ارتاح بعضنا للاعتقاد بأن لا علاقة بين بناء إسرائيل للجدار في الضفة الغربية وفك الارتباط من طرف واحد في قطاع غزة من جهة، ودوافع هذه الخطوات من جهة أخرى. وتبنى الكثيرون منا مصطلح"الدوافع الديموغرافية"الاسرائيلية كأنه عبارة محايدة أو سبب طبيعي يدفع اسرائيل الى الفصل. بل أُغري بعضنا لاستخدام نسب الولادة الفلسطينية كتهديد لإسرائيل. وفي الواقع نحن نتحدث عن عنصرية، ولا يوجد معنى آخر للدوافع الديموغرافية. أما تأكيدها والتلويح بها فهو قبول للعنصرية. نحن نتعامل مع فصل عنصري كولونيالي اذ لا يوجد معنى آخر للجدار الاسرائيلي. فقد يعلن بعضنا على الملأ أنه ليس ضد بناء الجدار على طول حدود الرابع من حزيران من العام 1967. وطبعاً غالبية الفلسطينيين ليست ضد فكرة الانسحاب من طرف واحد الى حدود الرابع من حزيران. لكن الفرق بين الجدار الحالي وفك الارتباط المزمع تنفيذه مع قطاع غزة من جهة، وحدود الرابع من حزيران من جهة أخرى ليس فرقاً كمياً بالدرجة وانما هو كل الفرق. لماذا؟ لأنه لا يخلق حدوداً سياسية بين سيادتين بل ان منطقه واملاءاته والنفوس الفاعلة في تنفيذها تؤدي عن قصد وتخطيط عن سبق الإصرار والترصد، وليس بالصدفة، الى سلطة فلسطينية محدودة خلف جدار فصل في الضفة وسياج في غزة، مهمتها إدارة شؤون الفلسطينيين المحتجزين بحيث لا يشكلون خطراً على أمن إسرائيل. في هذه الأثناء لا تصبح إسرائيل أقل عنصرية، أو أهدأ روعاً مع ذاتها. بل يشجعها هذا المنطق والوعود من كل حدب وصوب وطمأنتها بأنها دولة يهودية، يشجعها على أن تصبح أكثر عنصرية. قد يقنع بعضنا ذاته بأن الاعتراف بإسرائيل كدولة يهودية قد يهدئها ولكنه يشجعها على المضي بمنطق الدولة اليهودية حتى نهايته. فما دامت دولة يهودية باعتراف عربي ودولي فإنه لا مكان للعرب في اسرائيل إلا كضيوف فيها. أي ان الفلسطينيين، سكان البلاد الأصليين الفلسطينيون داخل الخط الأخضر هم ضيوف على الدولة اليهودية، أو هم رعاياها في أفضل الحالات. وبدل أن تهدأ اسرائيل وتصبح أكثر ثقة بالنفس تزداد فيها العنصرية، وتصبح الإجراءات العنصرية لحماية طابعها الديموغرافي أكثر شرعية. ومع مضي كل يوم تزداد النزعة العنصرية داخل"الديموقراطية الوحيدة"في المنطقة، إلى درجة سيطرة مزاج وثقافة سياسية معاديين للديموقراطية على الحياة السياسية والاجتماعية الإسرائيلية. ولا شك أن النخب السياسية والإعلامية والثقافية الإسرائيلية تتحمل مسؤولية كبيرة عن هذه العملية التاريخية الخطيرة. فقد باتت العنصرية خطاباً سياسياً رسمياً في إسرائيل. ولا نبالغ إذا قلنا انه بموجب استطلاعات الرأي العام الإسرائيلي فإن المجتمع الاسرائيلي هو أكثر المجتمعات الحديثة عنصرية في الوقت الحاضر. وتظهر الاستطلاعات شراسة وسفوراً في العنصرية لا يجرؤ على التعبير عنها بهذا الشكل أي مجتمع حديث على الإطلاق من دون أن