تعتبر مدينة بوسطن العاصمة التاريخية والثقافية في الولاياتالمتحدة الاميركية. فمن مرفئها انطلقت الشرارة الاولى للاستقلال عن بريطانيا بما سمي حينذاك "حفلة شاي بوسطن" في اشارة الى اغراق السفن المحملة بالشاي. وفي محاذاة الشوارع المحيطة بجامعة هارفارد، اعرق الجامعات واكثرها شهرة في الولاياتالمتحدة وخارجها، لا تزال آثار حوافر الحصان الذي امتطاه جورج واشنطن ماثلة للعيان الى جانب العديد من اللوحات التذكارية التي تشير الى أمجاد بعض القادة العسكريين. والى جوار الجامعة تقع الساحة او ما يعرف ب "هارفارد سكوير" التي لا تقل شهرة عن الصرح العلمي، خصوصاً ان الحركة لا تنقطع عنها ليل نهار علاوة على موقعها "الاستراتيجي" في قلب منطقة تجارية وسياحية بامتياز. وتجاور "هارفارد سكوير" محطة المترو وتلامس مكتبة لبيع الصحف والمجلات الاميركية والعالمية، بما فيها الدوريات العربية، وتحيط بها الشوارع التجارية من كل اتجاه وينتشر في محاذاتها العديد من مقاهي الارصفة، وأشهرها بين الطلاب مقهى pain au bon. والى ذلك فهي محطة للاسترخاء والاستراحة يجلس على ادراجها الراغبون في تعريض اجسادهم لأشعة الشمس او للمطالعة او لتناول الطعام او احتساء القهوة او لهواة الصور التذكارية. يوحي المشهد العام وكأن مجموعات من البشر تقاطرت من شتى ارجاء الارض وتجمعت في هذا المكان. أميركيون وأوروبيون وشرق أوسطيون وأفارقة وآسيويون يلتقون هكذا صدفة ليشاهدوا مجاناً ما يجرى على مسرح هارفارد سكوير من طرائف العروض الفنية وغرائبها. ويفاجأ المتتبع لما يجرى في ساحة هارفارد سكوير بتنوع العروض الفنية والغنائية التي تجرى كل يوم. اضافة الى الرقصات العبثية واللوحات الفولكلورية التي تخالطها بين الحين والآخر مظاهر الاحتجاج والرفض الى درجة يخال المرء نفسه وكأنه امام مسرح شعبي ملتزم حيناً وغريب عن المألوف حيناً آخر لوفرة الادوار التي تتناوب على ادائها مجموعات من الشبان والشابات الذين يضجون بما يعتمر في نفوسهم من مشاعرالقلق والرغبات الدفينة وصيحات الاستنكار والرسائل السياسية والاجتماعية الموجهة الى كل من يعنيهم الامر في أميركا. الساحة مفتوحة للجميع ولا فضل لاحد على غيره الا لمن يأتي اولاً. هكذا "هو العرف السائد بين اللاعبين" على حد قول ماك جونز وهو طالب جامايكي يبلغ من العمر 22 عاماً ويترأس فرقة فولكلورية في الجامعة. أما الجمهور فهم المارة الذين غالباً ما يتحلقون حول المكان. منهم من يكتفي بالوقوف ومنهم من يفترش الارض وعيونهم شاخصة الى داخل الحلبة التي يتعالى منها التصفيق وصيحات الاعجاب وما يخالطها من ومضات عدسات المصورين. ومن المشاهد اللافتة مثلاً قيام شاب اسود 19عاماً يرتدي زياً يبدو فولكلورياً وينهمك بتوزيع عدته الموسيقية المؤلفة من مجموعة أوانٍ معدنية قديمة مختلفة الأشكال والأحجام، ويرتبها الى جواره. يبدأ العزف بالضرب عليها ببعض الملاعق المعدن والخشبي ويتلاعب فيها بشكل بهلواني ويتنقل من آنية الى اخرى بخفة ورشاقة مذهلتين وهو في كل ذلك يتمايل طرباً وتهتز مشاعره من قمة رأسه حتى اخمص قدميه على وقع ما يقدمه من مزيج الانغام والالحان الخفيفة والثقيلة التي سرعان ما تنتقل عدواها الى الجمهور فيواكب ايقاعاته بالاعجاب والتصفيق الى ان تشتد الحماسة والانفعال وينبري بعض الشباب الى تقديم لوحات راقصة تستمر الى حين انتهاء "السمفونية" وانهماك "الفنان" بجمع ما تيسر له من "الغلة" المتناثرة من حوله. ومن بانوراما هارفارد سكوير ايضاً لوحات وألوان موسيقية راقصة اخرى يأتي في طليعتها "الراب" الاميركي ونماذج فولكلورية تؤديها بعض الفرق الفنية الاسبانية بزيها التقليدي والعاب بهلوانية يشارك فيها شباب ينتمون الى احد الأندية الرياضية، علاوة على عروض الأزياء للعرائس. فتاة تختفي تحت فستان أبيض طويل وتقف على منصة عالية وفي يدها باقة ورود وتدور حول نفسها الى ان تجد من يشتري ثوبها. وبعيداً من الهزل ثمة مشاهد جدية يحرص بعض الشباب على تقديمها إما تذكيراً بمعاناتهم وإما تعبيراً عن آرائهم السياسية. فهناك من يلف جسده بلوحات فنية غنية بالرسوم التعبيرية تكشف جانباً من التمييز العنصري والبطالة والتشرد والجريمة، ومنهم من يلجأ الى رفض الحرب على العراق على وقع اغنيات جماعية تستهدف النيل من بوش وادارته وتنعتهما بأقذع عبارات الاستهزاء والسخرية والتي على ما يبدو كانت تلاقي تجاوباً واستحساناً من معظم الجمهور. والى ذلك لا تخلو الساحة من بعض الشباب الذين يرفعون شعارات مشفوعة بصور كاريكاتورية وبتعليقات ساخرة تطالب بحرية الاجهاض وسن التشريعات القانونية لزواج مثليي الجنس . وتقول احدى الفتيات الأميركيات كيم نوراغن 22 عاماً، إن ما يجرى في ساحة هارفارد سكوير هو بمثابة "هايد بارك صغير ومكان مثالي للاحتجاج يعبر عن ضمير فئات كثيرة من الشعب الأميركي". أما جون دياغو، وهو أميركي من اصول اسبانية 25 عاماً فيقول: "انها ظاهرة اجتماعية وفي جوهرها حركة رفض لبعض المظالم السائدة في المجتمع الأميركي". في حين يرى احد الطلاب العرب، اكتفى بذكر اسمه الاول حامد، "ان هارفارد سكوير هي احدى ساحات الحرية في أميركا. فما يحدث في هذه الزاوية الملاصقة لجامعتنا هو ترجمة عملية لما ندرسه في العلوم الاجتماعية والسياسية". وتمنى الشاب ان يرى مثيلاً لها في بلده او في اي بلد عربي آخر. ويرى بعضهم الآخر انها قد تكون وسيلة شريفة للعيش تحول دون تسكع الشباب في الشوارع او في محطات المترو.