سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
ترجمة مصرية جديدة تحتفي بالذكرى المئوية لترجمة البستاني 1904 ."الإلياذة" معربة نثراً عن اليونانية ... بجهد جماعي وسؤال "المقدمة": هل وجد هوميروس حقاً ؟
لئن كان صدور ملحمة"الألياذة"للشاعر الاغريقي هوميروس في صيغتها العربية الأولى عام 4091 حدثاً نهضوياً بارزاً، فإنّ صدورها أخيراً في صيغة عربية جديدة انطلاقاً من اللغة اليونانية مباشرة هو بمثابة حدث معاصر. وبدت الترجمة الجديدة أشبه بالاحتفاء بالترجمة الأولى بعد مرور مئة عام على صدورها. واللافت في هذين الحدثين أنّ القاهرة هي التي اطلقتهما عربياً ولو كان مترجم الصيغة الأولى لبنانياً وهو الشاعر سليمان البستاني وقد عكف وحيداً على تعريب"الألياذة"خلال ما يقارب عشرين عاماً بينما تضافرت في الترجمة الجديدة جهود خمسة مترجمين مصريين على رأسهم حمد عتمان الذي حرّر الترجمة وراجعها وقدّم لها. ولكن لا يمكن انكار ترجمات أخرى أُنجزت ما بين هذين التاريخين مع أنّها لم تتمّ عن اللغة اليونانية، كما يشير أحمد عتمان في المقدمة، ومنها ترجمة دريني خشبة وممدوح عدوان وسواهما... وقد تكون ترجمة الشاعر السوري ممدوح عدوان متينة على المستوى اللغوي، لكنّ مشكلتها الرئيسة أنّها نقلت عن الانكليزية. تصعب المقارنة فعلاً بين ترجمة البستاني الكلاسيكية والترجمة المصرية النثرية التي تبنّاها المجلس الأعلى للثقافة في مصر، فالأولى صاغها البستاني شعراً عمودياً فيما صيغت الثانية نثراً على غرار الترجمات العالمية الكثيرة. إلا أنّ عتمان لم يتوان عن مدح صيغة البستاني معتبراً إياها"علامة من علامات الطريق الى النهضة"وقد كانت سبّاقة في رأيه في فتح"مرحلة جديدة من محاولات الاتصال بثقافة الآخر من طريق ترجمة عيون الأدب العالمي". لكن الترجمة الجديدة هي أقرب الى القارئ ولا سيما القارئ المعاصر، ليس لأنها تعتمد النثر فقط وانما لما تضمنت من شروح وملاحظات جمّة، عطفاً على المقدمة التي تُعدّ مرجعاً مهماً لقراءة"الألياذة"ومدخلاً الى عالمها الرهيب والشاسع. وقد ضمّنها أحمد عتمان أحدث ما توصّل اليه الباحثون العالميون في حقل"الألياذة"والتجربة"الهوميرية"عموماً. وليس من قبيل الصدفة ان يضع عتمان مثل هذه المقدمة المتعمّقة والشاملة، فهو شاء من خلالها أن يوازي ولو من بعيد"المقدّمة"التي وضعها سليمان البستاني وباتت مضرب مثل نظراً الى ريادتها في حقل النقد الأدبي والأدب المقارن علاوة على تناولها"الألياذة"و"هوميروس"والحضارة الاغريقية عموماً والشعرية العربية. عندما صدرت ترجمة سليمان البستاني في العام 4091 تبنّتها القاهرة وكرّمت الشاعر - المترجم والتفّ من حوله حينذاك روّاد النهضة الحديثة من أمثال الشيخ محمد عبده وسعد زغلول وأحمد شوقي وخليل مطران وابراهيم اليازجي وجرجي زيدان وسواهم. وكتب الشيخ محمد عبده الى البستاني قائلاً:"تمّت لك ترجمة"الألياذة"، ونسجت قريحتك ديباجة ذلك الكتاب، فإذا هو ميدان غزت فيه لغتنا العربية ضريعتها اليونانية فسبت خرائدها وغنمت فرائدها...". ويمكن اعتبار ترجمة البستاني عملاً إبداعياً كلاسيكياً صرفاً، ينطلق من أنقاض عصر الانحطاط ليبني عشية النهضة أو غداتها، عمارة شعرية لم يكن للعربية عهد بها سابقاً. فالبناء هنا، وان انطلق من أصل اغريقي، يظلّ عربياً، أي داخل اللغة العربية وداخل النظام العروضي العربي. وقد أصرّ البستاني على تعريب"الألياذة"شعراً عربياً عبّر عن نزعته الشعرية التي تفجرت في هذا الصنيع الملحمي، فإذا به يتخيل نفسه هوميروس، ينظم أكثر مما يترجم ويبدع أكثر مما ينقل. وفي هذا الصنيع راح يتفنّن في الأوزان والقوافي من غير أن يتخلّى عن السليقة التي تهيئ في نظره جمال الشكل وجمال المعنى في وقت واحد. ترجمة البستاني لا بدّ من العودة إذاً الى ترجمة البستاني عند قراءة الترجمة الجديدة على رغم أنّ قراءة الترجمة الأولى، الكلاسيكية الطابع، باتت على قدْر من الصعوبة تبعاً لصوغها نظماً و"صناعتها"العروضية المتينة القائمة على"المماثلة"بين اللغتين، الاغريقية والعربية، ناهيك بما تعجّ"الألياذة"أصلاً من أسماء وتواريخ وعلوم وقد نسجها البستاني داخل البنية السردية المركّبة. وقد ضمّت صيغته العربية أحد عشر ألف بيت فيما تتكون"الألياذة"من ستة عشر ألف بيت في أصلها الاغريقي. أما الترجمة المصرية الجديدة فهي تعتمد النثر في ما يتيح من حريّة في التصرّف اللغوي والبناء والسرد. ولعلّ العمل الجماعي الذي قام به فريق من المترجمين المصريين، المتخصصين في الأدب اليوناني، ساعد على مواجهة الغموض الذي يكتنف هذا العمل الملحمي الضخم الذي يعود الى القرن التاسع ق.م أو القرن الثامن بحسب بعض الباحثين الغربيين والصعوبات الجمة والمشكلات المستعصية التي تعتريه وفي مقدمها تعريب أسماء الآلهة الاغريقية والأبطال والأعلام الجغرافية والأماكن، اضافة الى الإلمام بمعارف العصر القديم وتقاليده ومعتقداته وبالعلوم التي شملتها"الألياذة"كالطب والهندسة والفلك وسواها. ونمّت الترجمة الجديدة عن جهد كبير، جماعي وأكاديمي، يوازي الجهد الجبار الذي بذله البستاني بدوره ولكن فردياً. على أن الترجمة الجماعية تظلّ أشد حرصاً على الدقة والموضوعية نظراً الى ابتعادها عن المزاج الفردي للمترجم، وعن النظرة"الأحادية"والنزعة الذاتية التي تسم عادة فعل الترجمة. وما يمكن أخذه على الترجمة الجماعية هو اختلاف الأسلوب أو النَفَس اللغوي بين جزء وآخر والناجم عن اختلاف مفهوم الترجمة بين مترجم وآخر. وعوض أن يمسي العمل المترجم نصّاً واحداً لغة وشكلاً ومناخاً يبدو كأنه مجموعة نصوص متعددة داخل النص الواحد. وهذا بدوره ما يمنح النص حيزاً أوسع وأفقاً أرحب ويجعل القارئ أمام نصّ أشد ثراء في"لغاته"المختلفة وأساليبه. ولو فقد النص حدته الأسلوبية واللغوية. فالترجمة أولاً وأخيراً هي أقرب الى"الاقتراح"النصّي الذي يقوم به المترجم وكلما تعددت"الاقتراحات"ازداد النص المترجم امكانات ومقاربات لغوية وأسلوبية. أما النص الملحمي الذي يتصدّى له مترجم واحد فهو يتسم حتماً بخصائص هذا المترجم، لغوياً وأسلوبياً. وقد لا يكون مستغرباً