الخراب شاهدا قد يكون أكبر كتّاب أميركا الأحياء، وقد يكون الأكثر صدقاً في الحديث عن أحداث بلاده الأخيرة. فيليب روث رفض الكتابة عن الهجمات، وبول اوستر قال: "وهكذا يبدأ القرن الواحد والعشرون أخيراً". نورمان ميلر، 78 عاماً، لم يجد سبباً يدفعه الى منافسة الحدث في الأهمية، وقال ببساطة ان قضبان الحديد التي بقيت واقفة بعد انهيار البرجين أجمل من البنائين الشاهقين اللذين كانا أشبه "بأسنان ظبي ضخمة". ميلر الذي انتقد السلطات الأميركية رأى انه ينبغي الاحتفاظ بالقضبان ذكرى للذين جلبوا الموت على أنفسهم فقط لأنهم عملوا في نُصب للشركات الكبيرة. راقب تغطية التلفزيون ساعات ورفض الارهاب الذي انتهك رغبة الانسان في التحكم الى حد ما بموته. "أريد أن أشاهد عيني الرجل الذي يطلق علي الرصاص اذا كنت سأقتل. لا أريد أن أقتل بغتة". كانت محرقة اليهود على أيدي النازيين "الرعب النهائي. وهذا الشكل من الارهاب مساوٍ له". لكن ثمة فوائد لما حدث: توقف الحديث عن "حرب النجوم"، وإلحاق الضرر بالعولمة التي يكرهها، وانتعاش الشعور الوطني. "تقع بلادنا في مشكلة عندما يمتنع شبانها عن الموت من أجل فكرة. ما يرفض الاميركيون الاعتراف به ان اجزاء واسعة من العالم، خصوصاً البلدان الأكثر تخلفاً، ترانا ظالمين تعافياً وجمالياً. نأتي اليك ونصر على تأسيس معاقل طعامنا كماكدونالد مثلاً. ونبني ناطحات سحاب حتى نؤلف حلقات من الفنادق الشاهقة حول المطارات في أكثر البلدان قذارة ووضاعة". هذه الشعوب التي تفتقر الى المال والحكم الديموقراطي تملك الجذور لكن الحضارة الاميركية تشكل خطراً عليها وهذا ما سيجعل اميركا "الأمة المكروهة أكثر على الأرض". بعض أبرز كتاب بريطانيا كتبوا لصحافتها عن أحداث نيويورك فطغى الشعور بأهمية النفس والبحث عن تعابير "خالدة" على أنقاض المأساة. مارتن اميس الذي يعيش في اميركا قال ان انهيار البرجين "تمجيد عصر ما بعد الحداثة. في تلك اللحظة تحول شباب اميركا الى عجز". شبّه أميس لمعان الطائرة الثانية ب"وميض المستقبل الآتي" وطالب بقصف أفغانستان بحزم الأغذية. بليك موريسون قال: "هذا آخر اسبوع للعالم كما كان". ووجدت جانيت ونترسون ان سوريالية المناظر التي نقلها التلفزيون تبرر طلبها: "إلمسوني. قبلوني. ذكروني بما أنا. هول الحدث ينعكس فقط بهول ما نحن. هذا الكوكب الأزرق الصغير وطن شيء خاص وثمين، نحن. كلنا بشر. كلنا لا شيء وكل شيء. وأفضل ما نستطيعه هو الغفران". رئيس الوزراء البريطاني الذي شارك في نيويورك في الصلاة للضحايا البريطانيين هناك شاء خياره آمناً واميركياً وأبكى عدداً من الحضور. اختار مقطعاً من رواية "جسر سان لويس ري" التي اصدرها الكاتب الاميركي المنسي ثورنتون وايلدر في 1928: "ولكن قريباً سنموت وسنحب فترة ثم نُنسى. على أن الحب سيكفي. كل نبضات الحب تعود الى الحب الذي صنعها. حتى الذاكرة ليست ضرورية للحب. هناك أرض للأحياء وأرض للأموات، والجسر هو الحب، البقاء الوحيد والمعنى الوحيد". العالم كما كان كتب إيان ماكيوان عن أحداث المدينة التي يحبها ل"الغارديان" البريطانية وكان احساسه بالمأساة في أميركا أكبر من تعبيره عنها. كتب عن "الانفجارات الضخمة، الغيوم الحمراء والسوداء الشرسة". وقال ان "العالم لن يبقى بعد اليوم كما كان". هزّته الأحداث فقضم حبات البن، وهرع بين حين وآخر الى التلفزيون. "شعرت بكآبة. كل هذا الحداد وليست هناك جثث بعد. لكنهم لن يعثروا على جثث، أليس كذلك؟ اشلاء فقط". بعد نيله بوكر في 1998 عن "أمستردام" يرشح الكاتب البريطاني ثانية للجائزة عن روايته الأفضل والأطول "تكفير". لا يزال مسروراً منها ولم يبلغ بعد مرحلة الضجر. أقلقته وخشي ان ينتهي بكتابة عمل سيئ، ولم يستطع كتابة بدايتها الا بعد اربعة عشر شهراً عندما شاهد فتاة تحمل ازهاراً قرب باب منزل يقف شاب في حديقته. كتب عن روبي، ابن الخادمة الذي تخرج في الطب من كيمبريدج برتبة أولى، وغرامه بسيسيليا ابنة اصحاب البيت الأثرياء، وتواطؤ شقيقتها الصغرى برايوني مع جو التحامل الطبقي عندما تتهمه باغتصاب شابة وتقضي على مستقبله. حار في وصف مشاهد الجنس وقرر تجنب الوصف التقني الذي يعتمده الاميركي جون ابدايك، وتناوله بايروسية لم يعرفها سابقاً، كانت رواياته قاتمة متشائمة، وأراد في "تكفير" كتابة قصة حب لكن كيف يمكن ذلك عندما يمارس الناس الجنس اليوم في اللقاء الأول؟ "هناك فائدة للكبت. صدمتني الاروسية الصامتة في روايات جين اوستن، فما لا يقال أو يحقق يخلق دينامية كبيرة". يفرحه القول ان "تكفير" مؤثرة أكثر من وصفها بالبراعة، ويكشف ان المسؤول الأدبي في صحيفة قال انه بكى على وسادته بعد قراءتها مثل تلميذة مدرسة. "اقترحت على الناشر راندوم هاوس اقتباس قوله على الغلاف". كان أول الملتحقين بمادة الكتابة الابداعية في جامعة ايست انغليا، وأتى من بيت لا كتب فيه ليصبح أحد أبرز كتاب جيله. سئم سماع رواية أبيه العسكري عن معركة دنكرك، لكنه أورد وصفاً حياً للانسحاب منها في "تكفير". يكتب ببطء يوجعه، ويجمع الجمالي والعضوي وهو يخطط لما يسميه "هندسة" المشاهد، يهرب من الكتابة الى الطبخ ويفرحه غرز سكين حادة في حبة بندورة. شاء في روايته التطرق الى سلوك الناس بطريقة ما من دون ادراك دوافعهم أو امتلاك ارادتهم الحرة، والى تغلغل تحامل الكبار في أفكار الصغار وخيالهم. يتابع تحول شخصية برايوني على طريقة د. ه. لورنس وفرجينيا وولف، ويجعلها تسعى الى التوبة بالعمل ممرضة ثم كاتبة تروي ما اقترفته وتعيشه ثانية. يعيش مع ولديه من زوجته الأولى مع زوجته الثانية، ولا يحب الابتعاد عن ابنيه ليكتب لذلك يكتفي بخمس وعشرين دقيقة من هنا ومثلها من هناك ليعمل. ربما كان لا يزال خائفاً من خسارتهما بعد أن طالبت والدتهما بهما وخطفت أصغرهما عندما قضت المحكمة باعطاء والدهما وحده حق الوصاية. ولد في 1948 وعاش وسط خراب الحرب العالمية الثانية. عمل والده دراجاً عسكرياً ناقلاً للبريد وأصيب بشظايا في رجليه لكنه وفق بجندي أصيب في يديه فركب الاثنان دراجة نارية ونجيا بحياتهما. يندم اليوم لأنه لم يقدّر صحبة والده ويحاول التعويض بجعل ولديه محور حياته. ينهض في السابعة والنصف صباحاً ليوصلهما الى المدرسة، ويتحدث بسعادة عن عيد ميلاد ابنه الأكبر الذي بلغ الثامنة عشرة قبل أحداث اميركا بنهار واحد. كتب له رسالة تضمنت عبارة لفرويد ونصائح حول عبور "خطوط الظلال". لغة اليأس احتج ابرز الكتّاب المسرحيين البريطانيين، هارولد بنتر، على عزم اميركا وحلفائها ضرب افغانستان والعراق وغيرهما، ورأى ان الانتقام سيؤدي فقط الى وقوع مزيد من الضحايا ويخلق جيلاً جديداً من المقاتلين الانتحاريين. بنتر، 71 عاماً، عرف منذ الثمانينات بنشاطه السياسي الذي فاق ذلك الأدبي، لكن غضبه بدأ في 1973 عندما دعمت الاستخبارات الاميركية الانقلاب في تشيلي ضد سلفادور الليندي. ابن الخياط اليهودي لخص السياسة الاميركية في عهد بيل كلينتون بايجاز نفهمه جيداً: "قبّل مؤخرتي أو رفستك". لا يمكن هزم الارهاب بالقنابل والرصاص، ولن يكون ضحايا هذه سوى الفقراء في أفغانستان والعراق والشيشان والمدن الفلسطينية. "الارهاب لغة الكراهية واليأس" والغرب الذي يزعم انه صاحب موقف اخلاقي يصافح القتلة امثال الجنرال بينوشيه ويبقى مؤمناً انه المرجع والحَكَم. بنتر الذي كتب تسعاً وعشرين مسرحية صوّر بريطانيا بلداً توتاليتارياً، لكن أدبه السياسي قوبل بنفور واحياناً عدائية. مزج انكليزيته بالأفكار الأوروبية وبدا تأثير كافكا في "عيد الميلاد" وسارتر في "المنبت" لكنه بدأ دائماً من يقين ما وسط الاعتقاد ان المسرح الجيد يتمسك بالشكوك. يفصل عذاب المستضعفين على أيدي جلاديهم لكنه يبرز ضعف السلطة أيضاً، وفي "رفيق للطريق" يحتاج المتسلط الى تبرير ضحاياه "حقه" في تعذيبهم. بنتر الغاضب دوماً قال يوماً للممثل في "العودة" انه صمت مقدار نقطتين بدلاً من ثلاث نقط، على أن غضبه يعطي حياته معنى وربما أيضاً وزناً.