في النظر الى العلاقة بين أميركا والعرب، هي التي غدت مالئة الدنيا وشاغلة الناس، يلوح كأننا عرفنا مراحل ثلاثاً حكمت واحدتها بالتالية عليها وتيرة تصاعد وتزخيم. فحتى العام 1967 احتوت العلاقة العربية - المسلمة على ايجابيات تفوق كثيراً السلبيات. صحيح ان واشنطن دعمت نشوء اسرائيل في 1948، الا ان هذا لم يلغ تطورات ومواقف كانت تهب في اتجاه آخر. فالولايات المتحدة احتفظت بصداقاتها الوطيدة مع الأنظمة العربية المحافظة، بعدما كانت قد تعاطفت مع ثورة الجزائر وقضيتها، وقبل ذلك مع الحركات الاستقلالية المعارضة للانتدابين البريطاني والفرنسي. وحتى جمال عبدالناصر الذي أطلق المد الراديكالي في المنطقة ظهر، بين الشيوعيين والاخوان المسلمين وبعض الدوائر الديبلوماسية، من يتهمه بالهوى الأميركي. ومع أن الزعيم المصري لم يتوصل الى اتفاق مع واشنطن فيما خص تمويل السد العالي، وهو ما دفعه الى أحضان السوفيات، فإنه فاوضها وأراد، بطريقته، التوصل الى اتفاق معها. ولم يحل دون ذاك الاتفاق إلا إصراره على التسلح في حدود بدت للغربيين، ومنهم الأميركان، تهديداً لمصالح إسرائيل إن لم يكن لوجودها. وكان ملحوظاً ان الصدمة التي أشاعها في العالم الاسلامي انقلاب زاهدي ضد محمد مصدّق في إيران، عام 1953، وهو الانقلاب المدعوم من السي. اي. آي، لم يحبط عبدالناصر ورفاقه في مساعيهم لتحسين العلاقة بالولايات المتحدة. فحين حصل العدوان الثلاثي على مصر في 1956، وقفت واشنطن الى جانبها كما هو معروف، واستخدمت ثقلها الديبلوماسي والاقتصادي لردع حلفائها التقليديين، بريطانيا وفرنسا واسرائيل، وحملهم على الانسحاب. ومع ان الموجة الناصرية اللاحقة التي أهاجت المنطقة العربية ضد "الاستعمار"، أزعجت أميركا وحلفاءها ومصالحهم، فذلك لم يقطع الطريق على تعاون شهد عليه عهد جون كينيدي الذي كان شديد الإصرار على منع اسرائيل من الانضمام الى النادي النووي. وأبعد من ذلك ان عهد الوحدة بين مصر وسورية الذي نشأت بموجبه "الجمهورية العربية المتحدة" 1958 61 أنفق الكثير من طاقته وجهده في مكافحة الشيوعية والنفوذ السوفياتي، كما بدا ان عدوه المباشر ليس إلا نظام عبدالكريم قاسم في بغداد المدعوم من موسكو. وبالطبع انعكس التدهور الشديد في العلاقات الدولية للستينات، وذروته الهند الصينية، على منطقة الشرق الأوسط. واعتبرت حرب 1967 العربية الاسرائيلية ذروة الصراع في المنطقة. وما أعطى المواجهة هذه طابعها المميز انها جاءت بعد سنوات قليلة على مصالحة عبدالناصر وموسكو وقيام نظام بعثي راديكالي، على الأقل لفظياً، في دمشق. وهذا فضلاً عن ان نجاح اسرائيل في حسم المواجهة مع بلدان عربية ثلاثة في أيام ستة خلّف الكثير من المرارة العربية والاسلامية، بعدما صدّع هيبة الزعيم المصري. لكنْ على رغم أهمية هزيمة 1967 فإنها لم تبلغ درجة إحداث قطيعة أميركية مع العرب والمسلمين، أو العكس، لأسباب عدة. فمن جهة، كانت أوروبا الغربية لا تزال تستطيع ان تلعب دور الوسيط الذي يكبح تمادي النزاع. ذاك أن ديغول كان في الاليزيه، فيما ألمانيا الغربية كانت قد كرّست استقلالها النسبي-البعيد الذي ابتدأه أديناور، فيما أسس هارولد ويلسون سياسة تمرد على دروس السويس برفض الضغط الأميركي للاشتراك في الحرب الفيتنامية. ومن جهة ثانية، كان