بعد عشرة أيام تتسلم الحكومة العراقية الانتقالية مسؤولية السلطة الأمنية فور انسحاب قوات التحالف إلى خارج المدن. ووعد الرئيس العراقي غازي الياور باتخاذ تدابير جريئة لضبط الأمن، الأمر الذي يعتبره ضرورياً قبل اجراء الانتخابات وتنفيذ مشاريع الإعمار. كذلك تعهد رئيس الحكومة الدكتور اياد علاوي باجتثاث جذور الإرهاب واستخدام قوات الأمن ضد الذين يحاولون زعزعة إرادة الحكومة الجديدة. وكان بهذا التهديد يحذر قوات المعارضة التي استقبلت تعيينه بموجة تفجيرات واغتيالات أودت بحياة وكيل وزارة الخارجية بسّام كبة ومدير وزارة التربية كمال الجراح وأكثر من مئة مجنّد وخبير ينتمون إلى جنسيات مختلفة. وبما أن وزارتي الداخلية والدفاع عجزتا عن اكتشاف الفاعلين، فقد حصرتا مسؤولية الاعتداء بعزة إبراهيم الدوري، نائب رئيس مجلس قيادة الثورة في نظام صدام حسين. واعتبرته حكومة علاوي الرأس المدبر الذي يخطط لعمليات الإرهاب، وأن النجاح في قتله أو اعتقاله سيلحق الهزيمة بأنصاره. وكان من الطبيعي أن يعيد هذا الطرح العاجز إلى ذاكرة الشعب العراقي ما حدث عقب العثور على مخبأ صدام حسين، وكيف أن موجة العنف ازدادت واتسعت بعد اعتقاله. وأوضح أن عجز الحكومة الجديدة عن وقف عمليات المعارضة المسلحة شجعها على تكرار إعلان فكرة الربط بين اختفاء عزة الدوري وازدياد موجة الإرهاب، تماماً كما ربطت الحكومة السابقة بين المطَارد صدام حسين واتساع نشاط جماعته. ومثل هذا التبسيط في حصر الشغب والتمرد بجماعة العهد السابق قد أضعف من ثقة المواطنين بولاء البعثيين الذين جندهم وزير الدفاع علي علاوي وضمهم إلى قوات الأمن. وكان هذا الموضوع مثار خلاف مع أحمد الجلبي، الذي طالب باستبعاد أعضاء"البعث"، لايمانه بأن مشاركتهم ستؤسس لخلق ظروف حرب أهلية أو انقلابات عسكرية. بعكس الدكتور اياد علاوي الذي دعا إلى ملء فراغ السلطة الأمنية بعناصر اضطرت للانتماء إلى حزب"البعث"في سبيل الحصول على مصدر رزق وليس لأسباب عقائدية. ولقد أيدّ هذا التفسير قائد القيادة الأميركية الوسطى جون ابي زيد الذي اقترح تجنيد خمسمئة ضابط سابق ووضعهم في خدمة القوات العراقية. وهذا ما كرره المبعوث الخاص للأمم المتحدة الأخضر الإبراهيمي الذي طالب باستخدام الكفاءات والتخفيف من القيود التي تحرم البعثيين من الوظيفة أو من حق المشاركة في تدريب كوادر الشرطة الجديدة. يوم الأربعاء المقبل 30 الجاري يقوم الحاكم المدني الأميركي بول بريمر بتسليم السلطة الرمزية إلى رئيس الوزراء العراقي المعيّن اياد علاوي. وهي سلطة وهمية لا تؤمن لصاحبها سوى صلاحيات محدودة بصورة موقتة. ومعنى هذا أنه غير مسموح لرئيس الوزراء الذي اختارته واشنطن بواسطة مجلس الحكم الموقت وبمساعدة الأممالمتحدة، أن يصدر القوانين أو يوقع على اتفاقات ملزمة طويلة الأمد. وبسبب هذه القيود يحاول رئيس الحكومة الانتقالية اثبات استقلاليته عن واشنطن لعل النجاح في مهمته الصعبة يفتح له باب الحظ بحيث ينتخب رئيساً شرعياً السنة المقبلة. وهذا يستدعي بالضرورة توفير الحماية للمواطنين الذين يقتلون في منازلهم وعلى الطرقات وفي أماكن العبادة. ولقد وصفت الصحف الأجنبية هذا الأسبوع ظروف العراق بأنها"مسلخ متنقل"حيث يذبح الأبرياء كالخرفان لمجرد وجودهم في المكان الخطأ. وتحاشياً لاستفحال هذه الحال، قرر علاوي الاستعجال في تجهيز المزيد من قوات الأمن، إضافة إلى مضاعفة عدد حراس الشركات الخاصة. وهو عازم على إعادة تشكيل خمس فرق 150 ألفاً من الجيش العراقي السابق