اعتقال عبدالله أوجلان يعيد فتح ملف القضية الكردية بقوة وبجوانبها المختلفة ليس في تركيا وحدها، بل في المنطقة برمتها. ولعل أحد الجوانب والجذور الأساسية التي تستحق إعادة النظر هنا هي سنوات التكون الأولي لهذه المشكلة وارتباط نشوئها بتصادم مسارات القوميات الطالعة من رحم انهيار الدولة العثمانية. والواقع أن الأقدار تبدو وكأنما أحكمت قبضتها على أكراد تركيا فحبستهم بين معضلتين واحدة ناشئة عن تطرف القومية التركية عشية تطورها في السنوات الأخيرة للدولة العثمانية، وثانية ناشئة عن "صدام المعاهدات" المتتالية إبان تلك السنوات المتسارعة في ايقاع الحدث السياسي، ومدى قانونية وإلزامية تلك المعاهدات. وعلى العموم فإن تينك المعضلتين اللتين أسستا لحدود دول ما بعد العثمانيين قد جعلت من ملايين الأكراد البالغ عددهم حالياً ثلاثين مليوناً، أقليات متشتتة على دول تركيا وإيران والعراق وسورية وارمينيا، وحرمتهم من الاندراج في السياق العام الذي انتظم المنطقة وصيّرها على شكل دول قومية، وفي تركيا تحديداً حيث يوجد أكثر من نصف الأكراد، كان للاسم الذي حملته الدولة الناشئة الجديدة، تركيا، دوراً حاسماً في تحديد قومية وهوية البلد الجديد، حيث وجه البوصلة إلى فئة الأتراك عازلاً مجموعات إثنية أخرى، أهمها بطبيعة الحال الأكراد. وثمة من يقول بأن الاسم الذي تم تبنيه آنذاك لو كان "الاناضول" لربما أدى ذلك إلى تبدل الحال الاثنية برمتها، وتساوى الأكراد والأتراك في مواطنة اناضولية مشتركة منذ أمد بعيد. صحيح ان التشكيل الاثني الداخلي سيكون منقسماً بشكل عمودي بين قومية غالبة وقومية اقلوية، لكن هذا الانقسام كان سيكون داخل هيكل الدولة وليس خارجها كما هو الحال الآن. كما أنه لن يكون حالة فريدة في العالم الذي يعج بالدول التي تتشكل من فئتين اثنيتين أو أكثر. وبالعودة إلى المعضلتين المركزيتين المذكورتين أعلاه، تأتي المعضلة القومية لتختصرها مقولتان واحدة لأتاتورك، كان قد اشتهر بها خلال فترة حكمه ثم نقشت في ما بعد على مداخل العديد من المدن التركية، ولا زالت ترى إلى الآن، وتقول "إنه لسعيد ذاك الذي يقول بأنه تركي". والمقولة الثانية جاءت بعد الأولى بأكثر من ستين عاماً وعلى لسان تانسو تشيلر عندما كانت رئيسة للوزراء، حين كررت المقولة نفسها سنة 1995 مع تعديل بدا طفيفاً لكنه جوهري ومس عمق مقولة أتاتورك الأصلية، حين قالت: "إنه لسعيد ذاك الذي يقول بأنه مواطن في تركيا". وإذ تنطوي مقولة تشيلر وبوضوح على تأثيرات الهم الكردي، إلا أن المساحة الفاصلة بين أن يكون المرء تركياً أو أن يكون مواطناً في تركيا كانت هي مساحة ضياع الهوية والمواطنية الكردية. وبسببها دفعوا أثماناً باهظة لعقود من الزمن، إذ لا هم اعتبروا من الاتراك الاقحاح فيتّبعون مقولة أتاتورك ويرتاحون، ولا هم يشعرون بالمواطنة الكاملة فيستجيبون لنداءات تشيلر ويلقوا جانباً تواريخ المرارة والشكوى. أما المعضلة الثانية، والتي يمكن ان تسمى ب "صدام المعاهدات"، فهي تلخص تدخلات القوى الكبرى يوم هجمت على تركة الرجل المريض فقسمتها، وسطرّت الحدود الجديدة، المعلن منها والسري، ودبجت المعاهدات والاتفاقيات المتناقضة التي لم تضع أساساً قانونياً واضحاً سوى لمشكلات متأزمة مستقبلها طويل ومظلم. فإبان لقاءات تقاسم أراضي الامبراطورية العثمانية خلال الحرب العالمية الأولى. كانت الأراضي التركية التي يقيم فيها الأكراد قد خصصت لفرنسا، بحسب اتفاقيات سرية بين البلدين، لكن تقدم الجيوش البريطانية إلى وراء خطوط الهدنة في تلك الحرب جعلها تسيطر على تلك الأراضي، ونصّبت أحد جنرالاتها، الميجر ويليام نويل، والملقب بلورانس كردستان، لإدارة شؤون المنطقة وتخطيط مستقبلها الاستراتيجي. بعيد ذلك، وفي سنة 1920 وقّع الحلفاء مع الحكومة العثمانية معاهدة سيفرس التي نصت رسمياً على اتفاقيات تقسيم الامبراطورية، وتضمنت أيضاً إعطاء حكم ذاتي للأكراد يتطور لاحقاً إلى درجة الاستقلال، وكانت حدود المنطقة الجغرافية التي خصصت لهم تقع بين شرق نهر الفرات إلى الحدود الجنوبية لأرمينيا إلى شمال الحدود التركية - السورية. وبعد هذه المعاهدة بثلاث سنوات، أي سنة 1923، جاءت معاهدة لوزان التي نصّت على اعطاء الحكم الذاتي الموسّع للأقليات غير المسلمة في الدولة العثمانية، ولم تتحدث عن الأقليات والشعوب المسلمة المتعددة باعتبارها تدخل في نظام "الملة" العثماني وتشكل جزءاً من أمة الإسلام. وبحسب معاهدة لوزان، فإن اقليات مثل اليونان واليهود والأرمن وغيرهم اعطوا الحق القانوني للمطالبة بالحكم الذاتي وأيضاً بالاستقلال. وبهذا تمزق الأكراد بين نصي المعاهدتين منذ ذلك التاريخ وإلى الآن. فهم في الوقت الذي يذكرون فيه معاهدة سيفرس، فإن الحكومات التركية المتعاقبة تتمترس بنص معاهدة لوزان. والانحياز إلى معاهدة لوزان، خدم على الدوام الهدف العزيز على النظام التركي وهو اسقاط وصف "الأمة" أو "الشعب" عن الأكراد، بل والأبعد من ذلك والأقسى منه، هو مغالاة الحكومات التركية ازاء عدم الاعتراف بالأكراد حتى كمجموعة إثنية، أي أقل من قومية أو شعب، أو، وهو الأهم، كأقلية إثنية. والاعتراف بالتوصيف الأخير، أقلية اثنية، يترتب عليه، بحسب القانون الدولي وإعلان حقوق الإنسان الخاص بالاتحاد الأوروبي، تقديم حزمة من الحقوق من قبل الدول للأقليات التي تعترف بوجودها في أراضيها، كحق استخدام اللغة المحلية في وسائل الإعلام المرئي والمسموع، وحق تدريس اللغة في المدارس وغير ذلك، مما يحرم منه الأكراد في تركيا والتنظير التركي في نقض اطروحة الاثنية الكردية، من زاوية القانون الدولي، كان قد اعتمد تعريفات عامة في شأن تحديد شروط انتقال جماعة من السكان من طور المجموعة الاثنية إلى طور الأمة القومية، مثل اظهار نظام واضح لتقسيم العمل والوحدة الاقتصادية، ووجود أنظمة قانونية تعمل داخل تلك المجموعة وتحدد الواجبات والحقوق، ووجود أرض واضحة تكون قاعدة لتلك الجماعة، ويتلازم مع هذه الشروط ضرورة أن تتحصل هذه المجموعة على اعتراف "الآخرين" بها كأمة وليس فقط اعتبارها لذاتها وتعريفها لنفسها بتلك الصفة. وهنا، وبحسب النظرة التركية، فإن "الآخرين" ليس مقصوداً بهم الدول التي لا علاقة لها بالموضوع ولا الاكاديميين أو الاعلاميين، بل المقصود هنا تحديداً الدول المعنية ذات العلاقة المباشرة والتي تقع المشكلة على أراضيها - وهي هنا تركيا. بمعنى آخر يجب أن تعترف تركيا "بوجود الأمة الكردية" حتى تكون هذه الأمة موجودة حقاً، وان لم تعترف بذلك، فإن أي تعريف يحوم حول تلك الصفة ليس له قيمة مهما كان مصدره. وفضلاً عن ذلك هناك اتهام تركي للأكراد بأنهم فشلوا في الاندماج في المجتمع التركي بشكل تام رغم مرور عقود طويلة من السنين بعد الاستقلال بسبب رسوخ الانماط القبلية عندهم وبعدهم الجغرافي عن المراكز المدنية، فضلاً عن تخلفهم الاقتصادي. والواقع ان تطرف القومية التركية نفسها هو الذي ساهم بشكل أكبر في عزل الأكراد. والذي لا يمكن تجاهله عند النظر في المآل الذي آلت إليه المأساة الكردية هو دور الدول الكبرى في تأسيس، بل ورعاية، الوضع الشاذ الراهن الذي يخرج عن منطق الأشياء وطبيعتها. فأوروبا، خصوصاً بريطانيا وفرنسا، التي خلقت المشكلة الكردية عبر التقسيم الحدودي الذي راعى مصالحهما الأنانية من دون الالتفات بعمق لطموحات السكان المحليين، تابعت قلب ظهر المجن للأكراد طيلة عقود القرن العشرين، ووصمت، مع واشنطن، مطالباتهم العادلة بحق تقرير المصير بالارهاب، بل وتعاملت معهم بفجاجة بالغة عندما لم تلق بالاً لمطالباتهم الحقوقية والإنسانية، باعتبارهم مواطنين في دولة عضو في حلف الناتو على الأقل، وغضت النظر عن ممارسات الظلم والاضطهاد الاثني التي تعرضوا وما زالوا يتعرضون لها. وحلقة اعتقال أوجلان وعدم منحه حق اللجوء السياسي في أوروبا، بل والتعاون الاستخباري اللئيم ضده رغم دعواته المتكررة في السنوات الأخيرة لحل سلمي للقضية الكردية، هي فضيحة انسانية وسياسية دولية، وتبجح كبير في ممارسة النفاق الدولي والإنساني في زمن يراد فيه لمعايير حقوق الإنسان ان تتعولم، وللسياسة ومصالح الدول القومية الانانية ان تتواضع بعض الشيء أمام دعوات أخلاقية ومعيارية توافقية. * كاتب فلسطيني.