الحرب الأميركية في العراق موضوع شائك ومعقّد يحتوي على أمور متناقضة احياناً. اميركا بعد الحرب العالمية الثانية اصبحت اكبر قوة في العالم، اهتمت بموارد طاقاتها، وانفردت بقوتها الخارقة بعد سقوط الاتحاد السوفياتي وتبنت النظام العالمي الجديد. وامتزجت هذه القوة بالهيمنة والاستعلاء على نواحي الحياة كافة، مع سعيها الى الابتعاد عن النمط الاستعماري القديم الذي جربته اوروبا وتطلعت بعض الشعوب الى دعمها في سبيل استقلالها عن الاستعمار القديم. لكن سرعان ما تحولت الولاياتالمتحدة الى رمز الاستعمار الجديد وهدفاً لنضال الشعوب والقادة الشرفاء للتخلص من الهيمنة الاميركية. وبعد التجربة الفيتنامية سعت الى الابتعاد عن بعض التدخلات المباشرة والاكتفاء بهيمنتها التكنولوجية والاقتصادية والسياسية وحتى الثقافية - عدا عن تفوقها العسكري - بحيث تكون هي القوة المسيطرة على الاقتصاد العالمي في ظل ترابط هذا الاقتصاد في عصر العولمة وتكنولوجيا المعلومات. لكن حربي اميركا في أفغانستانوالعراق شهدتا اتباع نزعة اخرى غير التي تعودنا ان نراها في اميركا في الاعوام الاخيرة، عبر تجربة جانب من التدخل المباشر القديم بحلة جديدة. وهيّأ نظام "طالبان" الظلامي بتورطه مع "القاعدة" في احداث 11 ايلول سبتمبر واصابة اميركا في عقر دارها الى جانب تصرفات نظام صدام حسين الاجرامي والخارق للمواثيق الدولية الارضية المناسبة لهذه النزعة بعدما تغير الرأي العام الاميركي اثر احداث ايلول. وفي ما يتعلق بالجانب العراقي، ينبغي التأكيد ان موقع العراق التاريخي والجغرافي والاستراتيجي من اهم المواقع في منطقة الشرق الاوسط، اذ يملك هذا البلد اقتصادياً كل مؤهلات النمو. لكن استيلاء صدام وزمرته على السلطة في العراق اهدر طاقاته وشن الحروب على جيرانه، بدعم أوروبي وأميركي أحياناً، كما في حربه ل"صد خطر الثورة الاسلامية"، واستخدم الاسلحة الكيماوية المحظورة في الحرب ضد شعبه بصمت اميركي واوروبي او تعاون ضمني. وبعدما بيت النية لغزو الكويت غير مواقفه من ايران وقبل باتفاقية الجزائر التي خرقها قبل الحرب، ثم شن حرباً ظالمة على الكويت لضمها الى العراق، ومرة اخرى خلافاً لكل المواثيق والاعراف الدولية. ودخلت اميركا في تحالف دولي وتحت غطاء الشرعية الدولية، وحتى العربية، ضد تدخل صدام في الكويت... فاندحر وواجه انتفاضة شعبية من داخل العراق كادت تطيحه، لكن واشنطن وقفت متفرجة وأعطت الضوء الاخضر لمجزرة الانتفاضة وقمعها، واكتفت بفرض الحصار على العراق. وكان الشعب العراقي دون صدام هو المتضرر الحقيقي. بعد ذلك، غيرت اميركا سياساتها من صدام، خصوصاً بعد وصول جورج بوش الابن الى البيت الابيض ووقوع احداث 11 ايلول سبتمبر وفرض المتشددين سيطرتهم عى مقاليد القرارات في الولاياتالمتحدة. ووجدت واشنطن انها كانت تحتاج الى انتصار اكبر من انتصارها في افغانستان. ويمكن تلخيص بعض اسباب الحرب بما يأتي: 1- الشعور بالذنب لدى الادارة الجديدة بسبب عدم انهاء العمل بعد تحرير الكويت خصوصاً اثر تيقنها من وجود مؤامرة على حياة جورج بوش الاب عندما زار الكويت. 