في عملية كان يمكن - لو حسنت النيات - أن تسفر عن تسوية سياسية حقيقية. وهذه الشراكة هي نفسها التي أحدثت ما جد من تطورات، لأن عرفات أراد أن يكون شريكاً نحو سلام حقيقي، بينما إسرائيل أرادت سلاماً يساعد فيه عرفات على تنفيذه لمصلحتها، وقد لعبت إسرائيل اللعبة بقواعد مكشوفة بينما حاول عرفات أن يقترب من أهدافه بطريقة مشروعة ومستترة. - ثالثاً: من الواضح أن مواكبة عرفات للقضية في أطوارها الثلاثة حتى استقرت على صخرة شارون وسط ظروف عربية ودولية بالغة التعقيد وذات آثار سلبية على القضية، جعلت العلاقة بين عرفات والقضية علاقة عضوية، مما جعل عرفات وحده القادر على التصرف دون خوف من اتهامه بالتفريط، والواثق من ارتباط الشعب به، الأمر الذي جعل عرفات الشخصية الوحيدة التي أجمع عليها الشعب والمنطقة والعالم، وهو نفس السبب الذي قاومته إسرائيل والولاياتالمتحدة حتى يتعاملا مع الشعب الفلسطيني دون قيادة واحدة موحدة، وهذا ما تراهن عليه إسرائيل بعد اختفاء عرفات. - رابعاً: يختفي عرفات في لحظة فارقة في وضع القضية، ولا نبالغ إذا قلنا إن عرفات قد رأى القضية وهي تدخل سردابًا مظلمًا وتدخل إلى فصل جديد قوامه حالة فلسطينية رسمتها إسرائيل بالقوة المسلحة الطليقة من كل قيد، وشعب يئن من كل أصناف الهوان، ومع ذلك لا يزال قلبه عامراً بالأمل في الغد ولا تزيده تصرفات إسرائيل إلا عضاً على القضية بالنواجذ، وهذا فصل نادر في تاريخ فلسطين، أعاد الاعتبار للفلسطنيين كطرف في العملية السياسية، ويكافح شارون لإسقاطهم من الحساب. ولعلي لا أبالغ أيضاً إذا قلت إن خطة شارون كانت تنتظر اختفاء عرفات على أي نحو على أساس أن شارون يتصور أحد أمرين: إما أن تنفلت الساحة الفلسطينية إلى الفوضى والصراع بين خلفاء عرفات، فيوفر هذا المناخ لشارون الفرصة الذهبية لكي ينفذ خطته التي تقوم على عدم الاعتراف بالفلسطينيين كشريك، كما يمكنه من استمرار عمليات تصفية رموز المقاومة وهو أهم أركان خطته لتحديد مستقبل القضية الفلسطينية. أما الأمر الثاني فهو إرغام خلفاء عرفات على القبول بخطته مما يدفعه إلى البحث لهم عن دور في إطار هذه الخطة متجاوزاً بذلك كل المرجعيات السابقة، وهي الشرعية الدولية واتفاق أوسلو وخريطة الطريق. - خامساً: هكذا يتضح أن أهم التحديات التي تواجه القيادة الفلسطينية الجديدة هي: ساحة فلسطينية تختلف درجة قبولها للقيادة الجديدة، لأن القيادة التاريخية كانت تسمح بمراجعتها ولكن الولاء لها لم يكن يتزعزع، بينما القيادة الجديدة عرضة للقبول والرفض، ولن تجد زعيماً فلسطينياً واحداً يقع عليه الإجماع في الساحة الفلسطينية المعقدة. ولما كانت القيادة الفلسطينية أمراً لا يخص الفلسطينيين وحدهم، فإن هناك أطرافاً أخرى هي الجزء الأهم في مقدرات القضية الفلسطينية وهي على الترتيب: إسرائيل ثم الولاياتالمتحدة، ثم العالم العربي الذي يقبل عادة ما يقبل به الفلسطينيون خاصة في هذه المرحلة. فإذا كانت أولوية القيادة الجديدة هي توحيد الصف الفلسطيني، فإن التحرك صوب السلام مع إسرائيل تواجهه هذه المرة عقبات ثلاث: العقبة الأولى، هي أن الإجماع الفلسطيني على قيادة واحدة قد لا يقابله بالضرورة إجماع على موقف هذه القيادة من التسوية مما قد يُعجِّل بتفجير الخلافات الفلسطينية فور انتهاء مراسم تنصيب الخليفة بمجرد الشروع