بعدما تناولت حلقة أول من أمس الماء والجسور بوصفها أقوى من السياسة، هنا الحلقة الثانية والأخيرة. والحال أن الأرمني، ومثله اليوناني، يرى في القومية التركية الخطر المحدق، من دون أن يكون مولعاً بالسلطنة أو الإسلام. فصور أتاتورك الكثيرة، والنصب الحربي في ساحة تقسيم، والمظاهر العسكرية هنا وهناك، والأعلام والرموز القومية السابقة على أتاتورك والتالية عليه، ليست مما يسكّن قلق هؤلاء. وهؤلاء قلقهم ممهور بتواريخ معروفة: فبعد مذابح متفرقة أواخر العهد العثماني رداً على بواكير حركتهم القومية، سجّل العام 1915، والجيش سيّد البلد يومها، حلول المجزرة الشهيرة بالأرمن. وما أن تُذكر أحداث 6-7 أيلول سبتمبر 1955 حتى يضطرب السامع اليوناني: يومذاك، ولم تكن قد بردت مشاعر الحرب اليونانية - التركية في 1922، حُبكت قصة تآمرية من طراز رفيع وقّعتها على شكل مقال السيدة التركية سوزان كورا التي كانت تمتهن الصحافة امتهاناً موسمياً. فقد كتبت المذكورة لصحيفة تركية أن منزل أتاتورك في سالونيكا تعرض لهجوم جارف. وكان للخبر، الذي تبيّن لاحقاً أن رجال الأمن والعصابات القومية المعروفة ب"الذئاب الرمادية" قد فبركوه، أن أضرم النار في غابة تركيا. فبعدما مُيّزت بيوت الأتراك "الأصليين" برفع العلم الوطني عليها، هاجم الرعاع الغاضب منازل اليونان، ومعهم الأرمن، في شارع الاستقلال، من بايولو، كما في مدن تركية أخرى، فأحرق ما أحرق وقتل وانتهك بلا رقيب. يومها كانت الأزمة الاقتصادية مستفحلة تلحّ في توجيه الأنظار الى الأقليات، فصدرت قوانين ضريبية محصورة بالأجانب والأقليات تحاذي قرارات التأميم. وبالنتيجة، انطلقت هجرة عريضة، يونانية ويهودية وأرمنية، من المدينة التي كانت تمتهن استقبال المهاجرين. وإذ بقي الخلاف حول قبرص يؤجج العداء لهم، أصيبت أعداد اليونان في اسطنبول بهزال فاق هزال العدد الأرمني الذي يصعب تقديره بفعل تقيّة ظل يمارسها بعض مُسنّي الأرمن. أما بيوت اليونان المهجورة فأقام في معظمها نازحون من القرى قصّروا المسافة بين الغنى والفقر، وبين المدينية والريفية، داخل الحي الاسطنبولي الواحد. وفي موازاة الهجرة، جعلت تتقلص أعداد الكنائس والمعابد، فهُجر بعضها وأُغلق بعضها وأُعلِن بعضها متاحف، فيما صير الى تجميع المصلّين في أكبرها عدداً وأشدّها مركزية. وكان طبيعياً في تطورات كهذه أن تُضعف موقع بطريرك الروم الذي لا يزال في مكانه القديم في حيّ فينير في اسطنبول. فهو وإن كان، نظرياً، الرجل الأول للكنائس الشرقية غير الروسية في العالم، بدا عندما زرتُ مقره، قبل عامين، مبنى لا يستمد سلطته الا من الزمن البيزنطي. حب الأقليات واليهود الذين ترجع اسطنبولية سفردييهم الى سقوط الأندلس في 1492، ولجوئهم بعده الى أراضي السلطنة، مرّت عليهم تواريخ كثيرة كالحة. فمنذ نشأة اسرائيل في 1948، ثم السياسات الضريبية للخمسينات، فالحروب العربية - اليهودية التالية، وهم يدفعون أكلاف الدولة العبرية معطوفة على الأعباء المنجرّة عن معضلة التحديث التركي. وهناك أكثر من قصة تُروى في هذا السجل المُرّ، إحداها ما يسميه الاسطنبوليون "قصة ال18 