شيعت الهند قبل أيام آر كي نارايان، أكبر روائيي الهند في القرن العشرين وأكثرهم شهرة، وهو توفي في مدراس في الهند، بعد فترة مرض كانت أوضاعه الصحية خلالها خبراً يومياً في وسائل الإعلام الهندية. مَن هو نارايان وماذا عن أعماله الروائية والموقع الذي يحتلّه في الحركة الروائية الهندية والعالمية؟ كان آر كي نارايان، المولود في مدراس في العام 1906، من بين أوائل الكتاب الهنود الذين اختاروا الكتابة باللغة الانكليزية، والذين حققوا شهرة تخطت حدود القارة الهندية الى العالم، وهي شهرة بدأ في تكريسها منذ اختار التفرغ للكتابة في أوائل الثلاثينات من القرن الماضي. لكن بداية طريقه نحو الشهرة لم تنبع من اختياره الكتابة باللغة الانكليزية، على أهمية هذا العامل، بل من اختياره مادة كتابته. ففي عقد الثلاثينات كان الوجود الانكليزي في الهند وقضايا الحركة القومية الهندية في سعيها نحو الاستقلال، وما بدأ يلوح في الأفق من احتمالات تقسيم الهند الى دولتين هندوسية ومسلمة، هي المواضيع المسيطرة على الوجدان الهندي. وهي التي شكلت مادة الكتابة بالنسبة الى الغالبية من الكتاب والشعراء والروائيين الهنود. ولكن نارايان لم يشارك في هذه الموجة العاتية من الكتابات التي امتزج فيها الإبداع بالنضال والأدب بالايديولوجيا. وبدلاً من ذلك اختار نارايان طريقاً مختلفاً، تمثل في الكتابة عن الريف الهندي بمشكلاته وهمومه وقضاياه وشخصياته، لأن الريف بتقاليده العريقة الضاربة في القدم كان في اعتقاده مثل الروح الحقيقية للهند. والحال، فقبل أن تكون للروائي الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز مدينة "ماكوندو" الخاصة به، والتي حولها في معظم كتبه ورواياته الى عالم صغير يختصر كولومبيا، كان نارايان خلق لنفسه عالماً خاصاً به هو الآخر أطلق عليه اسم "مالغودي". ومالغودي هي قرية هندية صغيرة خلقها خيال نارايان، بشوارعها ومرافقها ومبانيها الرسمية ومحطة السكة الحديد فيها، وبشوارعها وأزقتها ومنازلها وبيروقراطييها وشخصياتها الكثيرة، التي تضم موظفين صغاراً وشباناً طموحين وآخرين كسالى وآخرين انتهازيين وغيرهم شرسين ومشاغبين وجبناء وعاطلين من العمل ومتسكعين، عدا عن آلاف الشخصيات العادية التي تملأ شوارع القرية الخيالية. هؤلاء هم الذين شكلوا على الدوام أبطال قصص نارايان، والحياة الخيالية لهذه القرية هي التي شكلت مسرح الأحداث فيها. وكتب الروائي والكاتب الهندي الأصل في إس نيبول مستغرباً عن العالم الفسيح الذي رسمه نارايان في رواياته وقصصه انطلاقاً من هذه القرية الصغيرة. إن مالغودي كما قال أحد نقاده هي أهم شخصية ابتكرها نارايان. ومثلما لم يغادر نارايان الهند طوال حياته الحافلة بالابداع إلا مرات قليلة، فإنه لم يكن يغادر مالغودي إلا ليعود اليها مجدداً في رواياته الأربع والثلاثين ومئات القصص القصيرة التي كتبها، بل ان عدداً من رواياته حمل اسم مالغودي مثل "أيام مالغودي" و"آكل لحوم البشر من مالغودي"... أما موقع مالغودي المفترض فهو منطقة ما جنوبي الهند، وهي المنطقة التي عرفها نارايان أكثر من أي مكان آخر، ففي إحدى أكبر مدنها "مدراس" ولد، وفيها مات في الثاني عشر من الشهر الجاري عن 94 عاماً، بعد أن أحرز من التكريم ما