حقد الاسلام السياسي الراديكالي على عبدالناصر أكبر من عدائه للولايات المتحدة. لا بل يجوز القول ان الاخوان المسلمين كانوا، عملياً، أقرب الى المواقف الاميركية الاجمالية، خصوصاً ان بعض ما أخذ على زعيم القومية العربية كونه "ضد المسلمين" في قبرص حيث أيد مواقف المطران مكاريوس ومن ورائه أثينا، و"ضد المسلمين" في شبه القارة الهندية حيث انحاز الى صديقه الهندي جواهر لال نهرو في خلافه مع باكستان. أما في يوغوسلافيا، وكان الاسلاميون في البوسنة وكوسوفو يتذمرون من عهد تيتو الشيوعي ويسعون للانفصال، فظل الأخير الصديق الأقرب الى قلب الزعيم المصري الذي أنهى حياته باستيراد خبراء سوفيات "شيوعيين وملاحدة". لهذا كله، فحين كانت الثورة الفلسطينية في بداياتها الأولى، هي التي أطلقها عدد من الشبان الاسلاميي النزعة، حظيت بتشجيع سائر الاسلاميين بوصفها مشروعاً لتوليد بديل من زعامة عبد الناصر. وما صح في الاسلاميين صح في الأنظمة المحافظة التي لم تكن قد تجاوزت بعد آثار حرب اليمن، هي التي شكلت مسرح صدام مباشر بين القاهرة وخصومها. وبهذا المعنى لاح رحيل الرئيس المصري في 1970 وكانه يفتح الباب لعلاقات أعمق وأوثق مع واشنطن، أو على الأقل هذا ما فهمه وطبّقه وريثه أنور السادات، فما ان خرج من "حرب التحريك" في اكتوبر 1973، حتى استكمل نقل بلده ونفوذها من العباءة السوفياتية الى العباءة الاميركية. وعلى رغم ان دولاً عربية قليلة هي التي وافقت علناً على سياسة السادات، وصولاً الى كامب ديفيد أواخر السبعينات، إلا أن الدول التي ناوأته بشكل فعلي وجدي كانت قليلة هي الأخرى. فكيف وأن السبعينات التي ارتفع سعر النفط خلالها أربعة أضعاف، تقدمت كما لو انها تؤسس لقواعد جديدة تنهض عليها السياسة في المنطقة وتتعدل بموجبها خريطة النفوذ. فإذا تراجع مفهوم الصدام مع الغرب لمصلحة التكامل، تراجعت بدورها الزعامة المصرية لمصلحة الصعود الخليجي المسلح بالمال. وقصارى القول ان 1967، على أهميتها، لم تنجح في تأسيس القطيعة الاميركية - الاسلامية. ويمكن المغامرة بافتراض العكس اذ جاء التحالف المعقود حول "المجاهدين" الأفغان، ابتداء بسنة الغزو السوفياتي لبلادهم في 1979، ليؤشّر الى بلوغ التحالف الأميركي الإسلامي ذرى غير مسبوقة. ذاك ان الحرب الباردة التي كانت المحدد الاول للسياسات والمواقف انتقلت، بذاك الغزو، الى داخل العالم الاسلامي نفسه. بيد ان العام 1979 شهد الحدث الآخر النوعي الذي يجوز وصفه بالتأسيس الأول للقطيعة، عنيت به الثورة الإيرانية واحتجاز الرهائن الأميركيين العاملين في "وكر الجواسيس". فبعدما كانت أوروبا هي التي تتلقى تأثيرات منطقة الشرق الأوسط، فيسقط البريطاني انتوني ايدن في حرب السويس، وتنهار الجمهورية الفرنسية الرابعة في الجزائر، اذا بجيمي كارتر يتحول أول رئيس أميركي يخسر الانتخابات لأسباب يتصدّرها فشله في إنقاذ الرهائن، ومن بعده يتلطّخ رونالد ريغان في ايران غيت. ولم تنجح البلدان والقوى المسلمة المحافظة في استنهاض التعبئة المرجوة ضد النظام الايراني الجديد، أو لمصلحة النظام العراقي الذي هاجم ايران، كما لم ينجح وقوف الثورة الفلسطينية مع بغداد وتلاعب الأطراف جميعاً على الوتر المذهبي في إحداث تلك التعبئة. وبالمعنى هذا يمكن القول ان الحرب