2- ان صدام كانت له أخطاء فادحة داخل حدود العراق وخارجه، من قمع الشعب العراقي بالاعدامات والسجون والاسلحة الكيماوية وسعيه الى امتلاك الاسلحة النووية والجرثومية، اضافة الى اخطائه في شن الحروب على دول الجوار خصوصاً الكويت، مما يبرز نزعته الاستيلائية على دول المنطقة وشعوبها وامكان تعامله مع الارهابيين الدوليين في كل لحظة. 3- نجاح النخبة العراقية المظلومة والمهجرة في طرح قضيتها على النخب في اوروبا واميركا واقترابها من مراكز القرار. 4- ان للعراق احتياطا من النفط تمكن السيطرة عليه من تغيير المعادلات الدولية وانهاء اعتماد الولاياتالمتحدة على احتياط نفط المملكة العربية السعودية في الشرق الاوسط. 5- ان العراق - على خلاف افغانستان - بلد غني ويمكن بناء دولة غنية نموذجية فيه - من المنظار الاميركي - وابعاده عن ساحة الصراع في الشرق الاوسط. 6- قدرة النظام العراقي على التعايش مع الحصار لسنوات متوالية وبناء بنيته الاعلامية والاستخباراتية وعدم نجاعة السبل التي اتخذتها الولاياتالمتحدة في المنطقة. 7- قبول الرأي العام الاميركي الحرب على العراق بعد احداث 11 ايلول والدعايات التي رافقتها عندما لم يأخذ في الاعتبار الاخطار والاخطاء التي ارتكبت بعد الحرب. ومن هذه الاخطاء يمكن ذكر الآتي: 1- اتخذ قرار الحرب على العراق لاسباب لا يمكن الافصاح عنها وذكرت اسباب لا يمكن اثباتها. فمسألة النفط او تحدي الخطط الأميركية او أي اسباب تتعلق بالماضي لا يمكن الاتكاء عليها، لذلك اعتمدت واشنطن ولندن ذريعة وجود اسلحة دمار شامل وما تشكله من تهديد حقيقي وامكان تعامل النظام مع تنظيم "القاعدة". ولا شك في ان صدام امتلك اسلحة محظورة واستخدمها، لكن هذه ادلة تتعلق بالماضي والشكوك حول عدم التخلص من هذه الاسلحة لم يمكن اثباتها حتى بعد احتلال العراق وسبر المناطق المحتمل تخزينها لاسلحة محظورة. 2- كان الفشل في اقناع الرأي العام العالمي المتمثل بالامم المتحدة ومجلس الامن بضرورة الحرب احد الاخطاء الكبيرة لاميركا في هذه الحرب على خلاف حربها لتحرير الكويت. وكان لذلك الاثر البليغ في اعاقة ضم حلفاء في الحرب الى جانب بريطانيا وأميركا، ولعب صدام على هذا الوتر ونجح في بلورة معارضة قوية من الشعوب وبعض الدول. ان قرار مجلس الأمن الرقم 1441 اتفقت عليه كل الاطراف، لكن لم تتفق على ما اذا كان يكفي في حد ذاته للحرب او يحتاج الى مراجعة اخرى لمجلس الامن... وكان قبول صدام قرار التفتيش الصارم مناورة منه لكسب التعاطف المتنامي. 3- ان طريقة تصرف الاميركيين في الحرب وبعدها، بالنسبة الى حلفائها وجيران العراق كان خاطئاً، اذ نعت الاميركيون الاوروبيين بنعوت ولدت حساسيات داخل الحلف الاطلسي، ولم يكترثوا لدور دول الجوار ومدى اهميته لوحدة العراق وامنه، ما أثار ويير مخاوف هذه الدول مثل تركيا والمملكة العربية السعودية ناهيك عن دول مثل سورية وايران. 4- بدا من التصرف الاميركي ان الاميركيين وحلفاءهم بعد اتخاذهم قرار شن الحرب بدأوا درس الملف العراقي على عجل، بعدما كانوا يروّجون ان هذه الملفات جاهزة. لذلك تبدلت الخطط وتغيرت تغييراً كبيراً وسريعاً وتبدلت الوجوه بعد الاحتلال بأسرع ما يمكن تصوره. وتنبغي الاشارة هنا الى فضيحة بريطانيا بالنسبة الى التقرير حول العراق الذي كان منقولاً عن دراسة بدائية وغير موثقة موجودة على الانترنت. 