الأرجح ان يوافق أعضاء مجلس الأمن على قرار يوكل صلاحيات واسعة الى الولاياتالمتحدة أثناء الفترة الانتقالية في العراق. الأسباب لا تعود الى ثقة بالسياسات الاميركية برزت فجأة أو الى رغبة في إضفاء الشرعية الدولية عليها. السبب الرئيسي هو ان أكثرية الدول لا تريد المزايدة على الادارة الأميركية لدرجة تطالب فيها ان تساهم بقوات وتلعب دوراً رئيسياً أو أن تصبح أداة من أدوات انقاذ الادارة الأميركية من ورطتها. قد يقال ان هذا هروب من المسؤولية، انما الرد الفوري هو: من أتى بهذه الورطة ومن ارتكب كل هذه الأخطاء؟ المشكلة الرئيسية لا تزال في تناقض المواقف الأميركية والشكوك في غايات الادارة الاميركية حتى وهي في غاية التلهف الى معونة دولية. جوهر الخلاف هو ان الرئيس جورج دبليو بوش يعتمد استراتيجية"المضي في مسيرة"ما بدأه في العراق ويرفض التقدم باستراتيجية"الخروج"من العراق. انما الخوف أهم من الخلاف في الحسابات. الخوف من تلبية دعوة الرئيس الأميركي الى ساحة العراق بوصفها"الجبهة الرئيسية في الحرب على الارهاب". ما يفاقم المخاوف ويعزز تردد الأسرة الدولية في التجاوب ان جورج دبليو بوش يريد انهاء شرعياً لاحتلال العراق، انما بتواجد 138 ألف جندي أميركي لفترة زمنية مفتوحة"تطول بقدر ما هو ضروري"، لتنفيذ مهمات الحاق الهزيمة"بالأعداء: الارهابيون، الميليشيات غير الشرعية، والموالون لصدام"، حسب تعبيره. كل ما طرحه الرئيس الاميركي في خطاب"الأهداف"يبين ان وسائل تحقيق الغايات في غير الأيدي الاميركية. وهذا بحد ذاته تطور في غاية الأهمية قد يسلب القائمين على حملة اعادة انتخاب بوش رئيساً أدوات ادارة الملف العراقي التي اعتقدوا انها كانت في أيديهم. فموضوع العراق بات اليوم رئيسياً في الحملة الانتخابية، وقد يؤدي الى اسقاط بوش من الرئاسة. أحد أسباب حملة التلطيف التي تخوضها الادارة الأميركية مع أعضاء مجلس الأمن يعود لأسباب انتخابية حصراً. كذلك هي وراء التواضع المرحلي لصقور الادارة والمتطرفين من المحافظين الجدد الذين يسدّون الأنف اقتزازاً وهم يذوقون مرارة جرعة الاضطرار للعودة الى الأممالمتحدة والاعتراف ببعض الأخطاء والفشل. خطاب بوش أوضح ان مهمات تشكيل الحكومة الموقتة وتحضير الانتخابات يقوم بها مستشار الأمين العام الخاص الأخضر الابراهيمي ورئيسة دائرة الانتخابات كارينا بيريللي. خطواته الخمس التي وردت في الخطاب خارجة عن سلطته. فهي إما خطوات تقوم بها الأممالمتحدة، أو العراقيون، أو انها رهن ما تمليه الساحة العراقية من مقاومة أو ارهاب. ملكية القرار العراقي خرجت كلياً عن السيطرة الاميركية. لكن الرئيس الاميركي يصرّ على انه صاحب القرار. حتى القوات الاميركية لم تعد تمتلك اليد الأعلى في العراق. التعليمات المتناقضة تجعلها الآن في حيرة وارتباك. انها قوات تخضع فقط لتعليمات واشنطن لكنها ستحمل عنوان"قوة متعددة الجنسية"بولاية دولية. مهماتها تداخلت أصلاً بين"التحرير"و"الاحتلال"و"محاربة الارهاب"وهي الآن تتأرجح بيندعم حكومة عراقية مجهولة الهوية، موقتة ثم انتقالية ثم دائمة، بين مهام البقاء في العراق الى حين الانتصار في حرب الارهاب. مجلس الأمن لن يحجب الصلاحية عن الولاياتالمتحدة إما لاستكمال"المسيرة"في العراق أو لتغييرها. بعض اعضاء المجلس سيعمل نحو التأثير في الادارة الاميركية كي تقتنع بأن الأفضل لها وللعراق وضع استراتيجية خروج من العراق. في قرارة نفسه، يدرك هذا البعض ان مثل هذا المسعى مستحيل، لكنه سيدفع به وسيوافق على نقيضه. سيعمل هذا البعض نحو تحديد موعد زمني لانهاء الولاية الدولية للقوة