بيتاً" في حارة أورتاكوي. ففي ليلة واحدة غادرت 18 عائلة يهودية متجاورة السكن تلك المنطقة ولم يعد أحد من أفرادها. هكذا خلت من أهلها بيوت جنوية النسق، طويلة الأبواب والشبابيك، مرتفعة السقوف، تتقدّمها بلاكين ناتئة الى الخارج مصنوعة من خشب. فالعمارة هذه وقد حملها الى اسطنبول تجار جنوا قبل قرون، آل بعض مبانيها الى بائسي الريف النازحين، ولا يزال البعض الآخر طللاً باحثاً عمن يبكيه. واليهود لئن كنّوا امتناناً ما للعثمانيين، لأن النظام الذمّي أرحم، بما لا يقاس، من مذابح أوروبا، اختلفوا عن الأرمن واليونان في بعض خياراتهم. ذاك أن ظروف المنطقة جعلتهم يخافون الإسلام السياسي أكثر مما يخافون الجيش القومي الذي يحميهم من العامّة، أو يردعه عنهم تحالفه مع اسرائيل. وهم، مع وصول "العدالة والتنمية" الى السلطة، انتابهم أن "إيران أخرى" تقرع أبوابهم، خصوصاً أن البيئة الأصولية لا تزال تنتج وتترجم الأدبيات اللاسامية المعروفة، تحملها نشرات شعبوية، عن "مؤامرات اليهود" و"فتن الدونمة". بيد أن تفجير المعبد اليهودي، العام الماضي، حمل الى الحاخام الأكبر في اسطنبول هدية لم يتوقعها. فقد زاره رجب طيب أردوغان وطمأنه فكان، بذلك، أول رئيس حكومة في تاريخ البلد يقوم بعمل كهذا. وطمأنة الأقليات في اسطنبول، حيث تقيم غالبيتها الكاسحة، تكاد تكون رياضة حكومية شهرية يدرك القائمون بها أي أثر تتركه على دعواهم الأوروبية. وإذ تُذكر، فضلاً عن الوزراء، السيدة غُل بوصفها ناشطة في مجال الطمأنة، تُسمع دعوات على هوامش الحزب الحاكم الى الإفادة من موقع بطريركية الروم، والى ضرورة تمكين البطريرك، لعلّ في ذلك تعزيزاً للمطلب الأوروبي. وهؤلاء قد لا يكونون مولعين بالأقليات، وهم ليسوا كذلك، الا أن ثمة ولعاً بها لا يقتصر على "شفك"، ضارباً في تركيا البورجوازية والحديثة. فصحيفة "توركيش دايلي نيوز" الصادرة بالانكليزية من أنقرة، تعلنه في كل واحدة من صفحاتها. وقد غدت الصحافة التركية عموماً تتعاطف مع الأقليين ومطالبهم، يعبّر عن ذلك ما يشبه الإجماع حول حق الأكراد في التمتع ببضع ساعات من البث التلفزيوني بلغتهم. وشرعت الحياة الفنية والثقافية، كذلك، تقدّم مساهمات الأقليين بشيء من الإبراز والتزكية، ما لم يكن مألوفاً من قبل. وجوٌ كهذا تسنده الرغبة العريضة في استمالة أوروبا، يتيح لصحف اليونان والأرمن واليهود أن تزدهر على نحو غير مسبوق في اسطنبول. فهي إذا كانت كثيرة يعود بعضها الى عقود خلت، فإنها لم تتمتع بالحرية والعلنية اللتين تتمتع بهما الآن. وربما صح الشيء نفسه في ما خص المؤسسات الدينية والرعائية التي لا يزال يتحكّم بها نظام الملل العثماني القديم بامتيازاته كما بالقيود عليه. على أن ما حصل قد حصل. فإذ قدّر احصاء 1965، وكان نزيف الأقليات قد قطع شوطاً بعيداً، ان هناك 207 آلاف مسيحي و44 ألف يهودي يعيشون في تركيا، ذهبت تقديرات تعود الى 1995 الى ان المسيحيين أمسوا أقل من 140 ألفاً، واليهود قرابة 20. وكما في أحوال الأقليات التي ينغلق في وجهها باب السياسة، فُتحت لها أبواب التجارة والعلم والمهن فتمتعت بمستويات معيشة أعلى من