مجموعة من الأهداف حققها مؤتمر "الترجمة وتفاعل الثقافات" الذي اقامه المجلس المصري الاعلى للثقافة بمناسبة مرور مئة عام على ترجمة سليمان البستاني لملحمة الالياذة اليونانية في الفترة من 29 آيار مايو وحتى الثاني من حزيران يونيو الجاري، وهي اهداف تصب في خدمة العنوان الرئيس الذي تجتمع عليه جهود النخب المثقفة في عالمنا العربي منذ 11 ايلول سبتمبر 2001 الساعية الى دعم فكرة التواصل الحضاري والى ازالة اسباب سوء الفهم المتبادل بين ثقافتنا والثقافة التي يمثلها الآخر أياً كان موقعه الجغرافي. وهو عنوان التقت حوله كذلك جهود المستعربين الاجانب العارفين بغنى أو تنوع الحضارة العربية في ماضيها والامكانات التي يحملها ابداع المعاصرين من ابنائها. تثاقف أم صراع؟ ونظراً الى الظروف السياسية المحيطة بالمنطقة العربية انهمك المشاركون طوال الايام الاربعة التي استغرقها المؤتمر في تعداد المكاسب الناجمة عن تكريس فكرة "التثاقف" وتفاعل الحضارات بديلاً لفكرة "الصراع" التي تزكيها المخططات الاستراتيجية. وفي الوقت نفسه تنافس المشاركون العرب في تكرار الافكار القائلة باقتران الترجمة بمشاريع النهضة والتحديث، وفي الدعوة الى وجود خطط قومية للترجمة في عالمنا العربي لسد الفجوات القائمة راهناً، وهي فجوات تشير اليها احصائيات "اليونسكو" التي استندت اليها أوراق كثيرة، وأشارت الى ان العالم العربي كله كان ينتج أقل من كتاب واحد مترجم في السنة لكل مليون مواطن، بينما تنتج إسبانيا وحدها ما يقرب من 920 كتاباً لكل مليون، فيما تترجم اليابان - وحدها - سنوياً 30 مليون صفحة. وكعادته ومن موقع المسؤول الثقافي، أكد جابر عصفور الامين العام للمجلس الاعلى للثقافة ان هذا الوضع المحزن ينبغي ألاّ يكون مبرراً لليأس، بل يجب أن يكون باعثاً على العمل الجاد وعلى بذل المزيد من الجهود بالمضي قدماً في إنشاء المزيد من مؤسسات الترجمة ومعاهدها ومراكزها البحثية، وتشجيع مبادرات الترجمة والاحتفاء بالمترجمين المتميزين وتكريمهم. وهي مهمة - بحسب قوله - ينبغي ألاّ نقصرها على الحكومات وحدها، بل نمتد بها لتشمل مؤسسات المجتمع المدني ومبادراته، اضافة الى أجهزة الحكومات ودعمها. وبسبب هذه الروح المفرطة في التفاؤل، امطر المشاركون في الجلسات جمهور المؤتمر بوابل من الامنيات والاقتراحات الساعية الى تحسين الشروط التي يعمل فيها المترجمون، ولعل ابرزها الدعوة التي اطلقها عاصم المعماري الى تأسيس "بنك" عربي للمعلومات حول ادبنا العربي تعمل فيه كوكبة من المترجمين من اجيال مختلفة تكون قادرة على نقل ادبنا العربي الى اللغات الاجنبية لتفادي الاخطاء ودعم دور النشر القادرة على نشر هذا الادب. فوضى ترجمة الادب وفي هذا السياق يحسب للمؤتمر اهتمامه بدعوة اكبر عدد من المستعربين المهمتين بالثقافة العربية للمشاركة، وهي دعوة ساهمت - بحسب رأيي - في بلورة خطاب نقدي ازاء الممارسات السائدة في سوق ترجمة الادب العربي. وهي ممارسات كشفها الالماني شتيفان فايدنر رئيس تحرير مجلة "فكر وفن" التي يصدرها معهد غوته باللغة العربية، وهو يتحدث عن الموازنات الواجب