الأربعاء المقبل هو اليوم المحدد لاستعادة العراقيين السيادة على بلدهم. وكان الانتهاء من تشكيل الحكومة الموقتة المنوط بها استلام هذه السيادة قبل شهر كامل على الموعد المحدد إنجازاً كبيراً في الظروف البالغة الصعوبة والتعقيد التي يمر فيها العراق. لكن هذا الانجاز قد يفقد قيمته إذا لم تتمكن الحكومة الموقتة من ممارسة أكبر قدر ممكن من السيادة مع العمل على استرجاع ما لا تستطيع الحصول عليه منها في أقرب وقت ممكن. وهذا مشروط بتحقيق الأمن في مختلف أنحاء العراق ووضع حد للعنف المتزايد بأشكاله كافة من عمليات مسلحة وتفجيرات واغتيالات واختطاف واحتجاز رهائن. فما دام العنف مستمراً، ستظل هناك حاجة إلى قوات أجنبية. وما دام الوجود العسكري الأجنبي سيأخذ شكل قوات متعددة الجنسيات لا قوات احتلال، سيكون سهلاً بقاؤها لفترة أطول. ويعني ذلك أن استمرار العنف وتصعيده لا يفيدان في اكمال عملية استعادة سيادة العراق، بل يلحقان بها ضرراً أكيداً، أياً تكن اللافتة التى يحدث هذا العنف تحتها، رغم أن لافتة المقاومة تعطيه مشروعية وتكسبه "حصانة" ضد النقد، وفق اعتقاد سائد في غير قليل من الأوساط العربية. غير أن هذه الحصانة لا تصمد إذا ثبت أن العنف يؤخر جلاء القوات الأجنبية ويحول دون استعادة الشعب العراقي السيادة كاملة. فالهدف الأول لأي مقاومة وطنية هو الاستقلال وجلاء قوات الاحتلال، من دون أن يغني ذلك عن برنامج واضح يحدد ما الذي سيفعله "الوطنيون" بالبلد بعد الاستقلال والجلاء. وكان غياب مثل هذا البرنامج كافياً للتشكيك بحقيقة أهداف ما أطلق عليه مقاومة عراقية مسلحة. مع ذلك كان ثمة ما يبرر مثل هذه المقاومة في وجود احتلال سافر وقبل التفاهم على عملية نقل السيادة إلى الشعب العراقي. وإذ تسير هذه العملية في طريقها، يصبح ضرورياً توفير الظروف الملائمة لإكمالها وصولاً إلى جلاء القوات الأجنبية. وهذا هو المعيار المحدد الآن لوطنية المقاومة. فالمقاومة الوطنية هي التي تساعد في التعجيل بإكمال السيادة ومن ثم تحقيق الجلاء، على النحو الذي حدث في تاريخ حركات التحرير الوطني في كثير من البلاد. ففي مصر، مثلا، بدأت عملية استعادة الشعب السيادة على بلده عندما اضطرت بريطانيا إلى إعلان تصريح 28 شباط فبراير 1922، الذي مهد لمفاوضات قادت إلى توقيع معاهدة 19360 فقد أعادت هذه المعاهدة السيادة إلى المصريين، ولكن ظلت القوات البريطانية في منطقة القناة إلى أن غادرتها بموجب اتفاقية الجلاء في 1954. لكن العراقيين لن ينتظروا 18 عاماً لاجلاء القوات الأجنبية لأن عصر الاستعمار انتهى وما حدث لهم هو استثناء فريد، ولأن التقدم الهائل الذي حدث في العقدين الأخيرين أحدث تغييراً في دلالة وحدات الزمن. فما كان يحدث في سنوات قبل نصف قرن لا يحتاج الآن سوى إلى شهور. وهكذا صار في إمكان الشعب العراقي أن يتطلع إلى ممارسة سيادته كاملة بعد شهور عدة، من دون وجود أجنبي على أرضه، وفي ظل نظام سياسي يجعله السيد الحقيقي للمرة الأولى في تاريخه. لكن يظل استرجاع الأمن في أنحاء العراق شرطاً رئيساً لاستعادة السيادة الكاملة بهذا المعنى لأنها مشروطة بإجراء انتخابات عامة وفق قرار مجلس الأمن 1546. فهذه الانتخابات كانت مستحيلة في الشهور الماضية، وستبقى كذلك ما لم تميز المقاومة الوطنية نفسها عن المسلحين الذين يضربون لأهداف لا صلة لها باستقلال العراق. فهؤلاء الذين يعملون في خدمة منظمات الإرهاب الأصولي أو لمصلحة دول مجاورة لا يريدون للقوات الأميركية بخاصة أن ترحل. فبالنسبة إلى "القاعدة" و "التوحيد والجهاد" وغيرهما، يعتبر العراق الساحة البديلة عن أفغانستان وخط التماس الوحيد مع القوات الأميركية حيث يمكن تكبيدها خسائر مستمرة وملموسة. أما الدول المجاورة التي تخشى أن تكون هي الهدف المقبل لجموح المحافظين الجدد، إذا بقوا في السلطة بعد الانتخابات المقبلة، فتجد مصلحة في بقاء القوات الأميركية في العراق كي تغرق في "مستنقع" لا يتيح لها فرصة للتوجه نحو أهداف أخرى في المنطقة. وما لم تميز المقاومة العراقية نفسها عن هؤلاء، وبشكل قاطع لا لبس فيه، لا يمكن أن تكون وطنية بأي حال، استناداً الى المفهوم الواضح للوطنية وهو مصلحة الوطن واستقلاله وازدهاره بما في ذلك إخراج القوات الأجنبية منه. وليس ثمة ما يدل على تمايز بأية درجة، خلال الأيام الماضية