المتوسط العام. لكن الثراء والعلم لا يزالان، في مجتمع يراوح بين التقليدي والقومي، يحظيان بموقع منخفض في نظام القيم. فيكاد، على النحو هذا، ينعدم التزاوج المختلط العابر للدين بحضّ مباشر من الحكومات المتعاقبة. وهذا ما لا يخلو من مفارقة: فالحكومات المذكورة لم تجد، رغم علمانيتها المتشددة، غضاضة في استخدام دين الأكثرية القومية، الإسلام، لمنع الاختلاط بمن جعلهم دينهم "أقل" تركيةً. والحق أن مجرد الحفاظ على نظام الملل يشي بميل عميق، يعبر الايديولوجيات، الى كبح الدمج الوطني. فكأنما الجمهورية الأتاتوركية أبقت، في وجهها هذا، ذاك الميراث السلطاني الذي انقلبت عليه في وجوهه الأخرى. وإنما في استمرارية كتلك تم إدماء أقليات تركيا، تماماً كما أدمي ضميرها، فبات يصعب عليها أن تمضي هكذا من غير تنقيب في ذاك الضمير. ف"تصالحنا مع تاريخنا بكل أطواره، ومع ثقافتنا بسائر مكوّناتها، ومع الإسلام بوصفه ديانة تسامح" هو، كما قال لي يوسف كانلي، المدير الإداري لصحيفة "توركيش دايلي نيوز"، شرط شارط لتقدم الأتراك ومعاصرتهم عصرهم. ذاك أن الرواية التركية الشائعة ترقى الى خلاصة من الإنكار والتلفيق يستدعي تصحيحُها من الجهد جهدَ توليفها. فالأتراك، عند القوميين، لم يكونوا عثمانيين، ولا ربطهم رابط بالعرب، فيما ربطهم بالأكراد أنهم "أتراك جبال"هم. بعد ذاك يلتقي الرافدان القومي والاسلامي في نهر الأكاذيب الوطنية، فيُنفى أن يكون الأرمن قد ذُبحوا، وأن تكون أية أذيّة قد مسّت اليونان واليهود. ولأن المهمة صعبة ومعقدة، يُستبعد أن ينوب حي بايولو مناب تركيا، والصحافيون والفنانون مناب الأتراك جميعاً. لكن ما يُستبعد أيضاً أن ينوب أردوغان وغُل مناب جمهرة الاسلاميين العريضة. فتحت جسور الوصل والربط الكوزموبوليتية ثمة دم مُخبّأ ومياه كثيرة تسري فيها الكهرباء. وهذا التوتر، في بلد يتعاظم فقره بالوتائر التي يتزايد فيها سكانه، يكاد يتراءى من طبيعة أشيائه، جاعلاً "التقاء" القارتين أقرب الى فولكلور ألّفه حسن النيّات. الإسم والديموغرافيا فالكوزموبوليتية، قلت ل"شفك"، مثل مركب ضيق، فيما التاريخ هائج والبشر البائسون لا يتسع لهم المركب. والحال أن الأزمة يمكن العثور على علاماتها الضامرة في سلطة الإسم كما في وجهة الديموغرافيا. ذاك أن أتاتورك لم يأخذ من اسطنبول العاصميّة فحسب، بل أعطاها في 1923 الإسم الذي تُعرف به اليوم، والذي هو تصغير للقسطنطينية ذو جِرس تركي. ولئن لم تُستعمل التسمية البديل رسمياً حتى 1930، كان لدى العامة اقتراح آخر. فهي أطلقت إسماً عاش في التداول الشفوي لعقود تالية، وهو "إسلامبول"، أي الإسلام متكاثراً. ولم يكن سراً مدى تمجيد الكثرة الكامن في اختيار كهذا. فحينما التفتَ مؤسس الجمهورية الى كنيسة آيا صوفيا التي جعلها العهدُ العثماني مسجداً، ثبّتها في موقع تسووي فحوّلها متحفاً تطغى عليه التعديلات العثمانية آياتٍ ونقشاً وزخرفة. وبقي الأهم أن آيا صوفيا كانت قد أخلت مكانها ل "الحجيّة صفيّه" إسماً، ولا تزال. وسلطة إطلاق الإسم أول سلطات الأبوّة على الأبناء. فلا يمكن، بالتالي، للأب السلطاني - القومي أن يشارك أحداً فيها، فكيف يشارك فيما قوته لا يني الحجم والبشر يعززانها؟ وبالفعل تضخمت الحاضرة الاسطنبولية مع الزمن تضخماً وسّع قاموس ذاك الأب وراح يمنحه رقعة بعد أخرى. هكذا لم يعد في وسع السياسيين حتى لو كانوا إسلاميين، ولا تلك الرغبة في الأورَبة، لجم النزوع الجارف الى وصف العالم المحيط والسيطرة، تالياً، عليه. فاسطنبول لم تكن تتعدى، في الأصل، ذاك المثلث الذي يشطره البوسفور ويمتد من حول مرمرة ما بين كاديكوي في آسيا وفاتح في أوروبا، من غير أن تتجاوز، شمالاً على البوسفور، أوسكودار الآسيوية، وبيسيكتاس الأوروبية. أما اليوم، فهذه المساحة الصغيرة لا تتجاوز خُمس ما باتته اسطنبول التي فاضت بسكان تعاظموا بأكثر مما فعلت المساحة. فالذين في نواة المدينة وضواحيها كانوا يعدّون مليوناً في الثلاثينات، ثم مليونين في الخمسينات، ليضحوا بموجب إحصاء 1965 قرابة أربعة ملايين. وارتفع العدد، بعد ذاك، إلى أكثر من سبعة ملايين أواسط الثمانينات، فيما الرقم الرسمي اليوم 13 مليوناً، ويتردد أن الأقرب الى الحقيقة 15. والريفيون جاؤوا بكثرة الى المدن وتلاحقوا متسارعين. واسطنبول، وإن لم تكن عاصمة تركيا، تعدّ ضعفي العاصمة التي صنعت الدولةُ وبيروقراطيتها سكاناً لها. فهي، بعد كل حساب، مركز الصناعة والتجارة والثقافة، وهي الميناء الأول وعقدة الطرق الكثيفة بحراً وجواً وبراً، بحيث أن القادم من لندن الى أنقرة، مثلاً، لا بد له من المرور في عاصمة الخلافة إذ لا وجود لخطوط مباشرة تربط عاصمة الجمهورية بعواصم العالم. وهذه النيويورك العثمانية، في مقابل الواشنطن الأناضولية، هي ما يجذب البشر ويعدهم. فقد هاجروا يحلمون بالمرفأ وبالصناعات التقليدية التي كان كثيرها لا يزال حِرَفاً عائلية الملكية، في النسيج والجلود والسجائر والخزف والإسمنت والزجاج والصابون. وفي هذه عملوا، أو على هوامشها تبطّلوا، هم الآتون من مناطق ذات نسب مرتفعة في الولادات، ومن ثقافات تمجّد الإكثار. وكان لدفق سكاني كهذا أن أرخى بوطأته على الخدمات العامة فصدّعها. هكذا راحت المياه والغاز ووسائل الصرف الصحي تتقلّب على أزمة تلو أخرى. ولولا التاكسي الصغير الذي هبّ لإنقاذ المواصلات العامة، قبل أن يظهر خط المترو القصير والوحيد في 2000، لتكفّلت اختناقات السير، وهي من معالمها، شلّها تماماً. لكن التاكسي ما لبث أن تحول هو نفسه، وعلى ما يحصل في مدن كبرى وفقيرة تبالغ في استخدام العلاجات، سبباً إضافياً لمشكلة أريد حلها أصلاً. وحسب أحد التقديرات، يعيش اليوم ثلثا الاسطنبوليين في بيوت مرتجلة من صفيح، او ما يعادله. وقد وجدت نفسها الحاضرة التي أنجبت، في القرن السادس عشر، مهندساً في قامة سنان، تعاني آثار حداثة عرجاء توجزها سرعة التخطيط وعشوائيته. وكان للسرعة هذه، وبعض أسبابها شق الطرق العريضة وبناء الفنادق والمراكز السياحية في أحياء قديمة، أن كمّلت عمل الهجرة. فلم يعد ينقص الا الحرب الكردية و"سياسة" إحراق القرى في الجنوب الشرقي حيث فرّ أهلها، جائعين يائسين، إلى المدن. دورة خلدونية ولم يقوَ غلاء الأسعار في اسطنبول على ردع الهاربين، إن لم يكن من