يتحول الموضوع الى فضيحة دولية كبرى تؤثر في علاقاته وفي قبوله في مجتمع الدول المتحضرة. ولا يوجد مجتمع غربي واحد يقبل أو يسلّم بالمزاج السياسي السائد في الشارع الاسرائيلي كحالة طبيعية للثقافة السياسية في دولة ديموقراطية. نشرت في الصحافة الاسرائيلية يوم 21 حزيران يونيو الجاري نتائج استطلاع للرأي العام يؤكد مسيرة اسرائيل الظافرة نحو الابارتايد. أُجري الاستطلاع في شهر أيار مايو الماضي وشمل نحو 1016 مشترك يمثلون كافة شرائح السكان، عرب ويهود ومستوطنون ومتدينون ومهاجرون جدد. وقد أجري في إطار بحث تحت عنوان التطرف السياسي في جامعة حيفا اشرف عليه البروفسور جبرائيل بن دافيد من"مركز بحوث الامن القومي". أهم النتائج: نحو 64 في المئة من الاسرائيليين يعتقدون بأن على اسرائيل أن تشجع هجرة المواطنين العرب الى خارج حدود الدولة، أي يؤيدون"الترانسفير"، طوعياً على الأقل. ويترك البحث للخيال ليفسر ماذا يعني تشجيع الهجرة، وكيف يتم وبأي وسائل تقنع العربي بأن يستنتج هذا الاستنتاج؟ نحو 55 % من اليهود يشعرون بأن عرب الداخل يشكلون خطراً على أمن الدولة. ونحو 49 في المئة يعتقدون بأن عرب الداخل يحصلون من الحكومة على"تعامل ودي أكثر مما ينبغي". والمقصود حكومة شارون التي تميز ضد العرب في كافة مجالات الحياة. ويؤيد 45.3 % من اليهود يؤيدون مصادرة حق التصويت والترشح للانتخابات من المواطنين العرب الداخل. نحو 79 % من اليهود يؤيدون سياسة التصفيات في المناطق الفلسطينية. نحو ربع المشاركين اليهود قالوا انهم كانوا سيفكرون بالتصويت لحزب مثل"كاخ"لو تم السماح له بدخول الانتخابات. و"كاخ"هو حزب الراب مئير كهانا الفاشي الذي دعا صراحة الى طرد العرب من داخل الخط الأخضر ومن الضفة الغربية وقطاع غزة بالقوة وقد تم وضعه خارج القانون ليس بسبب عنصريته وإنما لأنه شكل خطراً على النظام الحزبي اليميني. كما تطرق الاستطلاع الى العمال الاجانب فرأى نحو 72 % وجوب الحد من دخول العمال الاجانب الى البلاد. ويعتقد نحو 54 % بأن تدهور الوضع الاقتصادي في البلاد سببه ان العمال الاجانب يحتلون اماكن العمل. وهذه عنصرية تقليدية تعرفها أوروبا، لكنها تتخذ في اسرائيل بعداً كولونيالياً ضد المواطنين العرب من السكان الأصليين. تقول د. دفنا كنتي- نيسيم باحثة في المركز أن نتائج الاستطلاع تؤكد وجود ارتفاع في منسوب العداء تجاه العرب في البلاد، وان هذا الاستطلاع هو الثالث الذي يجريه المركز حيث اجري بحثان سنة 2001 و2003. وتؤكد المقارنة في كل الأسئلة ان هنالك ارتفاعاً في العداء تجاه العرب وايضاً تجاه العمال الاجانب، وهي تعزي هذه النتائج الى انه في الدولة المتواجدة تحت التهديد المستمر هنالك نزعة عداء وكراهية للاقليات. ونحن بالطبع لا نتفق مع المقارنة بين العدا للعرب والعداء للعامل الاجنبي وهي كسينوفوبيا منتشرة في المجتمعات الحديثة