المتعددة الجنسية بتاريخ لا يتعدى الانتخابات العامة التي يرجي عقدها بحلول مطلع السنة المقبلة. تجديد وتمديد الولاية يجب أن يأتي، في رأيه، بطلب من الحكومة العراقية وبمصادقة مجلس الأمن على الطلب. ما تريده الادارة الاميركية في مشروع قرار مستقبل العراق هو الآتي انهاء رسمي لحال الاحتلال والتصديق على حكومة عراقية موقتة ذات صلاحيات محدودة لا يحق لها الطلب بمغادرة القوات الاميركية... ودور محدود لمجلس الأمن يترك العراق في أيدي الولاياتالمتحدة لفترة سبعة أشهر، حتى تاريخ الانتخابات العامة المرجو عقدها في كانون الثاني يناير، بلا محاسبة أو اشراف أو تدخل. لغة مشروع القرار الذي طرحته الولاياتالمتحدة وبريطانيا الاثنين الماضي، كما خطاب الرئيس الاميركي وتصريحات رئيس الوزراء البريطاني توني بلير، يكتنفها الكثير من الغموض وبعض التضليل المغلف بالتفاؤل. فالقول بأن بقاء أو مغادرة القوات عائد الى الحكومة العراقية يوحي بأن هذا خيار أمام الحكومة الموقتة عند تسلمها السيادة في 30 حزيران يونيو خصوصاً ان ذلك التاريخ سيعلن انهاء الاحتلال. واقع الأمر ان الحكومة الموقتة التي ستتسلم السلطة لفترة سبعة أشهر فقط لن يكون لها حق التقدم بطلب مغادرة القوات. فهي حكومة"موقتة"ذات صلاحيات محدودة. هذا الحق النظري سيكون من صلاحيات الحكومة"الانتقالية"التي ستسفر عنها الانتخابات العامة. لا أحد بين أعضاء مجلس الأمن يتحدي فكرة بقاء القوات الأميركية والبريطانية في العراق، بولاية جديدة من مجلس الأمن تضفي الشرعية على هذه القوات تحت عنوان"القوة المتعددة الجنسية"، لفترة سبعة أشهر من تاريخ نقل السيادة. لا أحد يقترح ان تكون للحكومة الموقتة صلاحية الطلب من هذه القوات المغادرة. الكل يوافق على"ضرورة"بقاء القوات حتى اجراء الانتخابات مطلع السنة المقبلة. ما يتجنبه الجميع هو البحث في سيناريو عدم التمكن من اجراء الانتخابات في موعدها، إما بسبب ضخامة المهمة أو بسبب تدهور الحال الأمنية. أكثرية أعضاء مجلس الأمن لا تريد تحمل مسولية مغادرة القوات الأميركية للعراق باعتباطية، ولا تريد ان تحل الأممالمتحدة مكان"القوة المتعددة الجنسية"بقيادة أميركية. لا تريد ان تتورط في العراق ولا تريد أن تدخل شريكاً مع الولاياتالمتحدة وبريطانيا في الورطة. ما يقترحه البعض هو تحديد صلاحيات أكبر وأعمق للحكومة الموقتة كي تملأ الفراغ في حال استحال عقد الانتخابات في موعدها. يريد لهذه الحكومة أن ترتدي زياً شرعياً وتمارس صلاحيات السيادة لئلا يقال ان مجلس الأمن سارع الى ازالة صفة الاحتلال، تجميلياً فقط. ما لا يطالب به أي من أعضاء مجلس الأمن الآن هو توسيع صلاحية الحكومة"الموقتة"لدرجة تمكينها من التقدم بطلب مغادرة القوات. الولاياتالمتحدة وبريطانيا تريدان ان يقوم مجلس الأمن"بمراجعة"ولاية"القوة المتعددة الجنسية"بعد 12 شهراً من تبني القرار. وحسب المشروع يحق للحكومة"الانتقالية"التقدم بطلب انهاء الولاية. ما ترفضانه، حتى الآن، هو ان تحديد موعد ثابت لنهاية الولاية ومغادرة القوات، وثانياً، تقييد أياديهما عبر دور مستمر وفعال لمجلس الأمن. بكلام آخر، ان الديبلوماسية الأميركية البريطانية تريد صلاحية دولية للبقاء في العراق ولاتخاذ كل الاجراءات، بالقوة اللازمة، لمحاربة الارهاب في الساحة العراقية. تريد فسحة سبعة أشهر على الأقل، بلا مراقبة دولية انما بشرعية دولية، لاستكمال مهمة"المسيرة"التي بدأها بوش وبلير في العراق. فليس في الأوراق الاميركية والبريطانية استراتيجية خروج من العراق. بوش كان في منتهى الوضوح عندما أعلن ان 138 ألف جندياً أميركياً