لم يمض وقت طويل على تغيير النظام العراقي، وسيطرة قوة الاحتلال، وبدء أعمال المقاومة، حتى بدا العنف يستشري في بلاد ما بين النهرين، عنف لا يطاول الاميركيين فحسب، بل يرتد على العراقيين وبصورة مضاعفة. لقد تحول العراق بصورة من الصور الى ارض للعنف. وليس لهذا العنف المتجول المتفجر من وظيفة معلنة، او من سياق سياسي معلن ويجمع حوله غالبية تذكر، وحتى لو كان الامر في بعض جوانبه يتعلق بانهاء الاحتلال، فليس ثمة مطالب مفصلة بذلك، كما هي الحال مع حركات المقاومة، التي تضع برنامجاً لخروج القوة المحتلة، وتعلن عن هويتها كحركة وطنية تنشد السيادة والاستقلال، وتدعو الناس للانضمام اليها والالتفاف حولها. واذ يقول قائل ان شبحية المقاومة هي من مصادر قوتها، فالواضح انها كذلك من اسباب ضعفها، اذ يسهل في اجواء الغموض المتعمد، لأية جماعة مسلحة لا ان تنتحل صفة المقاومة فحسب، بل كذلك ان تفعل ما تريد، ويكفي ان تستهدف اميركيين كي تسوغ لنفسها توسيع دائرة نشاطاتها، بعدما منحت نفسها حصانة وطنية وتزكية ذاتية، تعفيها من المسؤولية. واذا كان مطلوباً اضعاف القوة المحتلة، وتكبيدها اكبر خسائر ممكنة، خصوصاً بعدما رفضت التخفف من صفتها هذه بعد نقل السلطة في 28 حزيران يونيو الماضي، فإن المطلوب ايضاً وبالاهمية ذاتها، عدم اضعاف النسيج الاجتماعي، وعدم تهديد العراقيين في حياتهم وموارد رزقهم، وفي علاقتهم ببعضهم بعضا، ويتعين كذلك صيانة البديل الامني الوطني المتمثل في قوة الشرطة والحرس الوطني. لكن شيئاً من ذلك لم يحدث، بل ان أموراً معاكسة هي التي تحدث، فقد باتت الشرطة والحرس منذ أمد غير قصير في منزلة العدو الاول، وفي المرمى المباشر للاستهداف اليومي، وباتت الدوائر الحكومية، والجامعات، وانابيب النفط، والزعامات الاجتماعية محط استهداف دائم، وجرى التوغل في دائرة العنف، عبر استهداف الابناء والاقراب لهذا الشخص او ذاك. ومؤدى ذلك ان دائرة العنف باتت تتسع بغير ضابط او حدود، فيدفع العراقيون اثماناً مضاعفة لما يتعرض له الجنود الاميركيون، ما يثير التساؤل عن المقصود من كل ذلك، وعن صورة العراق بعد جلاء الاحتلال او انحساره عن المدن والتجمعات السكنية على الاقل. ولا يحتاج المرء كبير عناء ليدرك ان المقصود يتعدى وضع حد للاحتلال، الى حرمان العراقيين من اقامة نظام عصري وتمثيلي ترتضيه الاكثرية، وهذا الوضع الكارثي هو الذي يمنع عراقيين في الخارج من العودة لوطنهم، كما يدفع بآخرين للنزوح الى الخارج، ما يهدد حاضر ومستقبل هذا البلد ولا يهدد الاميركيين فحسب، اذ يتبدى ان من يعدون العدة لوراثة النظام السابق، هم جماعات مسلحة ذات صلة واهية بالمجتمع، وليس الاحزاب والهيئات الاجتماعية والمهنية والنقابية. ويغدو الامر أشد مأسوية، مع طغيان صورة حرب أهلية تستهدف كل من ينشد التغير، وكل من لا يريد الاحتكام للعنف لتقرير مصير هذا البلد. وبهذا فقد تمت اعادة انتاج العنف بصورة جديدة، وتسهم بطبيعة الحال القوة المحتلة في تغذية هذا العنف، عبر القصف الوحشي لأحياء سكنية، والقتل العشوائي، غير ان ابناء البلد يجب ان يكونوا اكثر حرصاً على بلدهم وشعبهم من القوة المحتلة، اذ المطلوب في نهاية الامر وضع حد للاحتلال والشروع في اعمار البلد، ما يشمل اعادة البناء السياسي، غير ان هناك من يتصرف باعتبار ان احراق البلد، يضمن احراق الاميركيين باعتبارهم يقيمون على أرضه، وتلك وصفة مدمرة، فالاصل هو انقاذ البلد وشعبه وثرواته، لا احراقه بداعي المقاومة، او تحويله الى جزر مسلحة متناثرة تتربص بعضها بعضاً. من المهم ان يظل صوت العراقيين مرتفعا من اجل الحرية والاستقلال، وان يقترن نقل السلطة الرمزية بانتقال فعلي للسيادة، وعدا ذلك فإن العنف المتفجر والمتجول هو وبال على شعب عاش طويلاً، وذاق من المرارات ما لم يذقه شعب آخر. ذلك ان العودة الى ثقافة وتقاليد العنف، هي آخر ما يحتاجه العراقيون، والذين لا يصعب عليهم تمييز هذا العنف عن مقاومة مشروعة. اجل ان الحاجة تظل قائمة وملحة لاستعادة الاستقلال والقرار الوطني، لكن الدفاع عن حق الشعب في الحياة والكرامة والامن، هو واجب ايضاً، واذا كان هناك من يشكك في شرعية الحكومة الموقتة والبرلمان الموقت المؤتمر الوطني فليحتكم الجميع الى الانتخابات، ومن الواضح ان تفاقم واستشراء العنف في شتى الاتجاهات، يرمي بين ما يرمي اليه، الى قطع الطريق على الانتخابات المزمعة في مطلع العام المقبل، وذلك من أجل اعادة عقارب الساعة الى الوراء، الى عقود لم ينعم فيها العراقيون بحق التمثيل. ان تكرار وثبات مظاهر العنف بصورة روتينية، يثير أعمق مشاعر التضامن مع أشعب المكلوم والضحية، وقد آن الآوان لارتفاع اصوات الاحتجاج، من العراقيين انفسهم خصوصاً من الخارج، فالعراقيون يستحقون حياة افضل وأكرم، ويستحقون من قبل ذلك ان ينعموا بالامل، لا ان تتهددهم أسباب اليأس والقلق من كل جانب، وقد اصبحوا في لياليهم ونهاراتهم في مرمى النيران المباشرة، بل وقود لها في أحيان كثيرة، ولا يمكن لعن الاميركيين من اصحاب القرار وهم يستحقون اللعنة، اذ يتعين السعي لتصحيح الاخطاء الذاتية، وأول التصحيح المجاهرة بالدعوة اليه ووقف دوامة التدمير والموت المجاني، التي تتكرر نتائجها كل يوم بصورة شديدة القتامة، وان كانت تشبع نهم وفضول وسائل الاعلام لمزيد من أخبار الاثارة الدموية، التي تحاكي أشرطة التشويق الرخيصة. * كاتب من الاردن.