اليوم رواج العمل الجماعي في حقل الترجمة العالمية على رغم اشكالية هذا العمل. ويكفي مثلاً على هذا الرواج الترجمة الفرنسية الجماعية ل"التوراة"أو"العهد القديم" وقد توزّع الأسفار عشرون كاتباً فرنسياً راحوا يترجمونها كلّ على حدة وكلّ بحسب لغته الخاصة. وقد صدرت في باريس أيضاً ترجمة جماعية جديدة لرواية جيمس جويس الشهيرة"عوليس"وقد شارك فيها مترجمون عدّة تقاسموا أجزاء الرواية، معتمدين خبراتهم الشخصية. إلا أنّ أهمية الترجمة المصرية الجماعية ل"الألياذة"تكمن في انتماء المترجمين جميعاً الى"قسم الدراسات اليونانية واللاتينية"في كلية الآداب، جامعة القاهرة، وكان أسسه عميد الأدب العربي طه حسين في العام 5291 . وهذا الانتماء الأكاديمي يعني ان الترجمة الجديدة ل"الألياذة"تميل الى الطابع العلمي المشوب بالموضوعية والدقة، ويعني أيضاً أنها ثمرة أعوام من التخصص الذي توفّرت عليه أجيال عدة. أما الذين شاركوا في الترجمة فهم: لطفي عبدالوهاب يحيى، منيرة كروان، السيد عبدالسلام البراوي وعادل النحاس. بحثاً عن اللغز الهوميري خص أحمد عتمان الترجمة المصرية بمقدمة مهمة استعاد من خلالها قضية"الألياذة"بل قضاياها المتعددة وأسرارها و"شعريتها"وألغاز هوميروس، معتمداً منهجاً واضحاً عماده العرض والتحليل والمقارنة. وكان لا بد لأحمد عتمان من أن يواجه أولاً المسألة التي واجهها سليمان البستاني في مقدّمته، وهي عدم اقبال العرب القدامى على ترجمة"الألياذة"مع أنهم عرفوها حق المعرفة، وقد ورد ذكرها مراراً في الأعمال التي نقلوها عن الاغريقية ولا سيما"فن الشعر"لأرسطو. وقد قيل ان حنين بن اسحاق المترجم العربي الرائد كان يتغنّى ببعض أشعار"الألياذة"في لغتها الأصلية. وتناول الشهرستاني كذلك هوميروس في"كتاب الملل والنحل"وعدّه"من القدماء الكبار الذي يجريه أفلاطون وأرسطو طاليس في أعلى المراتب، ويستدل بشعره لما كان يجمع فيه من اتقان المعرفة ومتانة الحكمة وجودة الرأي وجزالة اللفظ". ويسأل عتمان على غرار البستاني:"لماذا لم يترجم العرب القدامى"الألياذة"؟ ثم يسعى الى الاجابة عن السؤال، معتبراً أن العمل الملحمي هذا يتمثل الأسطورة الاغريقية القائمة على التعدّد الإلهي الذي لم يكن من السهل تقبّله إسلامياً، خصوصاً أن الإسلام دين توحيدي يرفض الدمج بين الإلهي والبشري مثلما يحصل عادة في الملاحم والتراجيديات الاغريقية. وفي رأيه أن العرب ما كانوا قادرين على الأخذ بظاهرة التعدّد هذه ولم يروا فائدة ترجى من تعريب هذه الملاحم. أما البستاني فيضيف الى السبب الديني سببين آخرين هما: اغلاق فهم اليونانية عربياً وعجز المترجمين المعروفين قديماً عن نظم الشعر العربي. ويشير البستاني الى ان إعراض العرب عن"الألياذة"يفاجئ مَن يلم بآدابهم إذ كانوا من أحرص الشعوب على علوم الأدب وأحفظهم للشعر وأشغفهم بالنظم. نجح أحمد عتمان في تسمية ظاهرة هوميروس ب"اللغز الهوميري"متماشياً مع أحدث الأبحاث العالمية التي يعرفها هذا الحقل الاغريقي والتي لم تستطع أن تنزع الالتباس عن هذا الشاعر الكبير