هناك قضايا عاجلة وملحة ترتبط بتطورات الموقف في العراق بعد وقف القتال، وهي تتصل بالمرحلة الانتقالية، أي المرحلة الفاصلة بين وقف القتال وحتى تولي حكومة عراقية الحكم في العراق يرتضيها الشعب العراقي، ومعنى ذلك أن هذه القضايا تثور خلال الوجود العسكري الاميركي في العراق. ومعلوم في القانون الدولي ان الاحتلال الكلي لاقليم الدولة لا يعني زوال الشخصية القانونية للدولة، ولكنه يعني ان هذه الشخصية تختفي وراء واقع اشد إلحاحاً، ولذلك لا يجوز للولايات المتحدة ان تحل محل الدولة العراقية في العلاقات الدولية، ولا ان تقوم البعثات الديبلوماسية الاميركية بتمثيل العراق لدى الدول الاجنبية، وفي الوقت نفسه يجب ان نفصل بين الدولة العراقية وممتلكاتها بما في ذلك البعثات في الخارج والوثائق وغيرها، وبين الحكومة العراقية التي تدير الدولة في الداخل والخارج، ومؤدى هذا التمييز ان تظل البعثات الديبلوماسية العراقية كما هي من دون مساس بها، إذ تصبح هذه البعثات ممثلة للدولة العراقية القائمة على أن تقوم الحكومة العراقية المنتظرة باجراء ما تراه من تعديلات على سياسات واشخاص اطقم البعثات الديبلوماسية. ويمتنع على البعثات العراقية خلال هذه الفترة التعبير عن مواقف تتناقض مع واقع العراق أو ان تبث سياسة معينة مخالفة لهذا الواقع، وإن جاز لها أن تؤكد على الثوابت القانونية الوطنية والاشادة بالمقاومة. وتقوم سلطات الاحتلال بالادارة المقيدة لموارد الدولة العراقية بما في ذلك الاتفاق على بعثاتها الديبلوماسية، ولا يجوز لسلطات الاحتلال ان تمارس اعمالاً انتقامية ضد الشخصيات العراقية، كما لا يجوز لها أن تقدم إحداها او بعضها لاي محاكمات حتى لو كانت هذه الشخصيات مارست اعمالاً عدائية أو مواقف معادية للولايات المتحدة، لان ذلك موقف يحميه القانون الدولي ويستجيب لنوازع وطنية معترف بها. ويجوز لدول العالم ان ترفض الاعتراف بالحكم العسكري الاميركي في العراق إلا في الحدود التي اوضحت، بل يجب على الاممالمتحدة والمنظمات المعنية والدول الرئيسة ان تراقب سلوك الحكم العسكري الاميركي ومنعه من تنفيذ برامج النهب الاستعماري لثروات العراق، وبرامج الاسترقاق الانساني لشعب العراق. على أننا لا نستطيع قياس حال العراق بحالي الكويت تحت الاحتلال العراقي، وافغانستان تحت الاحتلال الاميركي، ذلك ان احتلال العراق للكويت لم يخف الشخصية الدولية للكويت، ولذلك تمتعت حكومة المنفى الكويتية التي تشكلت في الطائف في المملكة العربية السعودية بكل صلاحيات الحكومة الشرعية، وتكفلت قرارات مجلس الامن بشل يد الحكومة العراقيةالمحتلة عن العبث بثروات الكويت في الخارج، كما ظلت البعثات الديبلوماسية الكويتية في الخارج تتبع حكومة المنفى تماماً مثلما ظلت البعثات الديبلوماسية الاجنبية في الكويت معتمدة لدى حكومة المنفى ايضاً. وليس لدى سلطات الاحتلال العراقية، اي ان الفارق الحاسم بين الحالين، على رغم قسوة الاجراءات العراقية في الاحتلال والضم وطمس الهوية الكويتية، هو وجود حكومة المنفى، وتشديد قرارات مجلس الامن على عدم الاعتراف بالاحتلال والتمسك بعدم الشرعية، ولا نظن ان مجلس الامن يمكن ان يصدر قرارات يضفي فيها الشرعية على الاحتلال الاميركي، بينما دان الاحتلال العراقي للكويت من قبل. أما في افغانستان فإن نظام "طالبان" لم يكن معترفاً به من احد سوى دول ثلاث هي باكستان والسعودية والامارات، وحتى هذه الدول الثلاث سحبت اعترافها بهذا النظام قبل بداية العدوان الاميركي على افغانستان، ومعنى ذلك أن قضية التوارث لم تكن واردة في حال افغانستان، لان كل البعثات الافغانية في الخارج لم تكن تتبع حكومة "طالبان" وإنما تتبع الحكومة السابقة، على رغم انها لم تكن تسيطر سيطرة كاملة على كل الاقليم. ومن الطبيعي ان تظل المعاهدات المبرمة بين العراق والعالم الخارجي قائمة، وكذلك العقود والارتباطات والديون وحال الدائنية والمديونية بين الحكومة العراقية والعالم الخارجي من دون مساس الى ان تتولى الحكومة الجديدة مقاليد الحكم. أما عضوية العراق في المنظمات الدولية فيجب ألا تمس على رغم ان الاحتلال في القانون التقليدي السابق على ميثاق الاممالمتحدة كان ينتقص من السيادة ومن الاستقلال ويهدر بالتالي أهم شروط العضوية في الاممالمتحدة والجامعة العربية، فالاستقلال