الذي حله بول بريمر. كما أنه كشف لصحيفة"واشنطن بوست"عن نيته انشاء جهاز استخبارات أمني داخلي مشابه لجهاز MI5 البريطاني، أو"مكتب التحقيقات الفيديرالي"اف بي آي. وفي إشارة إلى هجمات المعارضين على أنابيب النفط، قال رئيس الوزراء العراقي إن بلاده شهدت 130 هجوماً على البنى التحتية النفطية خلال الشهور السبعة الأخيرة، وان الخسارة زادت على المئتي مليون دولار. ولكن الاعتراف بهذه الحقائق لم يثنه عن ايلاء هذا الموضوع أهمية خاصة بحيث أنه طلب من وزير الطاقة ثامر الغضبان تشكيل قوة أمنية خاصة لحماية المنشآت النفطية وخطوط الأنابيب. وفي مؤتمره الصحافي الأخير، قال وزير الطاقة إنه واثق من استعادة الطاقة الانتاجية التي شهدها العراق قبل الحرب والبالغة ثلاثة ملايين برميل يومياً. ووعد بالوصول إلى هذا المعدل بعد ستة شهور، أي في آخر السنة. كذلك تعهد بزيادة الانتاج المحلي بعد ترميم المصافي الهرمة. وفتح الباب أمام شركات الاستثمار الأجنبي في مصانع التكرير. ولم يمض على هذا التصريح أكثر من أسبوع فإذا بالفريق المعارض لخطة تطوير انتاج الطاقة، يقوم باغتيال العميد غازي طالباني، مسؤول الجهاز الأمني لحقول النفط في شمال العراق. واعتبر المحققون أن هذه العملية موجهة إلى نسيبه جلال طالباني، وإلى زعماء قوات البيشمركة الذين يطالبون بانشاء دولة منفصلة في كردستان تضم السليمانية ودهوك وأربيل وكركوك وأجزاء واسعة من الموصل وديالى. وفي هذه الحال يمكن توجيه أصابع الاتهام إلى كل جهة تعارض قيام كردستان مستقلة. ويرى الديبلوماسيون في بغداد أن الظروف الأمنية في سائر المناطق العراقية ليست أفضل من ظروف المنطقة الشمالية التي تُعتبر الملاذ الآمن لأكراد المنطقة. وبدلاً من أن تهدأ هذه الهجمات بعد تشكيل الحكومة الانتقالية والإعلان عن موعد تسليم السلطة، فوجئت وزارة الداخلية بازدياد حوادث التفجير والخطف والاغتيالات. كما فوجئت بحدوث متغيرات على صعيد التنظيمات الحزبية بدأت بأحمد الجلبي ومقتدى الصدر. فالأول أعلن عن حل"حزب المؤتمر الوطني"، ملمحاً إلى تحويله إلى حزب جديد بعد وضع نظام داخلي له. بينما أذاعت مصادر مقتدى الصدر أنه سيحافظ على ميليشيا"جيش المهدي"، في حين يطلب من جماعته الاشتراك في الانتخابات المقبلة لإثبات حضوره السياسي على المستوى الشعبي. ويبدو أن طهران نصحته بضرورة الاقتداء بنموذج"حزب الله"كي يضمن الحضور فوق المسارين العسكري والسياسي. مع اقتراب موعد تسليم مقاليد السلطة للحكومة الانتقالية ترتفع فوق العواصم العربية أسئلة غامضة تتعلق بالدور الأميركي المريب في المرحلة المقبلة: هل صحيح أن القوات الأميركية ستنسحب من الشوارع إلى ثكنات تقع خارج المدن؟ وهل يقبل السفير الأميركي الجديد جون نيغروبونتي بالانزواء خلف جدران السفارة، أم أنه سيواصل القيام بالدور الذي اضطلع به المندوب السامي بول بريمر؟ الاستعدادات الأميركية تشير إلى عناد في موقف الرئيس جورج بوش، وإلى إصراره على إقامة أكبر سفارة لبلاده في العراق. ولقد اختار لها السفير المتقاعد اليوناني الأصل الذي خدم في مناطق الأزمات مثل سايغون وهندوراس والمكسيك. ويطلق الديبلوماسيون في الأممالمتحدة على السفير نيغروبونتي لقب"مستر نو"لكثرة ما استخدم الفيتو، ويتذكر الفلسطينيون أنه استعمل حق الرفض أربع مرات لمنع تمرير قرارات تدين إسرائيل. ولقد حصرت واشنطن مهمته بدور المراقب والمنسق مع الحكومة العراقية، محظرة عليه ممارسة أي سلطة على القيادة العسكرية، كما كان يفعل بول بريمر. وهو