ضد الوافد للمشاركة في سوق العمل والاستهلاك وربما يهدد نمط الحياة القائم. كما لا نتفق مع التفسير الأمني للعداء للعرب. ونرى أن يهودية الدولة هي ليس مجرد صفة أو مفارقة أو وعاء للتوتر او الاسترخاء الأمني، بل أيديولوجية سائدة تمنع فصل الدين عن الدولة وتدفع للتأكيد على الهوية اليهودية، وعلى الانتماء، أي على العضوية في الجماعة كأوراق ثبوتية في الملكية على الدولة. بهذا المعنى لا يوجد أساس حقيقي للمواطنة الفردية القائمة على حقوق وواجبات منفصلة وإنما يسود شعور عام بملكية جماعة على الدولة والعضوية في الجماعة هي أسهم ملكية، وكراهية العربي في حالات معينة هي تأكيد للهوية. الحالة ليست جديدة اطلاقاً. وللتذكير فقط نستعيد ما يأتي من أبحاث أخرى من مراكز أخرى: في استطلاع للرأي اعده مركز"يافي"للابحاث الاستراتيجية "هآرتس"12/ 3/ 2002، يستدل ان 46 % من يهود اسرائيل يؤيدون"الترانسفير"اي الترحيل الجماعي للعرب من المناطق المحتلة عام 67 و 31 % يؤيدون"الترانسفير"للعرب داخل الخط الاخضر. التفاقم واضح للعيان مع أن"الخطر الأمني"قد انخفض منذ ذلك الوقت. كما اعتقد 61 % من اليهود حسب الاستطلاع نفسه، ان المواطنين العرب داخل الخط الاخضر يشكلون خطراً امنياً على دولة اسرائيل. نسبة مقلوبة عن البحث الحالي، اذ قلت نسبة من يرون في عرب الداخل تهديداً أمنياً وارتفعت في الوقت ذاته نسبة من يرغب في طردهم، أين العلاقة بين الأمرين؟. وأيد 60 % من المواطنين اليهود في الدولة العبرية فكرة تشجيع هجرة عرب ال 48 الى خارج دولة اسرائيل. كما تجلت الوحدة الوطنية اليمينية بالموقف الصريح المعادي للديموقراطية ولمفهوم المواطنة لدى 80 % من المستطلعين في آذار 2002 الذين يرفضون إشراك المواطنين العرب في الداخل في أي قرارات مصيرية تهم الدولة، مقابل 75 % في العام 2001، و67 % في العام 2000، و50 % في العام 1999. هآرتس 12 آذار 2002 وتتجلى النزعة اليمينية المعادية للديموقراطية في أمور تبدو صغيرة ولا تلفت الانتباه رغم كونها مؤشراً مهماً على النزعة اليمينية المعادية للديموقراطية. لا يزال الموقف السائد في الرأي العام الإسرائيلي رغم التحول اليميني وازدياد شرعية المواقف العنصرية وأشكال التعبير عنها، لا يزال هذا الموقف ينطلق من ضرورة الإنفصال عن الفلسطينيين باتفاق في دولتين، أو من طرف واحد. وقد أضيفت الى"يهودية الدولة"كقيمة عليا عدم إمكان"التعايش"مع الفلسطينيين الى حد تأييد حتى منح مناطق تشمل قسم من عرب الداخل للدولة الفلسطينية في إطار اتفاق يؤيد هذا التوجه 52 % في استطلاع نشرته هآرتس في 4 تموز 2000. وخلال كل استطلاعات الرأي العام الإسرائيلي التي راجعناها طوال سنة كاملة نجد غالبية تؤيد قيام دولة فلسطينية، وغالبية أكبر ترى أن هذه الدولة ستقوم على أية حال في النهاية. فكرة الفصل هي الفكرة الأقوى التي تحظى بغالبية في المجتمع الإسرائيلي، وتخضع الموقف من الاستيطان لهذا الموقف. ف 65 % يدعمون تفكيك المستوطنات التي يقتضي الفصل تفكيكها هآرتس 6/ 6/ 2002. 