لم يحصل عليه روائي هندي آخر، وربما كان أكبر تكريم له هو اختياره في العام 1985 عضواً في مجلس الشيوخ لإنجازه الأدبي الرفيع وإثرائه ثقافة بلاده. نشر نارايان روايته الأولى "سوامي وأصدقاؤه" في لندن في 1935، بعد رفضها من عدد من دور النشر البريطانية، غير انه تمكن في النهاية من نشرها بمساعدة الروائي البريطاني الراحل غريهام غرين، الذي ساند الكاتب الهندي الناشئ آنذاك وساعده في إيجاد ناشر لروايته الأولى التي لم تحقق الكثير من النجاح، ثم ساعده في نشر روايتيه الثانية، "بكالوريوس آداب" والثالثة، "الغرفة السوداء". ولم يقتصر دور غرين الذي ارتبط بعلاقة صداقة وثيقة مع نارايان حتى وفاته في العام 1991، على مساعدته على نشر رواياته تلك فقط، بل انه اختار له اسمه الأدبي الذي ظل يعرف به طوال حياته بدلاً من اسمه الهندي الثقيل على الأذن راسيبورام كرشناسوامي ناراياناسوامي، وكثيراً ما أشار نارايان الى علاقة الصداقة هذه مع الروائي البريطاني الكبير في أحاديثه ولقاءاته الصحافية، بل وفي بعض رواياته. يكاد نقاد نارايان يجمعون على ان أفضل رواياته هي "الدليل السياحي"، والتي تروي قصة تحولات راجو، الشاب الذي يتحول من بائع مواد غذائية متواضع قرب محطة السكة الحديد الى دليل سياحي، بعد أن يغوي زوجة أحد زبائنه، ثم يتفرغ لإدارة عملها كراقصة، فتتحول هي نجمة ويتحول هو رجل أعمال ناجحاً، حتى يلقى القبض عليه ويسجن بتهمة الاحتيال. وعندما يخرج من السجن يبدأ رحلة مضنية بحثاً عن هويته، الى أن يجدها أخيراً في العمل مرشداً روحياً "مهاتما"، في إحدى القرى الصغيرة النائية. وربما كانت رواية "الدليل السياحي" هي الوحيدة التي تتناول التحولات الدرامية الكبرى في حياة أبطالها، والوحيدة التي تمتلك بنية فنية معقدة شيئاً ما، حيث الأزمنة متداخلة والسرد متقطع. إذ تدور أحداث روايات نارايان في معظمها حول أناس بسطاء تضج بهم شوارع مالغودي وساحاتها ومرافقها: أناس فقراء وفضوليون، ذوو طموحات متواضعة، وتوق نحو انتصارات صغيرة يحققون بها ذواتهم، يروون جوانب من تجاربهم وخبراتهم المستلة من الحياة المتواضعة التي يعيشونها، لكن بساطتهم هي تلك البساطة الخاصة التي تخفي وراءها عمق الحياة نفسها، والتي تأخذ أبعادها من خلال حس السخرية الذي يطبع كل أعماله والتنوع المدهش في شخصيات رواياته الكثيرة وهي على تنوعها، تشترك في شيء واحد كما يقول نارايان نفسه، هو الجدية التي يأخذ بها كل من هذه الشخصيات نفسه، وهذا ما يمنحها واقعية ذات لون خاص تذكراً ربما، بواقعية تشيكوف كما لاحظ الروائي غريهام غرين الذي رأى أن أجواء نارايان بما فيها من جمال وحزن، أقرب الى اجواء تشيكوف منها الى أجواء أي كاتب بريطاني آخر. الرجل الثرثار وربما كانت رواية "الرجل الثرثار" هي أفضل مثال على أسلوب نارايان في القص. فالراوي هنا شخص لا نعرف له طوال الرواية اسماً سوى الرجل الثرثار. أما القصة التي يرويها عبر حديث متدفق أشبه بالثرثرة، فعن شخص غريب الأطوار في شكله وملابسه اللافتة للنظر. وقد حرف هذا الشخص اسمه الحقيقي "وانغان" وهو اسم هندي صميم، الى "ران" لكي يبدو أجنبياً، وقدم نفسه الى الرجل الثرثار باعتباره خبيراً في احدى منظمات الأممالمتحدة، قادماً من مدينة تمبكتو