5- التصرف الاميركي بعد احتلال العراق لم يكن مدروساً دراسة صحيحة فوقع الاميركيون في اخطاء كبيرة، اذ ان التعامل مع الشعب العراقي لم يكن متناسباً مع تقاليده وعقائده ولم يراع تفاصيل الحساسيات الموجودة في المجتمع العراقي، الى جانب القرارات المتسرعية التي ثبت عدم جدواها كاللجوء الى تعيين حاكم مدني اميركي وحل الجيش العراقي وبعض الوزارات ودهم البيوت وعدم ضبط الامن وعدم القدرة على ضبط الحدود وعدم الاعتماد على القوى العراقية التي ناضلت ضد نظام صدام حسين وتأجيج الصراعات الكامنة في المجتمع وتباطؤ الخدمات كالكهرباء والمياه والبنزين. 6- الاخطاء الفادحة التي ارتكبتها اميركا في العراق من عدم وضوح الاهداف والريبة التي تنظر اليها الشعوب العربية والاسلامية بالنسبة لاهداف اميركا في المنطقة بسبب دعمها الاعمى لاسرائيل وسياساتها العدوانية في المنطقة وعدم تعمقها في الوضع العراقي، ورعونتها في التصرف، كل ذلك تسبب في قلب السحر على الساحر وأثار المخاوف والتوقعات. ولا شك في ان الاحتلال الاميركي سيترك اثاراً سلبية على المنطقة وعلى سمعة اميركا لأن الدعم الاميركي للشعب العراقي للتخلص من صدام كان ممكناً بطرق اخرى... فالاحتلال والانجرار الى التدخل المباشر وعدم الاكتراث بالقوى الوطنية ولد حساسيات كبيرة في العراق والمنطقة. ان الآثار السلبية بالنسبة الى طرح الفيديرالية العرقية في الدورة الانتقالية والآثار السيئة على دول الجوار سيكون من مخلفات هذا الاحتلال وتدخله في الشؤون الداخلية للعراق. ان سياسات اميركا يمكن ان تأخذ منحى متغايراً مع سياسات اسرائيل في المنطقة خصوصاً بالنسبة الى مستقبل العراق. فكيف يمكن الافادة من هذا الاختلاف وكيف نقف امام المخطط الاسرائيلي لتفكيك العراق؟ بالمنظور القريب لا يمكن للشعب العراقي ان يتخلى عن دعم قضيته الاولى وهي فلسطين، فكيف تتعامل اميركا مع هذا الشعور المتنامي في شعوب المنطقة والعالم اجمع لجعلها تعود الى رشدها وتتخلى عن دعمها الاعمى لسياسات اسرائيل. ان الانتخابات الاميركية في السنة الجارية ستؤثر اثراً بالغاً في العراق، كما اثرت انتخابات اسبانيا في قراراتها. فاذا فاز جون كيري سيغير من سياسات بوش في العراق، واذا انتخب بوش مجدداً فإن احتمال تغيير سياساته وارد بسبب تغير الرأي العام الاميركي الذي يتغير ويتفاعل مع الاحداث في العراق والمنطقة. ان آمال أميركا المعلنة في العراق لن تتحقق بالسرعة المعلنة للصعوبات الموجودة، فادارة العراق ليست ادارة حربه مع صدام وشل قدراته الدفاعية والتناقضات الموجودة على الساحة العراقية تحتاج الى ذكاء اكبر لحلها... فالشعب العراقي وقواه الوطنية لا بد ان تعتمد على قدراتها الذاتية اكثر مما اعتمدت في مرحلة اسقاط صدام. ان مقومات الاقتصاد العراقي لبناء دولة عصرية ومتقدمة موجودة، ولنا تفاؤل وتخوف في آن. لكن التفاؤل اقوى من التخوف بأن العراق سيتخذ موقعه في المنطقة بعد فترة انتقالية ليست باليسيرة. ولكنها فترة مخاض صعبة. الاسماء ستأتي وتذهب لكن الشعوب ستبقى ونتمنى للشعب العراقي الأبي ان يتعافى من الاستبداد والاحتلال ويصبح عضواً فاعلاً في هذه المنطقة الحساسة والمفعمة بالحياة، ويمكن للجمهورية الاسلامية الايرانية ان تساعد الشعب العراقي على هذا النهوض في جميع مراحله. * مستشار رئيس الجمهورية الاسلامية الايرانية.