حدثان تشهدهما أوروبا هذا الاسبوع. الاول، الاحتفالات بالذكرى الستين لإنزال الحلفاء في النورماندي والذي ادى الى هزيمة النازية في الحرب العالمية الثانية. والآخر، انتخابات البرلمان الموحد للدول ال52 في الاتحاد الاوروبي. الصدفة وحدها جمعت الحدثين. لكن القضاء على النازية والفاشية، كنظامي حكم، وتحول حملة هاتين الايديولوجيتين الى قلة تنبذها الغالبية، هما اللذان اتاحا لاوروبا هذا التقارب الكبير، على المستويات الاقتصادية والقانونية، بعدما وحدها الهدف السياسي، حماية الحرية والديموقراطية. على امتداد السنوات الستين التي انقضت، منذ الانزال الشهير، شهدت البلدان الاوروبية حركة دؤوبة ومتصلة من اجل تفادي تكرار تلك المآسي والكوارث التي عاشتها القارة القديمة. فأجمعت على ان القضاء على الحروب فيها يعني تنظيما عقلانيا لعلاقاتها، على كل المستويات، وتمسكا صلبا بخيار الديموقراطية الذي وحده يحول دون تكرار ظاهرة هتلر والديكتاتورية. من المصلحة الاقتصادية والانمائية المباشرة التي انطلقت منها فكرة السوق المشتركة في عدد قليل من الدول، أمكن التوصل الى الاتحاد الحالي صاحب طموح الدستور الموحد والقوانين المتقاربة والتنمية المتوازنة والمتكاملة. ومن مبدأ رفض الديكتاتورية كأيديولوجيا ونظام حكم غير الخاضعة لأي محاسبة شعبية، أمكن التوصل الى تثبيت مبادىء الحرية والديموقراطية وحقوق الانسان. وتأتي مشاركة غيرهارد شرودر، الاولى من نوعها لمسؤول الماني، لتؤكد ان"وطن هتلر"تمكن من التخلص من اي رواسب للمرحلة النازية، عبر مراجعة شاملة ودقيقة، تصل الى حدود المحاكمة الصارمة، لتلك المرحلة واستخلاص الدروس منها والاعتراف بالمسوؤلية عنها. وأوجز شرودر المعنى العميق للدعوة التي تلقاها من الرئيس شيراك ليكون حاضراً، الى جانب قادة الدول التي ساهمت في الانزال الذي أدى الى هزيمة بلده، بالقول"ان مرحلة ما بعد الحرب انتهت وان الحلفاء باتوا يعترفون بأن المانيا تحولت الى الديموقراطية. لقد أصبحنا ديموقراطية كبيرة في العالم". لقد تحول الغزو للاراضي الفرنسية التي احتلها الجيش الالماني في الحرب الثانية الى تحرير لالمانيا الحالية. كما تأتي مشاركة الرئيس فلاديمير بوتين الذي يرث مقاطعة الاتحاد السوفياتي لهذه المناسبة، لتؤكد ان سقوط الستار الحديدي الذي وضعه ستالين في اوروبا بات من الماضي، بعد تحول الدول التي ضمها هذا الستار الى الديموقراطية، وان انضمام بعضها الى الاتحاد الاوروبي يبعد نهائيا شبح العودة الى اي شكل من الديكتاتورية السابقة. وتؤكد هذه المشاركة في الوقت نفسه الوصول الى قراءة شبه موحدة لتاريخ الحرب استناداً الى مجرياتها، وليس الى الاساس الايديولوجي الذي وضعه ستالين استناداً الى حصار ستالينغراد. في هذه المعاني، تختصر الذكرى الستون لانزال النورماندي، بدلالاتها، ما يصفه شيراك بأنه"معركة الحرية للجميع". قد تغري المناسبة اليوم الخطباء، خصوصاً الرئيس جورج بوش، على ساحل النورماندي بمقارنة ما حصل في اوروبا قبل ستين عاما بما تقوم به الولاياتالمتحدة وبريطانيا اليوم، ومنذ حوالى السنة في العراق، خصوصا لجهة"الغزو التحريري". ومن الحجج، اسقاط نظام ديكتاتوري اعتدى على جيرانه وشكل تهديداً مستمراً من جهة وبدء عملية تشكيل آليات ديموقراطية لنظام جديد. وقد تكون هذه المقارنة جزءاً من السعي لتسويق مشروع القرار الاميركي - البريطاني، لدى الحاضرين في النورماندي، خصوصاً شيراك وشرودر وبوتين. ويزداد الاغراء، مع الاحاديث المتكررة عن مشاريع الاصلاح في المنطقة، والتي بعضها سيكون موضع بحث قريب في قمة كبار هذا العالم. لكن هذه المقارنة تفتقد الى العنصر الاساسي الذي حرك البلدان الاوروبية منذ هزيمة النازية، وهو التعامل مع التاريخ على انه احداث حركتها دوافع ومصالح، وليس تبريرا لوضع راهن وحجة على خصومة راهنة.