Oriana Falacci. La Forza della Ragione. قوة العقل. Rizzoli, Rome. 2004. 288 pages. العنوان المقترح لهذه القراءة مفتاح أساسي لفهم كتاب "قوة العقل" للكاتبة الإيطالية أوريانا فالاتشي. فالاستشراق على الطريقة الإيطالية لا نعني به الاستشراق الإيطالي الأصيل الذي أنجب دارسين مرموقين مثل كارلو ألفونسو نالينو وليوني كايتاني وألساندرو باوزاني، وإنما ذلك الاستشراق الذي تبدعه قريحة رجل الشارع فيصير أقرب إلى الكوميديا على الطريقة الإيطالية. وهي مدرسة سينمائية عريقة نالت نجاحا باهرا في الخمسينات والستينات والسبعينات في إيطاليا، إذ استطاعت أن تتناول مواضيع مهمة من الحياة اليومية الإيطالية في قالب مضحك ومبك في آن. وكتاب أوريانا فالاتشي الجديد يضحك ويبكي معاً، على الأقل عند القارئ المسلم. فالضحك ناتج عن مقاربة الإسلام بطريقة تعميمية وتبسيطية، أما البكاء فمرده إلى تهافت القراء الإيطاليين على اقتناء الكتاب. فقد بيع منه ما يقارب مليون نسخة في أقل من شهرين. فهو، إذاً، يباع كالخبز تماما لأنه موجود في كل مكان، إذ باستطاعة المرء أن يشتريه من المكتبات أو عند بائع الصحف أو يطلع عليه، كما فعلت، في المكتبات العمومية إذا قرر ألا يساهم في جعل الكتاب في هرم الكتب الأكثر مبيعاً في إيطاليا. وقد تمّ تسويق الكتاب وفق استراتيجية تجارية إشهارية في غاية الإتقان، مستثمرة ببراعة مشاعر الرعب التي تستبدّ بالمواطن الإيطالي في ضوء التحذيرات الأمنية والإعلامية من وقوع انفجارات "إرهابية إسلامية" على شاكلة تفجيرات مدريد في 11 آذار مارس الأخيرة. ولم تدخل فالاتشي إلى بيوت الإيطاليين من الأبواب فقط وإنما من التلفزيون كذلك، نظراً للبرامج الكثيرة التي تناولت كتابها بالتحليل والمناقشة، بحضور صحافيين ومؤرخين وفلاسفة و"خبراء إرهاب إسلامي"، وكل ذلك على مرأى ملايين من المشاهدين. وهكذا باتت فالاتشي البالغة من العمر 75 عاما، توجّه الرأي العام الإيطالي في الشأن الإسلامي بوصفها الخبيرة الأولى فيه، رغم أنها مجرد صحافية معروفة نالت بعض الشهرة كمراسلة حرب خلال الحرب الأميركية في فيتنام وأثناء الحرب الأهلية اللبنانية حيث نشرت، في 1990، شهادتها في كتاب عنوانه "إن شاء الله". وجاء "قوة العقل" على شاكلة كتابها السابق "الغضب والكبرياء" الذي حقّق مبيعات فاقت إيرادات "إسم الوردة" 1980 للكاتب الإيطالي المعروف أومبرتو إيكو، وقد نشرته عقب أحداث 11 أيلول سبتمبر 2001، وصبّت جام غضبها على المسلمين واصفة إياهم بأبشع النعوت. ورغم وقوفها أمام المحاكم، في فرنسا وسويسرا، لتبرئة نفسها من تهمة العنصرية والتحريض على الحقد والكراهية، فالكاتبة الإيطالية التي تعيش في نيويورك منذ سنوات طويلة، لا تزال مصرّة على تغذية خوف الإيطاليين والأوروبيين من المسلمين وبث مشاعر الكراهية ضد كل ما له علاقة بالإسلام. وتجتر في كتابها الجديد أطروحة بسيطة مفادها أن أوروبا مهددة بالأسلمة أو التعريب فالعربي والمسلم مترادفان في قاموسها مما سيحوّلها في غضون سنوات قليلة إلى ولاية إسلامية. لذلك استحدثت مصطلحا جديدا هو أوروبا العربية Euroarabia، وتلقي فلاتشي مسؤولية هذا الاستسلام والخضوع على السياسيين الإيطاليين، سواء من اليمين أو من اليسار، المؤيدين لاندماج المهاجرين المسلمين، وعى الكنيسة الكاثوليكية التي تبحث عن التواصل مع الإسلام بدلا من الحد من انتشاره وتغلغله في أوصال المجتمع الإيطالي والأوروبي. وهي تحاول تشخيص وضعية أوروبا الحالية المهددة بالغزو الإسلامي وما آلت إليه من انحطاط وضعف، على حد تعبيرها، فتطرح منذ الصفحات الأولى السؤال التالي: "لماذا وصلنا إلى هذه الوضعية؟". وعوض أن تقدم البراهين والحجج والأدلة لإقناع القراء، تنهل فالاتشي من الأفكار الجاهزة التي لا تخضع للنقد والتحليل ويتم تداولها دون تمحيص ومراجعة. فهي تخاطب عواطف الناس وليس عقولهم. والمدهش أنها لا تقوم بذلك من أجل التهكم والمزاح والتسلية كما فعل الروائي الفرنسي الكبير غوستاف فلوبير حينما ألّف كتابا ممتعا عنوانه "قاموس الأفكار الجاهزة" وجمع فيه الكثير من الأفكار المسبقة التي كانت منتشرة في عصره. فهي تنسج أفكارها عن الإسلام بجدية تامة، كقولها إن الذبح على الطريقة الإسلامية وسيلة لتعذيب الحيوانات وإطالة مدة احتضارها، وتستشهد بالممثلة الفرنسية بريجيت باردو وتغدق عليها المديح، إضافة إلى تحاملها الشديد على عادة المسلمين في الدفن بسبب امتناعهم عن استعمال التوابيت، فهي ترى أن ذلك لا يراعي شروط النظافة والصحة. وتفرد فالاتشي صفحات كاملة لظاهرة ختان الفتيات لتؤكد على همجية المسلمين، إذ تشرح لقرائها قائلة: "أنت تعرفين وأنت تعرف معنى ختان الفتيات، أليس كذلك؟ إنها عملية بتر يفرضها المسلمون على الصبايا لحرمانهن من الجنس عندما يكبرن أو قبل ذلك، فهن يتزوجن في التاسعة، فالمسلمون يمارسون هذه العادة في 28 بلداً من افريقيا الإسلامية، وهي تؤدي إلى وفاة مليونين من الصبايا". ماذا يمكننا أن نقول؟ هل من فائدة ترجى من مناقشة هذا الطرح الساذج؟ مع ذلك، ينبغي الردّ بشيء من الصبر بأن ختان الفتيات في افريقيا عادة ذكورية متجذّرة في الأعراف المحلية لم يستطع مختلف الأديان بما فيها المسيحية والإسلام القضاء عليها. وترى أن المسلمين أو "أبناء الله" كما يحلو لها التجريح ابتدعوا سلاحا أخطر من القنبلة النووية اسمه النسل. فتزايد عدد المهاجرين منهم في أوروبا، وانخفاض نسبة الولادات في الكثير من البلدان الأوروبية، خصوصا إيطاليا، عاملان مساعدان لبروز "أوروبا العربية". وهي تتخذ من مدينة مرسيليا الفرنسية نموذجا للحديث عن نجاح المسلمين في طمس معالم الحضارة المسيحية في مدن أوروبا تبعاً لانتشار المساجد وامتلاء الشوارع بالمحجبات. وبدل البحث عن أسباب امتناع الإيطاليات عن الإنجاب والمتمثلة في انعدام ضمان اجتماعي يكفل للمرأة بعض الحقوق أثناء الحمل ومرحلة الرضاعة ونقص حاد في حضانات الأطفال، تشنّ حملة شعواء ضد المسلمين رجالا ونساء وتصفهم بالفئران لكثرة تناسلهم. ولا تفتبس فالاتشي من رجل الشارع الأفكار الجاهزة فحسب، وإنما تستخدم أيضا بعض الكلمات والاستعارات المبتذلة المتداولة في الأسواق. ونذكر، مثلاً، شتمها رئيس المفوضية الأوروبية ورئيس الحكومة الإيطالية الأسبق رومانو برودي بنعته ب"مورتادلاّ" أي لحم الخنزير المقدد، كما انهالت بالشتائم على زيغريد هونكه مؤلفة كتاب "شمس الإسلام تسطع على الغرب"، متهمة إياها بالدعارة والنازية. وتسهب فالاتشي في التبسيط والتعميم إلى حد الملل، فعندما تتحدّث عن دمقرطة العالم العربي، تشبّه الديموقراطية بالشوكولا وترى أن الألمان واليابانيين، عكس العرب أو المسلمين، كانت لديهم شهية لتذوّق الشوكولا الأميركية عقب الحرب العالمية الثانية. لهذا السبب نجحت الديموقراطية في هذين البلدين. ثم تخلص إلى استنتاج غريب إذ تقول "إن 95 في المئة من المسلمين يرفضون الحرية والديموقراطية، ليس فقط لجهلهم بهذين الموضوعين وإنما لعدم قدرتهم على استيعابهما حتى لو قدمت لهم شروحا وافية". لا شك أن الكاتبة نفضت الغبار عن أطروحة عفا عليها الزمن سادت في القرون الوسطى وغذّت مشاعر الخوف والكراهية والحقد، والتي كانت أرضية خصبة لشن الحروب الصليبية. غير أن ما يدعو إلى التفكير ليس ضحالة الأطروحة الواردة في الكتاب وإنما الطريقة المتّبعة في الإقناع، القائمة على الانفعالات ومخزون الذاكرة الشعبية والأفكار المسبقة حول الإسلام والمسلمين. فالكتاب لا يمت بصلة إلى العقل، كما يوحي بذلك العنوان، ورغم كل الجوانب السلبية، يستقطباهتمام المواطنين الإيطاليين بقطع النظر عن مستوياتهم الثقافية، من ربات البيوت إلى أساتذة الجامعات. وقد صارت فالاتشي، بقدرة قادر، حجة الإسلام في الديار الإيطالية! يطرح الكتاب بإلحاح جملة من أسئلة مشروعة: أين تتوقف حرية التعبير وأين تبدأ جنحة القذف؟ وهل شتم المسلمين حق مكفول ونقد غيرهم تحت طائلة الممنوعات كمعاداة السامية ومعاداة أميركا وما شابههما؟ ثم كيف يتصرف المسلم أمام هذه النوعية من الكتب: يدعو إلى منعها بقوة القانون أم يردّ عليها بالتي هي أحسن؟ ولا شك أن الكتاب هذا ألحق ضررا كبيرا بالمهاجرين المسلمين المقيمين في إيطاليا، وسيشمل الضرر بقية البلدان الأوروبية بعد ترجمته إلى لغات أخرى. فلا نبالغ إذا تحدثنا عن اغتيال الشخصية الإسلامية باستعمال أحدث التقنيات في فن التسويق دون الاهتمام بأدنى القيم الإنسانية المتعارف عليها.