مراعاتها في سياق التعريف بالادب الشرقي في الغرب، وقال إن هناك سوقاً كبيرة تحكم هذه الموزانات وتتم بشروط قائمة على مبادئ الربح والخسارة وتنطوي على قوانين تنظيمية قد تثير التذمر والاستياء في بعض الاحيان، وتسير كذلك على هدي ايديوجيا محددة ولا تنحاز الى تقويمات ذاتية بل تستعين بمعيار موضوعي ممكن القياس عليه كمياً، ألا وهو الربح الاقتصادي. ولذلك فإن جهود التعريف بالادب العربي في الغرب لا تزال تقوم على جهد افراد متحمسين فقط على رغم ان العائد الاقتصادي لا يعوضهم عما يقومون به. وطالما ظل الجهد في هذا المجال يعتمد على افراد، فإنه يخضع للميول الشخصية والصدفة. أما الباحثة آنا جيل فأقرت بضعف ما يترجم من التراث العربي الى لغات اجنبية وضربت مثالاً بما يترجم من هذا التراث في اسبانيا وحدها، حيث تشير البيانات في السجل الوطني للمؤلفات الصادرة في اسبانيا منذ 1972 وحتى الآن الى عشرين كتاباً فقط هي ترجمات لكتب من الادب العربي القديم، وهي في معظمها نصوص ترجمها متخصصون في فقه اللغة وموجهة الى متخصصين محتملين من دارسي اللغة والادب العربيين. ويترتب على ذلك امران بحسب قولها: الاول، ان الترجمات تكون حرفية وتهدف الى تسهيل قراءة النص العربي وتمزج بين الترجمة والدراسة العلمية للنص، وهي مرتبطة ثانياً بتيار الاستشراق الذي كان قائماً منذ القرن التاسع عشر. ولذلك يصعب القول بوجود تفاعل ثقافي ناتج من مثل هذه الممارسات، خصوصاً ان هذه الترجمات تنتج افكاراً خاطئة عند القراء غير المتخصصين. وقالت المستعربة الايطالية ايزابيلا كاميرا دافليتو ان أسباب سوء الفهم القائم بين الغرب والثقافة العربية تعود الى وجود مستشرقين تصادفهم في الغرب وبعضهم من جيل الشباب، لا يتكلمون اللغة العربية، ومع ذلك يدرسونها بل ويقومون بالترجمة ولا يجدون حرجاً امام المقولة الشائعة: هل تعرف اللغة العربية؟ فيرد "لا... اترجمها فقط". وقالت ان مثل هؤلاء ليسوا مترجمين بل نقلة نصوص مشوهة وتخلو ترجماتهم من الحرفية والالمام بالسياق الثقافي والاجتماعي والسياسي المنتج للنصوص. خبرات وتجارب والى جانب الحضور اللافت لأجيال وأسماء مهمة من المستعربين امثال روجر آلن وروبن اوستل، وفّر المؤتمر فرصة نادرة للاستماع الى خبرات مجموعة كبيرة من المترجمين العرب الذين ساهموا في تعريف القارئ العربي بأعمال ادبية مهمة نقلوها عن لغات اصلية. ومن هؤلاء سعد زهران مترجم جون شتاينبك وفخري لبيب مترجم لورانس داريل وصالح علماني مترجم الأدب الأميركي اللاتيني. وهو قال إن خبراته اكدت له اهمية ان يمتلك المترجم لغته الاصلية الى جانب امتلاكه اللغة التي يترجم عنها لأن ذلك يمكنه من الافصاح بصورة جيدة عن روح أي نص يتعرض له. وتحدث صلاح نيازي بنبرة قاسية عن تجارب طه محمود طه في ترجمة رواية "عوليس" وتجارب جبرا ابراهيم جبرا في ترجمة "مآسي" شكسبير، مؤكداً انها ترجمات اهملت تقنيات الكتابة وأساليب التعبير فأضحت ترجمات بلا روح! وعرض الناقد المصري المقيم في بريطانيا محمد مصطفى بدوي والذي برزت تجربته في ترجمة الكتابات النقدية من الانكليزية الى العربية منذ العام 1946 قائلاً: "كنت اظن في شبابي باستحالة ترجمة "مآسي" شكسبير. ومن سخريات القدر انني انهي حياتي بالعمل على ترجمة هذه "المآسي" محافظاً فيها على روح النص". اما الشاعر المغربي المهدي أخريف فعرض تجربته مع ترجمة الشاعر البرتغالي فرناندو بيسوا. وقدم عبدالغفار مكاوي شهادة لا تخلو من مرارة لأنه يشعر بعد ثلاثين عاماً من العمل او يزيد بأنه لا يكاد يجد صدى لما قدمه من ترجمات لاعمال مهمة في مجال الفلسفة ولا يشعر بتفاعل الحياة الثقافية معها لأنها لم تحظ بأي متابعة نقدية او صحافية. الالياذة في طبعة جديدة وازاء اهتمام المشاركين بموضوع ترجمة الادب في الحقيقة، طغى الحديث عن واقع الترجمات الادبية على جلسات المؤتمر في طريقة جعلت المتحدثين عن واقع الترجمة في ظل ثورة المعلومات والاتصال امثال عبدالله العميد وشوقي جلال اقرب الى المؤذنين في "مالطا"، خصوصاً في ظل ضعف اعداد المشاركين من المهتمين بطرح هذه المواضيع. ومن ممارسي الترجمات في مجال الثقافة العلمية مصطفى ابراهيم فهمي وأحمد مستجير. وبقى من هذا "الأذان" دعوة المترجم المصري شوقي جلال الى النظر للترجمة كأداة من ادوات الحراك الاجتماعي، مشيراً الى اهمية ان تتم في عالمنا العربي وفق خطة تشخص واقعنا الحضاري بدقة، وتعرف التحديات المفروضة عليه بدلاً من الفوضى القائمة الآن. وعلى رغم ان المؤتمر عقد لمناسبة مرور مئة عام على ترجمة سليمان البستاني ل"الالياذة"، الا انه عرّض "الالياذة" ذاتها لظلم كبير، إذ لم تحظ الحلقة البحثية التي نظمها المجلس على هامش المؤتمر تحت عنوان "الالياذة عبر العصور" بالاهتمام الملائم وفضلت الغالبية متابعة الجلسات العامة لطابعها السجالي الذي افتقرت اليه حلقة "الالياذة" وهي تناقش موضوعات عدة منها اثر "الالياذة" في الآداب العالمية "والالياذة" كمرآة لعصرها الى جانب اوراق اخرى قرأتها من منظور انثروبولوجي وآخر تاريخي. وينبغي ان نشير الى ان جلسات كثيرة لم تقدم للمتابع أي جديد يضاف الى الافكار التي تضمنتها ندوة اخرى عقدها المجلس الاعلى للثقافة قبل أربع سنوات وبالتحديد في تشرين الأول اكتوبر 2000 تحت عنوان "قضايا الترجمة واشكالياتها". وهو امر يدعو الى التساؤل عن اسباب حشد هذا العدد الضخم من المشاركين في مناسبة كان يمكن ان يكرس جزء منها لورش عمل تخصصية تعالج قضايا فنية وتقنية او موائد مستديرة للحوار تشارك فيها النخبة بدلاً من اسماء كان حظها في الاضافة اقل من ان يذكر. الا ان المناسبة ذاتها يبقى فيها حدثان مهمان: الاول صدور طبعة جديدة وفاخرة من النص الذي ترجمه البستاني قبل مئة عام عن "المجلس الاعلى للثقافة" وهو أصدر ايضاً ترجمة عربية ل"الالياذة" نقلت عن اليونانية مباشرة ومن خلال مجموعة من المترجمين تم تكريمهم في افتتاح المؤتمر وهم: أحمد عثمان ولطفي عبدالوهاب ومنيرة كروان وسيد البراوي وعادل النحاس وجميعهم في قسم الآداب اليونانية واللاتينية في جامعتي القاهرة والاسكندرية. وتم أيضاً تكريم الشاعر السوري ممدوح عدوان الذي قام بترجمة "الالياذة" عن اللغة الانكليزية وصدرت عن المجمع الثقافي في أبو ظبي.