والسيادة شرطان اساسيان لعضوية مثل هذه المنظمات، ولما كان الاحتلال بطبيعته غير مشروع، فإنه لا يرتب أي أثر مشروع في القانون المعاصر، بما في ذلك أثره على عضوية العراق في كل المنظمات الدولية. وقد طلبت الولاياتالمتحدة من دول العالم أن تقوم بطرد الديبلوماسيين العراقيين وإغلاق البعثات الديبلوماسية العراقية. ويبدو أن الموقف الاميركي يفترض أن هذه البعثات جزء من النظام العراقي الذي أعلنت واشنطن أنه انتهى، وأن حملتها لإزاحة النظام يترتب عليها استكمال هذه المهمة، وذلك لتصفية بقايا هذا النظام وامتداداته، وهي البعثات العراقية. غير أن هذا الموقف الاميركي الذي سبقه موقف آخر مماثل مع بداية الغزو الأميركي للعراق عندما طلبت واشنطن الطلب نفسه من دول العالم، يريد أن يضفي الشرعية على طلب غير مشروع، وهو أن الغزو والطلب كليهما يعتبران تدخلاً مكشوفاً في الشؤون الداخلية العراقية. وفضلاً عن ذلك فإن الولاياتالمتحدة تعتقد بأن مناهضتها للنظام العراقي يعتبر حكماً دولياً على هذا النظام يجب على دول العالم أن تحترمه ما دام صادراً من واشنطن. والأخطر من ذلك أن الولاياتالمتحدة قد تكون بنت موقفها الأخير على افتراض زوال السيادة العراقية بسبب الاحتلال. على أساس أن وجود البعثات الديبلوماسية مرتبط بوجود الدولة المستقلة ذات السيادة، وأن العلاقة حتمية بين الفرض والنتيجة أي زوال الدولة أو اختفاؤها وبين انتهاء عمل بعثاتها في الخارج. وهذا الافتراض يناقض القانون الدولي المعاصر ويقضي بأن الاحتلال الاميركي غير المشروع لا يؤثر على شخصية الدولة العراقية، ولا يمس وضع بعثاتها في الخارج. وإنما عدم وجود حكومة عراقية، هو الذي يؤدي إلى تجميد وضع هذه البعثات وحظر ممارسة وظائفها الديبلوماسية خلال مرحلة التجميد. والقضية الأخيرة التي تستحق المعالجة في هذا السياق، هي إعلان الولاياتالمتحدة عزمها على ملاحقة 55 شخصية عراقية وضعتها في قائمة سوداء، وطلبت من الدول كافة المساعدة في القبض عليها حتى تقوم هي بنفسها بتقديمهم إلى المحاكمة أمام المحاكم الاميركية، وتحذير الدول التي قد تؤويهم من مغبة هذا العمل. والغريب أن العالم كله يسكت على هذه التجاوزات الاميركية، ما قد يثير قضية ترسيخ قاعدة عرقية جديدة تجعل مثل هذه المواقف جزءاً من القانون الدولي، وتنسخ في صمت تلك القواعد المقابلة والسارية، ولذلك فإن واجب الفقهاء والمفكرين والمتخصصين أن ينبهوا إلى هذه النتيجة الخطيرة التي قد تجد بعض الدول حرجاً في التعبير عنها في شكل رسمي. وهذه الحقيقة تتكون من رقائق ثلاث: الأولى، أن التهم التي يمكن محاكمة المسؤولين العراقيين عنها ليست على الأقل جرائم دولية ما لم تتوافر فيها شروط معينة. والثانية، أن الولاياتالمتحدة التي تحتل العراق لا يحق لها أن تكون قاضياً ليس له سند من الاختصاص أو المشروعية، كما لا يجوز للولايات المتحدة في كل الأحوال أن تقدم أحداً إلى محاكمها أو أن تحاكمه وفق قانونها، ولا أن تدعي أن محاكمها أصبحت قضاءً دولياً مختصاً. وأما الرقيقة الثالثة، فهي أن الدول قاطبة ترتكب خطأ قانونياً لو استجابت للطلب الاميركي. يضاف إلى ذلك أن الدول التي تؤوي المسؤولين العراقيين السابقين لا تناقض التزاماً قانونياً مخالفاً. بل إن نصرة هؤلاء المسؤولين ضد عدوان يترصدهم ويتعقبهم هو من الالتزامات الدولية قبل أن يكون فضيلة من فضائل السلوك الدولي. وأخيراً يجب أن ننبه إلى أمور بالغة الخطر. أولها تلفيق وجود أسلحة الدمار الشامل في غيبة رقابة دولية لتغطية الفشل والادعاء عند قيام الحملة. وثاني هذه الأمور هو تحميل الشعب العراقي والاقتصاد العراقي المنهك تكاليف أعباء الحرب وإرهاق الاجيال المقبلة بالديون المصطنعة وسبباً في استمرار الهيمنة الاميركية على العراق ورهن مستقبل العراق واقتصاده لأجيال مقبلة... وهو حال من الاسترقاق الأميركي المعاصر. وثالث هذه الأمور هو أن الهجوم على العراق اتخذ شكل أعمال الإبادة للتراث والقلاع العلمية وتمزيق المجتمع وترويعه لمحاولة تشكيل عراق جديد مادياً ومعنوياً ينسجم مع التوجهات الاميركية على غرار المانيا واليابان بعد الحرب الثانية. لذلك لا مفر من أن يعاد فتح الملف العراقي - الاميركي في المستقبل، وفي الوقت المناسب من طريق أجيال عربية أكثر قدرة على ذلك. * كاتب مصري.