سيبقى في العراق"بقدر ما هو ضروري". انه يرفض ان يجعل المغادرة هدفاً واضحاً. وهذا صميم سوء سياسته. الرئيس الاميركي يتوقع ان يزداد"العنف"في الساحة العراقية أثناء الفترة الانتقالية في العراق، وهو يتعهد بأن"الارهابيين لن يتمكنوا من تصميم مستقبل العراق". يقول ان"التعصب"السائد الآن في العراق"لم يسببه أي عمل من جانبنا ولن تسكنه أية تنازلات". يقول ان"عودة الاستبداد الى العراق سيكون نصراً لا سابقة له للارهابيين"وان الارهابيين يعرفون"ان العراق الآن الجبهة الرئيسية في الحرب على الارهاب". بهذا القول يتمسك الرئيس الأميركي بأخطائه، بل لا يراها. باصراره على أن العراق الآن الجبهة الرئيسية في الحرب على الارهاب، يغيب عنه انه يلام على حرب حولت العراق الى ساحة مباحة للارهاب، وان حفنة فقط من الدول مستعدة للمساهمة بقوات لخوض هذه الحرب المفتعلة لتدفع الثمن على أراضيها. بوش نفسه قال سابقاً ان الحرب على الارهاب في العراق حولت حرب الارهاب بعيداً عن المدن الاميركية، ارتكب حينذاك خطأ فادحاً لا يدركه بل يزيد الكيل فيه ويحصد افرازاته. الرئيس الاميركي قال للعراقيين ان هذه حرب تحرير لهم من الاستبداد. ما يقوله اليوم ان بلادهم مستباحة لحربه على الارهاب وان القوات الأميركية باقية على حين"الانتصار"في هذه الحرب. يقول لهم"ارسلت القوات الى العراق للدفاع عن أمننا، وليس للبقاء كقوة احتلال"."البقاء"أمر مفروغ منهم، كما اثبت خطاب"الأهداف"انما بصفة غير صفة الاحتلال. يقول لهم"ارسلت القوات الاميركية الى العراق لتحرير شعبه وليس لتحويله اميركياً". لربما في هذا القول أقرب اعتراف بفشل"الحلم"الذي رسمه المحافظون الجدد والصقور داخل الادارة الاميركية والمتطرفون الذين سحروا بوش وطاقمه حلم"أمركة"العراق وجعله نموذجاً تقتدي المنطقة العربية به. بعض هؤلاء"المستشارين"بدأ يهبط سلم الغطرسة ليقرً، كما أقرّ فؤاد عجمي، بأن"الحلم مات". ما بقي هو مهمة معقدة تنطوي على التناقضات تثقبها الشكوك والمخاوف من آت أعظم. ولكن، هذا لا يعني ان العراق دخل دهاليز التفكك بلا عودة. فكما قد ينهار ويتحول ساحة لحرب أهلية وحروب الآخرين، قد ينجو العراق من الورطة وتؤدي حكمة شعبه الى تعافيه موحداً ديموقراطياً حراً من الاستبداد ومن الاحتلال ومن تحويله ساحة لحرب الارهاب. فمشروع مستقبل العراق ليس حصراً في قرار سيصدره مجلس الأمن بعد جولة تعديلات يرجح بأن تعطي الحكومة الموقتة صلاحيات سيادية أعمق. مستقبل العراق ليس حصراً رهن السياسات أو الاخطاء الاميركية التي يرفض جورج دبليو بوش الاقرار بها. أن مستقبل العراق مشروع عراقي قبل أي شيء. ولذلك ان فرص تعافيه لم تدخل بعد دهاليز فوات الاوان. المرحلة المقبلة بالغة الصعوبة، بكل تأكيد. فالحكومة الموقتة التي ستتسلم السيادة بعد انهاء الاحتلال ستعمل بنوع من التوازي مع قوات متعددة الجنسية بقيادة أميركية تتخذ قراراتها باستقلالية عن الحكومة العراقية. ستنفق الحكومة الموقتة أموال العائدات النفطية انما تحت رقابة واشراف لجنة دولية. سيطلب منها موافقتها على عمليات عسكرية، انما القرارات العسكرية لن تخضع لها أو لرغباتها. المرحلة الانتقالية في العراق ستبقى الى حد كبير علاقة"ثنائية"مع الولاياتالمتحدة وبريطانيا على رغم الدور الموسع للأمم المتحدة. ذلك أن"الأسرة الدولية"، بما فيها أعضاء مجلس الأمن، لن تدخل لاعباً في الحلبة العراقية الخطيرة. معركة مشروع قرار مستقبل العراق لن تنتهي بقطيعة بين اعضاء مجلس الأمن وانما بشبه توافق على أن العراق ما زال مشروعاً اميركياً قيد الفرز، انما بصلاحية دولية.