52 % أيدوا تفكيك المستوطنات بالقوة إذا تطلب الفصل من طرف واحد ذلك هآرتس 4/ 7/ 2001. و66 % أيدوا تفكيك كل مستوطنات قطاع غزة ضمن اتفاق مع الفلسطينيين، و70 % أيدوا تفكيك المستوطنات المبنية في مناطق عربية مكتظة بالسكان يديعوت أحرونوت 29/ 3/ 2002 كما دعم 60 % تفكيك جزء من المستوطنات. لكن الأهم ان هناك انشقاقاً حقيقياً تجاه امكان إزالة المستوطنات كافة يرافق هذه النزعة ذات الغالبية الواضحة لإخضاع الموقف من المستوطنات لفكرة الفصل. فالموقف الداعي الى ازالة المستوطنات كافة في إطار اتفاق سلام مع الفلسطينيين ليس موقف أقلية ضئيلة بل يكاد يحظى بدعم نصف المجتمع الاسرائيلي. 45 % في استطلاع معاريف 1 آذار 2002. و 47 % في إستطلاع يديعوت 29 آذار 2002. و تأتي الاستطلاعات المكملة لتثبت أن الفصل والاقتناع به ليس اقتناعاً بحل عادل أو غير عادل للقضية الفلسطينية بل قد يؤدي إلى تدهور نزعة الفصل إلى هيمنة الثقافة العنصرية بشكل كامل. ولا يجوز أن يبحث موضوع الفصل كأنه مجرد إنسحاب إسرائيلي بمعزل عن المعطيات أعلاه. وكما تشكل الإغتيالات والجدار مركباً من مركبات إملاء شروط الفصل على الفلسطينيين بما في ذلك فسح المجال بالحديد والنار والإغتيالات لنشوء قيادة تتقيد مع هذه الشروط، كذلك لا يجوز رؤية المشاريع السياسية الإسرائيلية بمعزل عن الثقافة السياسية المساندة لها، وهي ثقافة عنصرية لا شك في ذلك. والمسايرة العربية أو الفلسطينية للمطالب والشروط الإسرائيلية المصاغة بهذا المنطق لا تفيد العرب ولا الفلسطينيين من المتبرعين بها بل تشرعن عنصرية لا شرعية لها في أي دولة متحضرة من الدول التي يريد العرب إثارة إعجابها. هذه العنصرية الإسرائيلية ليست مسألة جانبية ولا هي ظاهرة مرافقة أو عارض من عوارض المواجهة بل هي بنيوية وجوهرية ويجدر بالنضال الوطني أن يلتفت إليها كمسألة مركزية اذا كان طابع النضال ديموقراطياً، بل أن الإلتفات إليها هو ما يجعل طابع النضال الفلسطيني ديموقراطياً ومفهوماً ومصاغاً بلغة كونية، أما الإعتراف بيهودية إسرائيل فهو تأكيد فقط على أن المسألة من زاوية نظر جزء كبير من القيادة التي تقدم لبعضها مثل هذه المشورات قد فقدت منذ فترة طابع التحرر وخطاب التحرر وجوهر التحرر. والمهم عملياً في منطق هذا السلوك السياسي أن التصريحات الفلسطينية والعربية حول يهودية الدولة والإعتراف بالصهيونية زليس فقط بإسارئيل تمنح الشرعية للعنصرية الإسرائيلية ولا تصدقها اسرائيل في الوقت ذاته أي لا تمنح قائليها شرعية في نظر من يفترض ان تعجبهم. وفي النهاية، إذا لم تكن المسألة نضالاً ضد العنصرية والاحتلال فما الجدوى، وعلامَ كانت التضحيات؟ سؤال مشروع. * كاتب عربي.