الأفغانية ضد السوفيات وفّرت ما فشلت في توفيره الحرب العربية المحافظة على طهران والخميني. فما أن انتهت الحرب الباردة، وفي عدادها الحرب الأفغانية، حتى توسع الجيب الراديكالي السني مستدخلاً فيه بعض ملامح الراديكالية الشيعية الخمينية التي، رغم قطعيتها أو بسببها ربما، أثبتت نجاحها. وبانهيار المعسكر الاشتراكي، وضمور أوروبا كدور ووسيط، تعاظم الميل لانتهاج هذه الطريق معززاً بانتصار وهزيمة: أما الانتصار فوفّرته أفغانستان نفسها إذ، وكما استنتجت الحكمة البسيطة، ما دمنا انتصرنا على السوفيات فلماذا لا ننتصر على القوة العظمى الأخرى؟ وأما الهزيمة فحرب تحرير الكويت التي نظر اليها الاسلاميون بصفتها استعماراً "صليبياً" للمنطقة. غير أن الجدير بالملاحظة ان التأويل المذكور كان شعبياً عابراً للبلدان والطبقات والجماعات، فضلاً عن تغلبه على وجهة النظر الاسلامية المحافظة والمتعاطفة مع عملية التحرير، داخل التنظيمات الاسلامية وخارجها. وهنا، وعلى نحو مفارق، تبدت درجة الهشاشة التي يعانيها الوضع العربي ومدى بعده عن الحالة الشعبية. فحتى نظام موصوف بالراديكالية، كالنظام السوري، اصطف في تحالف تحرير الكويت مقابل أن تتخلى له واشنطن عن لبنان. وفي ظل اندفاع التناقض الاسلامي - الشعبي مع السياسة الاميركية الى هذا الحد، مصحوباً بأعمال ارهابية في الصومال وغيره، لم يعد في وسع جهود أخرى، كالحروب اليوغوسلافية حيث وقفت واشنطن الى جانب المسلمين، أو المسار الفلسطيني بدءاً بمدريد وتتويجاً بأوسلو، ان تستقطب أية عاطفة تُذكر في العالم الاسلامي. ف"الاختراق" العسكري الذي تراءى للاسلاميين ان حرب تحرير الكويت حبلت به، ترافق مع "اختراقات" ثقافية ومجتمعية وقيمية رمزت اليها مسائل العولمة والتطبيع والأقليات والمرأة، ترافُقها مع شعور عام باستحالة الحكمة البسيطة التي أسفرت عنها الحرب الأفغانية. فقد شرع يتبين ان التناسبية اندثرت تماماً باندثار الحرب الباردة وانعقد اللواء لقوة عظمى وحيدة لن تقوى باقي القوى مجتمعة على شن حرب كلاسيكية واحدة عليها. وبالتدريج تحولت الأنظمة الى حَكَم صامت بين الطرفين الأقصيين، الأميركي والاسلامي. لكن نجاح الأخير في الاستحواذ على الموضوع الفلسطيني، وهو الموضوع "القومي الأول"، في موازاة التردي الذي راح يضرب السلطة الفلسطينية بدءاً بالانتفاضة الثانية، جعل الأنظمة تلهث وراء المواقف الاسلامية العريضة. وكان ما يضاعف صعوبة الجهر بتمايُزها عن تلك المواقف، فضلاً عن استشعارها ضعف شعبيتها وقلة جاذبيتها، ان السياسة الاسرائيلية، ومعها الاميركية بعد 11/9، لم تتركا أي حيز وسطي أو استقلالي. وهكذا، وفي موازاة الاستعداد للحرب العراقية، جعل "المحافظون الجدد" يطوّرون النظريات التي تأخذ العرب والمسلمين كما لو أنهم كلٌ واحد لا يقبل الانفصام والتجزيء. والأهم ان السياسة، في بعدها الاستراتيجي بالمعنى الذي عرفته الحرب الباردة، لم تعد ترأب الصدوع في المجالات القيمية والثقافية. فالخلاف في القضايا المجتمعية صار يزن أكثر مما يزنه التحالف وقد انقضى عقد ونصف العقد على انهيار الاتحاد السوفياتي. وإذ وُحّد العرب، تولت العمليات الانتحارية توحيد خصومهم الذين تبدّوا جنساً يقابل جنساً فيما الحساب يبدأ في الحياة الدنيا ولا ينتهي في الآخرة.