والمجهول والفريد. فالقراء - كما النقاد - لا يعرفون إلا القليل عن هوميروس ولا يمكن بالتالي استخلاص أي معلومة عن سيرته من ملحمتيه"الألياذة"و"الأوديسية". وقد توالت سير عدّة لهوميروس منذ القديم لكنها جميعاً من نسج المخيّلة. إلا أنّ ثمة حقيقيتين يمكن الأخذ بهما، الأولى أنه كان ضريراً والثانية أن جذوره تضرب في جزيرة خيوس، إحدى جزر ساحل آسيا الصغرى. ويقول المؤرخ الاغريقي ثوكيديديس 554 - 004 ق.م إنّ هوميروس عاش بعد حصار طروادة فيما يقول خطيب روما شيشرون 601 - 34 ق.م إنه ولد قبل انشاء روما المتفق على انه كان في العام 753ق.م. وعلى خلاف هاتين المقولتين، أصرّ بعض الباحثين والعلماء على أن هذا الشاعر لم يوجد كشخص حقيقي وتاريخي مقدمة عتمان، ص: 01 وأن اسم هوميروس الذي يعني"الرهينة"أو"الأعمى"أو الضرير اسم منحوت أو مشتق ابتدعته المخيلة الأسطورية أو الشعبية يمكن مراجعة العدد الخاص بهوميروس الذي أصدرته"المجلة الأدبية"الفرنسية العدد: 724، السنة 4002. وقال بعضهم ان هوميروس هو أكثر من شاعر وليس واحداً وقد التأمت اسماء الشعراء هؤلاء في هذا الاسم. ورأى آخرون أيضاً - قديماً وحديثاً - ان شاعر"الألياذة"ليس شاعر"الأوديسيه"ودليلهم على هذا اختلاف الأسلوبين واللغتين في الملحمتين. وقال باحثون آخرون ان"الالياذة"هي من ابداع هوميروس الشاب المفعم بالحماسة فيما"الأوديسيه"نتاج سنوات النضج والحكمة. وينقل أحمد عتمان عن الباحث بورا قوله إنّ ليس من الخطأ ان نتكلم عن هوميروس، سواء عنينا به شاعراً واحداً أو شعراء عدة، باعتباره مؤلف هاتين الملحمتين، وهما على رغم الفروق بينهما، تملكان روحاً واحدة. هكذا اختلفت المواقف والآراء إزاء هوميروس والملحمتين وما برحت تختلف وتتعارض حتى الآن، ونجمت عن هذا الاختلاف مشكلة تاريخية لا حلّ لها على ما يبدو. ولعلّ هذا ما زاد من أهمية هوميروس وحضوره"الإشكالي"على رغم عظمة الملحمتين وعمق الأثر الذي تركتاه في الأدب العالمي منذ عصر الاغريق حتى عالمنا المعاصر. فالأدباء الذين تأثروا بهاتين الملحمتين لا يحصون ويكفي ذكر فيرجيل ودانتي وبتراركه وميلتون وشكسبير وغوته... من العصر القديم، وجيمس جويس وكفافيس واسماعيل قدري من العصر الحديث. أما الأعمال الشعرية والأدبية التي استوحت احداثاً من الملحمتين أو"أبطالاً"أو رموزاً فلا تحصى بدورها. ولم يصرف أي باحثين ما صرف الباحثون الهوميريون من جهد ومثابرة من أجل ترسيخ الملحمتين وتأريخ"رحلتهما"الى الأزمنة الحديثة، على رغم استحالة الوصول الى النصين الأصليين اللذين نظمهما هوميروس. وثمة نظرية تقول ان الملحمتين لم تدوّنا في عصر هوميروس الذي لم يكن قد عرف فن تدوين الأدب. وكان من الصعب حتماً أن تُحفظا غيباً ويتناقلهما الناس شفاهة عبر الأجيال المتوالية، نظراً الى طولهما والى ما تضمّان من وقائع وحوادث ومرويات. وهاتان الملحمتان هما من أقدم ما وصل العصور اللاحقة من الأدب الاغريقي، ومن المرجح ان جذور هذا الشعر الملحمي تمتد الى تراث الأناشيد الدينية التي كانت تتغنى بالآلهة