بكل بساطة بعد سلسلة من الوظائف الصغيرة اكتأب وقرر انه "بكل بساطة من غير المنطقي متابعة العيش هكذا". كان في السادسة عشرة، وعندما عاد الى المدرسة فترة قصيرة فتح زجاجة اسيد الهايدروسيانيك لينهي حياته برشفة منها. فجأة صار شخصين: المرهق السخيف المستهتر بالحياة، والمراقب الحكيم الحانق من الأول. أدرك انه أراد الأكثر من الحياة لا الأقل، وأحس ب"غنى الواقع الهائل". بقي فقيراً مع ذلك ونام في مرج، وفي الرابعة والعشرين مجّد الوسط الأدبي كولن ولسون عندما نشر "اللامنتمي" وحقق اكبر بداية ادبية منذ اللورد بايرون. تحول الشريد نجماً لاحقه المصورون، ولونت حياته الخاصة صورته عندما صادق فتاة وهو متزوج فحاول والدها جلده. كتب The Outsider في غرفة المطالعة في المكتبة البريطانية، وصدر الكتاب في الأسبوع الذي بدأ عرض مسرحية "انظر خلفك بغضب" لجون اوزبورن فجمع الإعلام الشابين المختلفين في كل شيء في حركة وهمية دعاها "الشباب الغاضب". فرحت بريطانيا بابنها الوجودي لكن ولسون فقد وهجه بسرعة. كتب اكثر من مئة كتاب رحم النقاد بعضها بتجاهله وهشّموا البعض الآخر. يعود اليوم بسيرة جذابة "الحلم لهدف ما" الصادر عن دار سنتشيري، ولا يفهم نبذ الوسط الأدبي يلوم بريطانيا التي لا تقدر اصحاب الأفكار كجارتها". هل يمكنك تخيل ألف شخص يقفون في الصف هنا ليستمعوا الى محاضرة عن الوجودية كما فعلوا في باريس مع سارتر؟ الإنكليز يشاهدون كرة القدم فقط". ألبير كامو الذي كان لا منتمياً مثل ولسون لا يزال محترماً حتى اليوم في فرنسا، لكن الرجل السبعيني الغاضب اساء الى نفسه عندما كتب عن الصحون الطائرة والظواهر الخارقة وقاتل اطفال. يؤمن بالأرواح الشريرة والحياة بعد الموت وتحضير الأرواح وزيارة اهل الكواكب الأخرى الأرض في الزمن البعيد. تحول من اليسار الى اليمين وأخلص لمارغريت ثاتشر ووريثها العمالي توني بلير "المحافظ الطيب". جرّد كولن ولسون الوجودية من التشاؤم الذي يواكبها، ورأى الترويج للتفاؤل فكرة جدية يواجه بها جيل وليم بتلر ييتس المأسوي. اعتبر نفسه عبقرياً، وهو الوحيد الذي يحصي نفسه اليوم بين اكبر الكتّاب اطلاقاً. كان زوجاً وأباً في العشرين من عمره، وبحث عن التوازن في حياته بالتأمل والجنس. اعماله الباكرة ربطت الرغبة بالتصرف والعناصر الإجرامية في العقل، لكنه يرى الجنس اليوم، وهو في الثالثة والسبعين، وهماً ثانوياً وإن بهيجاً. الثابت المتحول تعود جانيت ونترسون في "تدبير المنزل الخفيف" الصادر عن "فورث استيت" وتتمسك بالوعي الذاتي على حساب العالم الموضوعي لتؤكد الحال المهتزة، غير المتوازنة لشخصياتها. روايتها الثامنة عن طفلة في العاشرة تعيش مع والدتها في منزل مائل على منحدر، وتربط إحداهما رجلها برجل الأخرى بحبل لكي تستطيع التحرك بأمان. عندما تهوي الأم عن المنحدر تواجه الطفلة اليتيمة انهياراً عاطفياً وتبدأ البحث عن شبكة النجاة. هل تجده في المنارة "النقطة الثابتة المتحركة" و"المكان المعروف في الظلمة"؟ المنارة مجاز الوجود الكاذب، ولئن كانت هناك لحظات مضيئة تسود الظلمة التي تؤكد التعارض بين بحثنا عن عالم ثابت وإصرار الوجود على التملص من المعنى. بطلة الرواية تسرق عصفوراً يردد اسمها فيظن طبيبها النفسي انها فقدت صلتها بالواقع و"شكل الحياة العادي". لا شيء عادياً في الحياة، تقول الفتاة التي تحاول ان "تكتشف الواقع لكي نستطيع لمسه". الكاتبة التي تبلغ الرابعة والأربعين اليوم بدت كأنها فقدت صلتها بالواقع في التسعينات. كتبت روايتها الأولى "البرتقال ليس الفاكهة الوحيدة" في الرابعة والعشرين ونالت جائزة ويتبريد، وأكدت "الهيام" و"تجنيس الكرز" موهبتها الرفيعة. "صوت جديد وراءه عقل" قالت مورييل سبارك عن الكاتبة التي ذكّرت البعض بجوناثان سويفت وغابرييل غارسيا ماركيز لتتهم بعد ذلك بان فنها لمصلحة