التي لم يتوقع الرجل الثرثار "أن يأتي أي رجل منها". وفي البداية لا يمثل "ران" للرجل الثرثار أكثر من شخص غريب الأطوار يصلح لأن يكون موضوع تحقيق صحافي يقوم به هو، الذي يكون في بداية محاولاته لأن يصبح صحافياً من خلال الكتابة لصحف تصدر في مدراس. ويرسل الرجل الثرثار موضوعه عن ذلك "الرجل من تمبكتو"، لكن الصحيفة تطلب منه أن يرسل صورة لرجل تمبكتو هذا. وفي واحدة من المؤامرات الصغيرة التي تحفل بها روايات نارايان ينجح الرجل الثرثار أخيراً بمعاونة المصور غاراياغ، في تصوير ران من دون أن يدري. وينشر الموضوع والصورة في الصحيفة. وهنا تأخذ الرواية منعطفاً آخر، إذ يفاجأ الرجل الثرثار بامرأة تأتيه من مدراس ومعها نسخة الصحيفة التي نشر فيها الموضوع، وتطلب رؤية "رجل تمبكتو" الذي كان الرجل الثرثار قد أخذه بدافع العطف من غرفة محطة القطار وأسكنه معه في منزله حيث يقيم وحيداً. وتبدأ المرأة في سرد حكايات لا تنتهي عن حبها لران على رغم انه اغواها وتزوجها من دون رضى أهلها، قبل أن يغادر منزلها مع امرأة أخرى غرر بها هي الأخرى. وينجح الرجل الثرثار في تخليص ران من زوجته، ولكنه مدفوعاً بالفضول يبدأ في العبث بأغراض ران الشخصية، فيكتشف عدداً كبيراً من الرسائل في حقيبته وقد وصلت كلها من نساء متيمات بران الذي كان قد غرر بهن، يتوسلنه العودة اليهن. ويدرك الراوي ان ران يخفي خلف منظره البسيط وغرابة أطواره شخصية أخرى في نعومة الثعبان، ثم يكتشف انه يحاول سراً، أن يوقع في حبائله احدى فتيات القرية، فيقرر انقاذها منه، وينجح في ذلك بمؤامرة صغيرة اخرى مع زوجة ران، ويقع الأخير رهينة زوجته. وتأخذه الزوجة عندها، وترسل الى الرجل الثرثار رسالة تصف له فيها كم هي سعيدة مع زوجها الجديد القديم. لكن الزوجة لا تلبث أن تزور الرجل الثرثار في نهاية الرواية لتخبره والدموع في عينيها كيف أن ران قد هرب مع ممرضة أغواها، الى روما، ومن هناك يمكنه الوصول الى أي مكان آخر في العالم. هذه الرواية ذات البناء الفني البسيط يمكن أن تكون مثالاً نموذجياً على الطريقة التي يصوغ بها نارايان أعماله الأدبية، فمسرح الرواية هو شوارع مالغودي ومرافقها وحدائقها التي وصفها في معظم أعماله: "كان المتسولون ممددين على العشب مستسلمين لنوم عميق. وكان العاطلون من العمل يكسرون قشور الفول السوداني ويلتهمون المحتويات. كانوا يحتلون جميع المساطب الإسمنتية المتناثرة هنا وهناك". أما حبكة الرواية فبسيطة بساطة الشخصيات التي تبدو في ظاهرها عادية وربما سطحية، لكنها تبدأ في أخذ ملامحها الانسانية الخاصة مع تطور الاحداث، لتتبدى أمامنا في النهاية في كامل أبعادها، كما هو الحال مع شخصية ران. في مثل هذه الأجواء دارت أحداث روايات نارايان وقصصه، وفي شوارع مالغودي هذه تحركت شخصيات لتصنع ملحمة الانسان الهندي العادي، الذي يكافح من أجل حياة أقل فقراً وقسوة وإذلالاً، ليس عبر النضال السياسي ووضع الأهداف الكبيرة لتحقيقها، فالسياسة في معناها المباشر لم تشكل يوماً هاجساً لنارايان الذي قال في مقابلة معه: "ان كل كاتب يعتقد انه صاحب رسالة. أما أنا فلست كذلك على الاطلاق. انني أكتب فقط لأنني مهتم بنوع معين من الناس، الذين تشدني اليهم الجدية التي يأخذ كل منهم نفسه بها".