الاغريقية وتناجيها، وهي غالباً ما كانت تُلقى في الأعياد والاحتفالات الطقوسية. واللافت ان الملحمتين الهوميريتين لا تتضمنان أي اشارة الى المام الاغريق حينذاك بفن التدوين، هذا الفن الذي لا يجاري أصلاً الطبيعة الأصلية للشعر الملحمي وهي الشفوية. وقد يكون أبرز ما يميّز هاتين الملحمتين أنهما يندّان عن ماضٍ طويل وتراث عريق يقبعان وراءهما. وقد أثار السجال القديم والحديث حول الملحمتين قضية عدم نهائية نتاج هوميروس أو عدم انجازه، وقيل إن أبياتاً ومقاطع أضيفت اليهما على مرّ السنوات، وإن أبياتاً حذفت وأجري فيها تبديل أو تغيير. ويرى الشاعر الألماني غوته في هذا الصدد أن أتباع هوميروس هم الذين وضعوا الملحمتين في تأليف جماعي. لكنه ما لبث أن تراجع عن مقولته هذه بعض التراجع وقد بلغت حماسته لهوميروس وشغفه به مبلغاً حتى قال:"هوميروس هو توراتنا". أربك هوميروس الباحثين والعلماء إذاً على مرّ الحقبات التاريخية ولا يزال لغزه محكم الاغلاق. ويسأل أحمد عتمان في مقدمته:"في مثل هذا المسار المطرد للأشعار الهوميرية أين يمكن أن يجد هوميروس نفسه؟". ولعلّ هذا السؤال لا ينفي وجود"هوميروس"ما قال عنه أفلاطون:"هذا الرجل علّم اليونان"وهو يقصد نتاجه حتماً وليس شخصه. هذا النتاج الذي اعتبر في العصور الاغريقية التالية له مصدراً دينياً و"طقوسياً"ومرجعاً تاريخياً وحجّة في المنازعات والنقاشات. وقد قال الناقد الفرنسي فرانسوا هارتوغ، أحد كبار الباحثين الهوميريين:"كلّ شيء يبدأ مع هوميروس بالنسبة الى الاغريق، انه الأول والمعلّم". ويرى عتمان من وجهة أخرى أن الشاعر الذي جعل الأغاني الملحمية الصغيرة وقصائد الانشاد الديني ملحمة كبيرة هو شاعر متأخر ولاحق للفترة التي ظهرت فيها هذه الأغاني والقصائد الإنشادية. وهكذا لا بد من أن يأتي هوميروس في نهاية مطاف الشعر الملحمي المتطوّر وليس في بدايته. ومن المرجح ان هوميروس لم يعش قبل القرن الثامن ق.م، لكن هذا الترجيح قد يكون مخطئاً، فالاغريق لم يتفقوا على تحديد العصر الذي عاش فيه هوميروس وان وافقوا على وجوده كمؤلف للملحمتين. إلا أن معظم العلماء مجمعون على ان حياة هوميروس تقع بين العامين 058 و057 ق.م. وان قال بعضهم ان هوميروس عاصر الحرب الطروادية التي استوحاها ملحمياً، فإن هذه الحرب، كما يجمع الكثيرون من المؤرخين، وقعت فعلاً في تاريخ يمتد بين 0821 و3811 ق.م ولم تكن رواية هوميروس لها أو عنها إلا رواية أسطورية من خلال رؤية شاعرية وملحمية. الخيال والتعاطف وسواء وجد هوميروس كشخص تاريخي أم لم يوجد، وسواء كان شاعر"الألياذة"واحداً أم أكثر، فإنّ"الألياذة"وجدت وتناقلتها الأجيال عصراً تلو آخر، وكان لها الأثر العظيم، على آداب العالم. ومَن يقرأ"الألياذة"يشعر كم أن الشعر فيها قادر على الغوص في أعماق النفس البشرية وعلى ولوج عالم الحياة والموت، عبر لغة قويّة وليّنة، متماسكة وواضحة في الحين عينه، رمزية وسرديّة. ولا يستطيع القارئ إلا أن يقرّ بعظمة هذا الشاعر الذي يدعى هوميروس، وقد وفّق بين عمق الموضوعات وبهاء