الموت فمن البطالة والعوز. فلئن أقرت الاحصاءات الرسمية في 2003 بنسبة بطالة وطنية تبلغ 5،10 في المئة، أقرّت هي نفسها بأن النسبة في مناطق الجنوب الشرقي 21.6 في المئة. فكان من الطبيعي أن تتجاور النقائض وتتداخل، فيقع المرء في ساحة تقسيم، مثلاً، على مارّة يكادون ينتمون الى أفلاك اجتماعية وطبقية، لشدة التفاوت بين مظاهرهم وملابسهم وطرقهم في المشي والتسلّي. وإذ التصق بعض مدن الصفيح بالمناطق الغنية حيث المكاتب والمؤسسات التي يُظن أن العمل متوافر فيها، انبثّت بيوت متهالكة ينشر ساكنوها الغسيل على سطوحها وبلاكينها، بين القصور والفيلات. وفيما راح الأقليون يغادرون راح الأكثريون يتعاظمون حضوراً. وقد تعاظموا حتى جعلت اسطنبول والمدن الأخرى تضيق بالوافدين الجدد، فشقّت الهجرة التركية طريقها الى الخارج الأوروبي، لا سيما الألماني. فالمركب الكوزموبوليتي، إذاً، هدده التخلّع والغرق. وبدورها، ما لبثت الأعداد الكثيرة أن وجدت صوتها السياسي في القوة التي اكتسبتها الحركة الإسلامية، كما وجدت صوتها الإعلامي في القنوات التلفزيونية، الإسلامية هي الأخرى، مما أطلقته الطفرة الأوزالية للثمانينات. هكذا عثر الحجاب، في البشر كما في تعابير قوتهم، على ما يظهّره ويُعليه، فبدت الوقائع أقوى من القرارات والمراسيم. ففي العقود الخوالي، مثلاً، لم يكن مهماً تحجّب النساء أو عدمه، في مدينة طويلاً ما درجت على السفور. وحتى لو حافظت الأتاتوركية دائماً على محاصرة الحجاب، لم يستدعِ الأمر التشدد في فرض الحصار لأن الظاهرة مكثت محدودة الرقعة، حيية، كما انحشرت في أزقّتها. واليوم، اختلف الأمر. فحتى لو تسامحت القوانين مع الحجاب، غدت كثرته تنمّ عن مأزق الكوزموبوليتية، أو عن كونها ضيفاً على أهل آخرين. ولئن امتثلت الصبايا الأصوليات المتفرعات عن غنى، أو المحجبات من موظفات وناشطات في ظاهر المدينة، لمعايير السلوك المقبولة، فهذا إنما يحصل وسط شعور بأن المدينة كلها ممتثلة لإرادة جبارة تستطيع، في أية لحظة، أن تبادر. و"العدالة والتنمية"، هنا، يقف في وسط صعب. فهو يوحي بانفصال عن الجسم الأصلي الذي صدر عنه. وعلامات الانفصال هذا، تدل الى اشتغال تركي للدورة الخلدونية: فأردوغان ورفاقه، وهم فعلاً الجيل الثالث في حركتهم الإسلامية، يباشرون التصالح مع المدينة والغرف من طيّباتها، مديرين ظهرهم ل"البداوة" التي حاصروا بها المدينة أصلاً. إلا أنهم لا يستطيعون إنجاز هذا الفكاك تماماً، أو أن عليهم، أقلّه، المضي في تقديم رشاوى رمزية لجمهورهم اللجب، منها التشدد حيال اسرائيل، أو معركة خريجي المدارس القرآنية التي خاضوها بنصف يقين وربع حماسة. وفي ظل العجز عن تضييق الهوّة الاقتصادية المتّسعة، يبقى الإنجاز الفعلي، على الجبهة هذه، النجاح في تجنّب حرب العراق. فكان من حسن حظّ أردوغان أن شكّل الموضوع المذكور مادة لقاء بين الجميع، عسكريين ومدنيين، علمانيين ومؤمنين، أتراكاً غير أكراد وأكراداً أتراكاً. وفي عباءة هذا الإجماع، تسلل "العدالة والتنمية" لإرضاء جمهوره المؤمن، مثلما تجنب صداماً مع الأكراد كان كفيلاً بتجديد حرب منتهية. إنه