حالياً يستعد للسفر إلى بغداد لافتتاح مبنى السفارة الذي بلغت تكاليفه حتى الآن ستمئة مليون دولار، ويضم 297 ديبلوماسياً بينهم 155 موظفاً عراقياً. ومن المتوقع أن يصل رقم التكلفة النهائية إلى بليون دولار. وكما اختارت الخارجية الأميركية سفارتها في بغداد لتكون مركز العصب للعمل الديبلوماسي، كذلك اختار"البنتاغون"قصر صدام حسين في الفاو ليكون مركز العمليات المشتركة في أكبر قاعدة عسكرية خارج الولاياتالمتحدة. كتب البروفسور فؤاد العجمي، أستاذ الدراسات الشرق - أوسطية في جامعة جونز هوبكنز، مقالة في صحيفة"نيويورك تايمز"26 أيار/ مايو يعترف فيها بفشل الحملة الأميركية. ويقول إن العراق سيبقى، ولكن الحلم الأميركي بتحويله إلى نموذج للديموقراطية قد تبخر. ويؤكد العجمي، الذي يعتبر من أقوى المحرضين على عملية"الغزو"، ان رسالة بوش حول إعادة صوغ العالم العربي، قد طويت لأن العراق ليس رحيماً مع أبنائه ومع الأغراب أيضاً. ويستدل من هذا الكلام أن حلم التغيير الذي استخدمته إدارة بوش لتبرير عملية الاجتياح لن يبصر النور بسبب معارضة العراقيين وحلفائهم. والنتيجة في نظره، أن واشنطن تبحث حالياً عن مخرج مشرف للانسحاب من هذه الورطة. ولم يكن فؤاد العجمي هو الوحيد الذي اعترف بفشل الحملة الأميركية، فالبيان الذي أصدره هذا الأسبوع، ديبلوماسيون وعسكريون سابقون، تضمن عبارات التأنيب والتقريع بسبب ما وصفه ب"الاندفاع الأحمق لزرع الديموقراطية بالقوة". وتعرب هذه النخبة عن قلقها من تدهور سمعة الولاياتالمتحدة في العالم، ومن تنامي موجة الكراهية لأميركا بين المسلمين. ويقول البيان في الختام:"لقد خسرنا الكثير من شراكتنا الدولية والكثير من الأرواح والكثير من الأموال لأمر غير مُبرر". والملاحظ أن الرئيس بوش لم ينكر في خطابه يوم الأربعاء الماضي، فشل قواته في ضبط الأمن. لذلك ركّز على الدور الطليعي للقوات العراقية التي ستقود البلاد إلى السيادة والحرية والاستقرار. وقال أيضاً إن دور قوات التحالف سيقتصر على مساندة القوات العراقية. ولكن الرئيس العراقي غازي الياور نبّه إلى صعوبة انهاء تدريب كوادر الأمن قبل ستة أشهر، وأن الحكومة مضطرة للاستعانة بقوات متعددة الجنسية للمشاركة في حفظ النظام، مشترطاً ألا تكون من دول الجوار. وكان بهذا الكلام يلمح إلى احتمال مطالبة دول الحلف الأطلسي للقيام بدور أمني لأن القوات الأميركية لم تعد قادرة على تحقيق هذه المهمة. ويبدو أن فرنسا تنبهت إلى إمكان طرح هذه الفكرة، لذلك تصدى لها الرئيس جاك شيراك منتقداً، وقال إنه يعرف حاجة الرئيس بوش إلى كسب سياسي قبل الانتخابات. وحذر شيراك من استخدام قوات الحلف لمهمات أمنية في العراق"لأن القرار الدولي الجديد أعطى الحكومة العراقية فرصة لاظهار صدقيتها واثبات استقلاليتها". حكومة اياد علاوي متخوفة من طغيان حالات الفوضى والتسيب، الأمر الذي يجعل من عملية ضبط الأمن مهمة شبه مستحيلة. لهذا قرر الدكتور علاوي التوجه إلى العراقيين بعد موعد التسليم، بنداء الاستغاثة لعل دعمهم يجنب البلاد السقوط في مستنقع التشرذم والاقتتال على طريقة الحرب اللبنانية. في حين تتوقع موسكو ظهور هذا الوضع المرعب لأنها ترى في الدكتور علاوي نسخة عربية عن الكسندر كارنسكي الذي تركه لينين يحكم لفترة انتقالية قصيرة قبل أن ينقض عليه وعلى نظام القيصر نيكولاي الثاني. والمؤسف أن بول بريمر، في حديثه الأخير لمجلة"تايم"لم يبشر بظهور حاكم واحد في العراق، بل توقع ظهور مجموعة حكام! * كاتب وصحافي لبناني.