الشكل وقوّة الأسلوب، مبتعداً عن التصنّع والتكلّف على رغم الطابع البنائي أو التركيبي للملحمة. وكم أصاب الناقد ج. مورّاي في قوله إنّ هوميروس نجح في أن يرسّخ"الخيال والتعاطف"اللازمين للقارئ المعاصر الذي يقبل على"الألياذة". فهوميروس يتميّز فعلاً بما يسمّيه النقاد العالميون"البساطة السامية والمباشرة الصريحة". ويمكن استخلاص أربع صفات يتسم بها أسلوب هوميروس من خلال الملحمة: الدفق أو السلاسة، جلاء المضمون، البلاغة اللغوية والسمو في الكتابة. وهذه الصفات الأربع غالباً ما واجهت المترجمين العالميين ل"الألياذة"وكانت لهم بمثابة التحدّي الذي لا بدّ من خوضه وصولاً الى صيغة راقية لهذه الملحمة في اللغات المنقولة اليها. وعلى رغم الغنائية الهادرة لدى هوميروس، فهو عمد الى التنويع في الأساليب معتمداً لكل موقف أسلوباً يلائمه ويتجاوب معه. وينقل أحمد عتمان عن الناقد كيرك قوله ان لغة هوميروس هي مزيج عميق من أساليب طالعة من أماكن عدّة وأزمنة، فهي أولاً وأخيراً"نتاج الموروث الملحمي الشفوي". وقد اكتشف الباحثون وعلماء اللغة طبقات مختلفة في لغة هوميروس ووجدوا ان الأبطال الملحميين في"الألياذة"ينفرد كلّ منهم بما يُسمى"لغة"خاصة تختلف من بطل الى آخر، حتى بات من الممكن الكلام مثلاً عن لغة"أخيليوس"ولغة"هيكتور"... ومن الخصال التي تميز بها أيضاً صنيع هوميروس على مستوى البناء: الدقة في رسم ملامح الشخصيات، الدمج بين الحدث البشري والتدبير الإلهي - الأسطوري، استخدام تقنية التشبيه. والتشابيه لدى هوميروس، وقد بلغت نحو مئة وثمانين وفق إحصاء أحمد عتمان، هي إما قصيرة جداً وسريعة وإما مطوّلة وغايتها أن تطبع في نفوس القراء أدق التفاصيل. هكذا تبدو التشابيه الهومرية كأنّها تكمّل الفعل الملحمي نفسه. لا ينتهي الكلام عن ملحمة"الألياذة"وعن"هوميروس"شاعرها"المفترض"تقول بعض الموسوعات ان"الالياذة"منسوبة اليه، فالملحمة هذه لا تسرد ما حصل خلال حرب طروادة فقط بل تحلل ما حصل وتصوّر العالم الذي نشبت فيه هذه الحرب الأسطورية. ولا غرو أن تشمل الأحداث العالم الاغريقي بدءاً بجبل الأولمب الشهير والسماء الثلجية حتى أعماق البحر ورماد الغابات المحترقة، ناهيك بأعماق النفس الإنسانية في أحوالها المتقلّبة. وفي عالم"الإلياذة"تتداخل أعمال الآلهة القديمة وأفعال البشر. مَن يقرأ"الألياذة"في الترجمة النثرية الجديدة يشعر أنّه يقرأ، على خلاف ترجمة سليمان البستاني، نصّاً سردياً ميثولوجياً هادراً كالنهر. وقد تجذب هذه الترجمة القارئ المعاصر كونها منقولة عن الاغريقية مباشرة، علاوة على تعدّد المترجمين الذين تضافرت جهودهم بغية تعريبها. إلا ان ما ينقص هذه الترجمة الفريدة هو التنبّه الى بعض التراكيب والجمل التي بدت على قدْرٍ من الوهن اللغوي، اضافة الى بعض الأخطاء، صرفاً ونحواً. وفي مطلع الملحمة يقع خطأ واضح في فعل الأمر إذ يقول المطلع:"غنِّ لي يا ربّة الشعر..."والصحيح هو:"غنّي لي يا ربة الشعر"... فهنا يجب حذف النون تبعاً لفعل الأمر. وقد تكرّر هذا الخطأ في المطلع نفسه.