الإقتصاد... وأن يستمر الحكم في طمأنة المحيط الإسلامي والجزيرة الكوزموبوليتية في وقت واحد، تلزمه مكاسب اقتصادية واضحة. ذاك أن "الضيوف" لا يطمئنون ل"مُضيف" يتعاوره الفقر والجوع وكثرة الأبناء وما يترتب عليها من استعداد للتعصب والتطرف. فقرض صندوق النقد الدولي البالغ 19 بليون دولار، مصحوباً بنهج "الإجماع الواشنطوني"، أدى فعلاً الى تقدم في الكل ومشكلات في الأجزاء. ذاك أن تركيا حسّنت تصديرها نوعياً، كما تمكنت من إدارة دَينها الكبير البالغ 200 بليون دولار مستفيدة من انخفاض أسعار الفائدة عالمياً. بيد أن تغيراً في هذا المعطى، أو تصاعداً غير ملجوم في أسعار النفط، يهددان التعافي الجزئي بالانتكاس مفجّرين المشاكل التي لا تزال ضامرةً، أي الفقر والبطالة. وإذا ما حدث الأسوأ، باتت الاسلامية العاقلة لأردوغان أدنى كثيراً من المطلوب في منطقة مهتاجة، يعبّئها الصراع العربي - الاسرائيلي وتُشعلها كراهية أميركا وتحدّق بها ظاهرة الإرهاب الإسلامي. فإذا صح أن الطبقات الوسطى الحديثة أبدت، في التسعينات، من الممانعات ما أزعج حكومة أربكان، فرفضَ أهل اسطنبول، مثلاً، تغيير ساحة تقسيم وزيادة ملامحها الاسلامية، صح أن تلك الطبقات كانت تحامي يومها عن خط دفاعها الأخير، بينما الأزمة الاقتصادية تقلّص حجمها وتصيب نفوذها بالكسوف. وهي، الآن، رغم قوتها في بايولو كما في بضعة أحياء ومكاتب وشركات وصحف، ضعيفة جداً في تركيا. وبالمعنى هذا توحي اسطنبول التي لا تنام، حيث تتنافس المعارض والمؤتمرات والاحتفالات والمحاضرات والمناسبات على أنواعها، أنها بالسهر تتجنب نوماً مؤرّقاً. فإذ تنهال عليها وفود رجال الأعمال والصحافيين والمثقفين وسياسيي حلف الناتو وعسكرييه، تتعاظم اجراءات الحراسة ووجود البوليس العسكري على الطرقات كما في الفنادق والمباني العامة. وقد يتفاءل البعض بهجرة مضادة منها الى القرى الكردية، بسبب نهاية الحرب وبناء "سد غاب"، أو مشروع الأناضول الجنوبي، الذي بدىء العمل به في عهد حكومة تورغوت أوزال. إلا أن آخرين، هنا أيضاً، يشككون: فالمشروع الأخير لم ينته بعد، فيما الصناعات المختلطة في المنطقة المذكورة، والهادفة لإنعاشها واجتذاب الأيدي العاملة اليها، لا تزال أضعف كثيراً من أن تجتذب الأيدي تلك. وفوق هذا، للمدينة سحر لا يقاوم، فكيف اذا كانت هذه المدينةاسطنبول، من يأتيها لا يعود يغادرها حتى لو كانت فرصة "العمل" الوحيدة التي تقدمها الإنضمامَ الى "مافيات كردية" تنشط، مع بضعة مافيات تركية، في شوارعها ليلاً. وهذه، بدورها، كوزموبوليتية من نوع آخر يربطها البعض بتعدد شعبي وشعبوي في المدن الكبرى، ويربطها بعض آخر بزمن العولمة. وكائنة ما كانت الحال، تبدو الكوزموبوليتية القديمة نفسها أقرب الى وهم داخل بلد واحد يتخاطفه الفقر والعدد. وربما، للسبب هذا، غالباً ما يكون الاحتفال بتلك المدن شبيهاً بمطالعة في الحنين الى ماضٍ لا يعود، كما يلوح تكريمها أقرب الى مناسبة حزينة تستدعي الاكتئاب وتنشره. على هذه الإشارة، وكنت أنتقل الى "مطار أتاتورك" للعودة الى لندن، فيما المغيب الاسطنبولي ثقيل وبطيء، ودّعت "شفك" ومدينتها.