الفن ولغتها لمصلحة اللغة وبأنها لم تعد راوية قصة. في "تدبير المنزل الخفيف" يروي حارس المنارة الأعمى قصصاً كثيرة لكن جاذبية الرواية تبقى ناقصة ومحبطة لاعتمادها الكبير على اللغة والخرافة. على ان الكاتبة سعيدة بعثورها على صوتها مجدداً بعدما واجهت "الانهيار العقلي والقرف من الذات". كانت الكتابة "مكاناً للفرح وباتت منطقة رعب" في التسعينات عندما قيل انها فقدت لغتها "الماهرة، المنسابة، الفرحة" وعاشت بعيدة من الواقع في منزل كبير في شمال لندن "في بلاط من النساء المتعبدات". تحدت نقادها عندما اختارت روايتها "مكتوب على الجسد" كتاب العام في 1992 واختارت نفسها الكاتب المفضل لها. صنعت هذه الرواية اسمها في اميركا، تقول، ورفعت عدد البلدان التي تنشر اعمالها من ثمانية الى تسعة عشر، لكن بريطانيا حاكمتها على طريقة عيشها لا أدبها. قلبت ونترسون المثلية النظرة الأدبية الى امثالها وجعلتهم عاديين اسوياء ورافضيهم غريبي الأطوار في "البرتقال ليس الفاكهة الوحيدة" بعدما كانوا مرضى ينتهون بالانتحار او الزواج في اعمال اخرى. قاعدتها عريضة من القارئات المثليات لكنها تكره التصنيف وتقول انها كاتبة لها خيارها في الحب وليست مثلية تكتب الروايات. عرضتها والدتها للتبني وهي رضيعة ودربتها والدتها المتدينة على التبشير فكانت تكتب العظات وتلقيها في الشوارع وهي في الثانية عشرة. ابعدها تدينها عن رفاقها في المدرسة فأكسبها النبذ ثقة وحساً بالتفوق "كالمتشددين الذين يرون انهم وحدهم يملكون الحقيقة". عندما احبت فتاة وهي في السادسة عشرة طردتها والدتها فأعالت نفسها بقيادة شاحنة المثلجات والعمل في قاعة للجنازات ومصح عقلي. رفضت في احدى كليات اكسفورد فخيّمت خارجها الى ان قبلت ودرست الأدب الإنكليزي. جعلت والدتها اساساً لشخصية في "البرتقال ليس الفاكهة الوحيدة" ولم تذهب الى جنازتها عندما توفيت: "اعتبرت نجاحي عقداً فاوستياً". غياب المعنى بدأ البارحة معرض "مشاهد طبيعية روسية في عهد تولستوي" في ناشينال غاليري، لندن، ويستمر حتى الثاني من ايلول سبتمبر. ساد الاعتقاد في روسيا ان رسم المشاهد الطبيعية خال من المغزى الذي يفترض ان يحمله الفن. كان على الفن ان يشهد على معاناة روسيا وعظمتها، لكن رسم المشاهد الطبيعية لم يخبر قصة او ينقل رسالة. احتقر التركيز على البعد الجمالي الخالي من الالتزام السياسي، وفي عشرينات وثلاثينات القرن العشرين خشي الكتّاب والفنانون القائلون بهذا البعد على حياتهم. الأدب قدم الحل. شعر الكتّاب والفنانون، وحتى الموسيقيين، انهم مسؤولون معاً عن تجديد روح وطنهم على رغم انقسامهم حول ماهية هذه الروح. رأى ايفان ترغينيف النموذج والخلاص في اوروبا في حين التفت فيودور دوستويفسكي الى الجذور السلافية. كانت الوطنية التي طبعت الأدب والفن الروسيين في النصف الثاني من القرن التاسع عشر حيية، شجية، قلقة جمعت الواقعية والعظمة الروحية في آن. لم تخلُ لوحات الطبيعة من المعنى تماماً. "طريق فلاديميركا" لإيزاك ليفيتان تظهر درباً طويلاً ينتهي عند الأفق ويوحي فراغه السكينة. على ان هذا الطريق ادى الى سجن ساكالين وتوفي عليه الكثير من المساجين في مسيرتهم الطويلة الى سيبيريا. كان ليفيتان، منذ المراهقة، صديق انطون تشيكوف الذي سلك طريق فلاديميركا وقدم مع الفنان افضل مثال على التعاون بين الفن والأدب. وجد كلاهما غياب المعنى والقصة جميلاً، ورأى تشيكوف ان لا احد توصل الى بساطة المفهوم ونقائه كما فعل ليفيتان في اواخر حياته. تعامل كلا الرجلين بأسلوب روحي مع عمله على رغم ان الكاتب كان ملحداً عنيداً. قال ان افضل وصف للبحر اتى من دفتر تلميذ: "كان البحر كبيراً جداً". ليفيتان ايضاً تمسك بالبساطة وأراد اكتشاف اكثر اشياء بلاده بساطة وحميمية وعادية وتأثيراً عاطفياً، تلك التي تشعرنا غالباً بالشجن.