في عملية السلام. والعقبة الثانية ترتبط بالأولى ارتباطاً عضوياً، وهي أن شارون وقد حصل على دعم واشنطن لخطة الفصل من طرف واحد، قد حصل أيضاً على دعم داخلي من الكنيسيت ومجلس الوزراء وأعد خطة تعويض المستوطنين الذين يعارضون خطة الفصل، وأنه بنى خطته على أساس أن الجانب الفلسطيني ليس شريكاً له بحجة أن عرفات يشجع"الإرهاب الفلسطيني"ولا يريد التصدي للفصائل الإرهابية. ولما كان شارون قد تولى بنفسه عملية اغتيال زعماء الفصائل وقياداتها الميدانية، فلم يعد بحاجة إلى الطرف الفلسطيني أصلاً. فكيف تتصور القيادة الفلسطينية الجديدة دورها؟ الحق أن أمامها من الناحية النظرية طريقين: إما الإصرار على خريطة الطريق على أساس أن هناك تمسكاً أميركياً وأوروبياً ولو من الناحية النظرية بها، وإن كان هذا التمسك بها سوف يخفت لأنها تناقض خطة شارون ولا تطيق واشنطن إغضاب شارون، كما لا تجازف أوروبا بذلك هي الأخرى. أما الطريق الثانى المتاح أمام القيادة الفلسطينية فهو الإعلان عن أن اختفاء عرفات يجب أن يكون قد أزال حجة شارون في عدم اعتداده بالطرف الفلسطيني، ومن ثم تقبل هذه القيادة العمل ضمن خطة شارون على أمل تطويرها. وهذا الافتراض تحيط به الشكوك لأن اللاعب الرئيسى في هذه الحالة هو إسرائيل، ولا نحتاج إلى جهد كبير لكي ندرك أن شارون قد ابتدع خطته لتكون بديلاً إسرائيلياً عن خريطة الطريق الدولية، فكان قبول بوش بهذه الخطة تكفيراً عن تسرعه في تقديم خريطة الطريق والإصرار عليها باعتبارها مبادرة أصلها أميركي ولكن اللجنة الرباعية هي التي قدمتها. ولا شك أن أركان الإدراة الأميركية لن يعوزهم إدراك أن خطة شارون هي النقيض الكامل لخريطة الطريق، ومع ذلك حاولت واشنطن أن تتجاهل في العالم العربي هذه الحقيقة، واعتبرت أن تمسكها بخريطة الطريق هو جواز المرور لحسن النوايا في المنطقة، وأنه الدليل على استمرار اهتمامها بقضية السلام فيها، وذلك على النحو الذي صرح به بيرنز في القاهرة قبيل الانتخابات الأميركية ورداً على انتقادات عربية بأن الحملة الانتخابية غلب عليها طابع التسابق لإرضاء إسرائيل من دون أن تجدد عزم المرشحين على إحياء عملية السلام الحقيقية. ومن الواضح أن الولاياتالمتحدة عازمة بعد تجديد ولاية بوش على مساندة إسرائيل صراحة بغض النظر عن أنها تقدم هذه المساندة كراع لعملية السلام، وسوف تجد الشجاعة في أن تغفل الحديث عن خريطة الطريق تاركة للأطراف العربية أن تتعلق بصيغ لم يعد لها عند مقدمها وزن. أما محاولة مصر التوفيق بين خطة شارون وخريطة الطريق فهي محاولة تستحق التشجيع، ولكن إصرار شارون على إنفاذ مشروعه أمر واضح ولن يوقفه إلا إدخال عناصر جديدة على ميزان القوة الشاملة بين إسرائيل والأطراف العربية والفلسطينية إذا افترضنا أنها جميعاً في موقع واحد، وهو أحسن الفروض. وأخيراً فإن غياب عرفات والتجديد للرئيس بوش، وإصرار شارون على خطته وارتفاع نجمه في إسرائيل يجعل آفاق التسوية العادلة ضيقة، ولكن ذلك لا يجوز أن يقعد الجانب العربي والفلسطيني عن البدء بدبلوماسية جديدة منسقة تصر على الحقوق الفلسطينية كاملة وتعمل على الساحات المناسبة، والبحث في إضافة أوراق إلى الساحة العربية خاصة أن واشنطن ستكون أكثر توحشاً في المنطقة وأكثر دعماً لشارون وافتئاتاً على حقوق الفلسطينيين. * كاتب مصري.