منذ إعلان تشكيل الحكومة الموقتة المناط بها عملية استعادة السيادة. فالعمليات المسلحة كلها تصب في مجرى تعويق هذه العملية وإدامة وجود القوات الأجنبية وزيادة عددها. وحتى ما كان يبدو من تمايز جزئي بين عمليات مسلحة ضد القوات الأميركية والبريطانية، وأخرى ضد أهداف عراقية، أخذ يتراجع إلى أن كاد يختفي. فإذا راجعنا العمليات التي حدثت خلال العشرين يوماً الأولى في الشهر الجاري، نجد أن معظمها استهدف العراق والعراقيين أولاً وأخيراً. فقد ضربت كلها منشآت عراقية أو أماكن تجمع العراقيين لأن إجراءات الأمن التي توفرت لها أقل بكثير من تلك التي تحظى بها المواقع العسكرية الأميركية. كما أن الغالبية الساحقة من ضحايا هذه العمليات عراقيون. ففي يوم واحد فقط 6 الشهر الجاري قتل 30 منهم وأصيب أكثر من مائة في هجوم على مركز شرطة المسيب جنوببغداد، وفي انفجارين أحدهما في مدينة الطور جنوبكركوك والثاني في مدينة الكوت. وحتى الانفجار الذي حدث في مدخل قاعدة أميركية في تاجي شمال بغداد في ذلك اليوم، أوقع قتلى عراقيين لا أميركيين. وفي مقابل هذا العدد الكبير من الضحايا العراقيين، قتل مدنيان أميركيان وآخران بولنديان. وفي يوم دامٍ آخر 14 الجاري قتل 11 عراقياً مقابل أميركي وفرنسي وبريطانيان كلهم مدنيون في تفجير انتحاري في بغداد. فالملاحظ أن ضحايا العمليات المسلحة أصبحوا في معظمهم عراقيين أو مدنيين أجانب. وليس هذا فعلاً لمقاومة وطنية بأي حال. فإذا كانت هناك مقاومة وطنية فعلا، فهي مطالبة بأن تميز نفسها فورا عن المسلحين الذين لا أهداف وطنية لهم. ولا سبيل إلى ذلك إلا عبر موقف واضح يبدأ بإدانة أي عمل مسلح ضد عراقيين وأهداف عراقية، بما في ذلك قوات الشرطة ومراكز التجنيد للجيش الوطني الجديد. فالتعجيل ببناء الجيش وأجهزة الأمن هو الذي يسرّع عجلة الاستقلال والجلاء، إذ يستحيل أن يتصور عاقل خروج القوات الأجنبية من دون بناء قوات وطنية تملأ الفراغ. وكل استهداف لجهود بناء هذه القوات ليس فعل مقاومة وطنية، بل هو، على العكس، فعل ضد هذه المقاومة وضد كل ما يمت إلى الوطنية العراقية بصلة. ولا يمكن لمقاومة وطنية أن تكون كذلك إذا استهدفت خطوط النفط، بل لا تصبح هذه المقاومة وطنية إلا إذا قامت بحماية هذه الخطوط. فأحد أهم مقومات عملية استعادة السيادة هو الإسراع في إعادة بناء الاقتصاد الوطني الذي يوفر النفط مورده الوحيد الآن. كما أن زيادة صادرات النفط تزيد العائدات التي يوجه قسم منها للانفاق على تجهيز الجيش الوطني وأجهزة الأمن الوطنية. ولذلك لا يمكن أن تكون الهجمات التي أدت إلى وقف صادرات النفط من مرفئي البصرة والحمية في منتصف الشهر الجاري من فعل مقاومة وطنية بأي حال. ويبدو أن الطابع الاستثنائي لاحتلال العراق بعد انتهاء عصر الاستعمار يطبع أيضا العمليات المسلحة ضد هذا الاحتلال ويجعلها أبعد ما تكون عن المقاومة الوطنية بالمعنى الذي عرفناه في حركات التحرر في ذلك العصر. وعلى من يشك في ذلك أن يراجع الاتجاه الرئيس للعمليات المسلحة منذ تشكيل الحكومة الموقتة، وأن يتأمل ما يترتب على هذه العمليات في ضوء تصريحات الأمين العام للأمم المتحدة في ساو باولو يوم 15 الجاري. فقد اعتبر استقرار الأمن هناك شرطاً لإجراء الانتخابات بهدف اختيار حكومة مخولة استعادة السيادة كاملة وقيام الأممالمتحدة بدورها في هذا المجال. فليست وطنية أبداً المقاومة التي تضرب أهدافاً عراقية وتقتل العراقيين وتدمر موردهم الاقتصادي الرئيس وتؤخر جلاء القوات الأجنبية وتهدد الوطن باندلاع صراعات طائفية وعرقية تمزقه، أياً تكن الشعارات الحماسية التي ترددها. وقد يكون البيان الذي أصدرته "هيئة علماء المسلمين" السنة في 16 الجاري بداية وعي لهذه الحقيقة. فحين تعلن هذه الهيئة، التي كانت حريصة على تجنب الإدانة الحاسمة للعمليات المسلحة، أن "الاغتيال والتفجيرات" في العراق أعمال إجرامية من صنع "أعداء العراق" وعصابات الغدر، فهذه خطوة مهمة باتجاه الوعي بأنه ليس وطنياً بالضرورة كل من زعم "مقاومة" الاحتلال. لقد مضى وقت يكفي لتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود، وكشف الوجه الحقيقي لمن يرتدون قناع "المقاومة الوطنية"، فيما هم يقاومون في الواقع الجهود الوطنية المبذولة لإكمال عملية استعادة الاستقلال وجلاء القوات الأجنبية.