جدّدت شهادة فريد عبدالخالق، العضو السابق في الهيئة التأسيسية ومكتب الإرشاد لجماعة "الإخوان المسلمين"، التي أذاعتها قناة الجزيرة القطرية على امتداد شهرين، الجدل القديم حول كثير من الوقائع الغامضة أو الملتبسة في تاريخ الجماعة، من بينها ما أثاره، في الحلقة الأخيرة، حول موقف المرشد العام الثاني ل"الاخوان" حسن الهضيبي 1891 - 1973 من كتاب "معالم في الطريق" الذي ألّفه سيد قطب، ومن تنظيم 1965 الذي قام على أساس الأفكار الواردة فيه، وحول موقف سيد قطب نفسه من أفكاره في ختام الأقوال التي أدلى بها أثناء التحقيق معه ومحاكمته في أعقاب افتضاح أمر التنظيم. هنا مناقشة في الموضوع تذهب الى نتائج مختلفة: يذهب فريد عبدالخالق الحياة 13 آذار/ مارس 2004 الى ان الهضيبي، على عكس ما ذكرته زينب الغزالي وغيرها في ما نشر من مذكرات، لم يوافق على قيام تنظيم 1965 أو نشاطه، وان كان وافق على نشر "معالم في الطريق" الذي كان الأساس النظري الذي استند اليه التنظيم، على رغم أن عبدالخالق كان طلب الى الهضيبي أن يوصي بعدم نشره لما تضمن من أفكار تخالف فكر جماعة "الاخوان"، خصوصاً ما يتعلق بتكفير المجتمع. ويضيف ان سيد قطب تراجع كتابةً عن أفكاره التي ضمّنها في الكتاب أثناء التحقيق معه ومحاكمته وأن الأوراق المتعلقة بذلك كانت لدى شمس بدران الذي كان يحقق شخصياً معه. ولو سلّمنا بصحة ما قاله عبدالخالق، وبخاصة في شأن الواقعة الأولى - موضوع هذه السلسلة - فإن تحرير المسألة يتطلب اعادة بناء الوقائع استناداً الى رواية كل الأطراف، لتقويم مدى دقة الحكم الذي استخلصه مما رآه وسمعه ووصل الى علمه، والذي يظل - هو والحيثيات التي استند اليها - مجرد شهادة، لكنه لا يرتقي الى مرتبة المعلومة التاريخية، من وجهة نظر المؤرخين المحايدين، إلا بمقارنته بشهادات الأطراف الأخرى في الواقعة، بخاصة أن عبدالخالق كان يمثل الجناح المعارض للتنظيم الذي اكتشف عام 1965، وهو طرف في الصراع على نحو ربما يكون دفعه للميل الى تفسير الوقائع بما يؤكد وجهة نظره... وتستند هذه المحاولة لتدقيق الواقعة الى ما أدلى به كل أطرافها المباشرين وغير المباشرين من أقوال في محاضر تحقيقات النيابة العامة في قضايا تنظيم 1965، ومن أبرزهم حسن الهضيبي وسيد قطب وزينب الغزالي وعبدالفتاح اسماعيل وعبدالفتاح الشريف وعلي عشماوي ومحمد يوسف هوّاس واسماعيل الهضيبي ومنير ولّه... وآخرون. وطبقاً لما ورد في هذه الأقوال فقد بدأ سيد قطب يتوصل الى الأفكار التي بنى عليها كتابه "معالم في الطريق" خلال عام 1959 بعدما أمضى في سجن ليمان طره نحو خمس سنوات من أصل 15 عاماً هي عقوبة السجن التي حكمت بها عليه محكمة الشعب عام 1955. ويقول يوسف هوّاش - الذي صحبه خلال تلك الفترة في مستشفى الليمان لاصابة الاثنين بأمراض صدرية - أن قطب بدأ في تلك السنة 1959 يحدثه عن أنه بعدما قرأ القرآن بعمق، اتضح له أن الحكم في الإسلام مسألة عقيدية، وانها تدخل في صميم خصوصيات الربوبية والألوهية، وأن الدين من معناه نظام الحكم، بدليل قوله تعالى: "ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك"، أي في شريعة المُلك. وبما ان الإسلام هو أن يكون الدين خالصاً لله تعالى، فيجب أن يكون نظام الحكم خالصاً لله تعالى، وبالتالي ليس هناك سوى نوعين من الحكم: إما حكم إسلامي تكون الحاكمية فيه لله وحده، أو حكم جاهلي وهو كل حكم لا تكون الحاكمية فيه لله. وانتهى قطب الى ضرورة أن تتم تربية "الإخوان المسلمين" بهذه الفكرة... وكان سيد قطب، الذي حصل على إذن رسمي بالكتابة والتأليف والنشر أثناء قضائه فترة العقوبة في السجن، أنهى في تلك السنة ذاتها تأليف الأجزاء ال12 الأخيرة من كتاب "في ظلال القرآن"، وبدأ ينقّح الأجزاء ال18 الأولى التي كان نشرها بين عامي 1952 و1954 قبل سجنه، لتصدر الطبعة الثالثة من الأجزاء ال13 الأولى عام 1961، ومن بينها الجزء السابع الذي تضمن تفسيره لسورة "الأنعام"، والذي أضاف اليه في الطبعة الجديدة المنقحة والمزيّدة، مقدمة اضافية، ضمنها أفكاره الجديدة... وحتى العام 1962 لم تكن أفكار سيد قطب وصلت الى أحد من الاخوان، غير محمد يوسف هواش، الذي كان السجين الوحيد معه في مستشفى ليمان طره، فيما توزع الباقون بين سجون الواحات وقنا والقناطر، الى أن قررت مصلحة السجون عام 1962 أن يكون مستشفى سجن ليمان طرة مركز علاج المرضى من مسجوني الإخوان بدلاً من مستشفى سجن القناطر الخيرية، فبدأوا يتوافدون اليها لهذا الغرض، ويمضون فيها فترات تراوح بين أيام وشهور بحسب أحوالهم الصحية، وهو ما أتاح لسيد قطب الفرصة لشرح أفكاره لهم. ومع أن بعضهم كان قرأها في الطبعة الجديدة من كتابه "في ظلال القرآن" الذي كان، كغيره من كتبه، متداولاً بينهم، بل ومودعاً في مكتبة السجن، إلاّ أن تأثير سيد قطب الشخصي عليهم كان كبيراً، فاقتنعوا بأفكاره وعادوا ليروجوها بين زملائهم السجناء، وتحمس لها بعضهم الى درجة دفعت أحدهم الى ان يعلن لزملائه في سجن القناطر - وكانوا من غلاة الاخوان المحكومين بعشر سنوات بتهمة عضوية الجناح العسكري للجماعة - انه كان يعيش من قبل في "جاهلية" ولم يهتد الى الإسلام إلا بعد أن دعاه سيد قطب اليه. وكان طبيعياً أن تثير هذه الحماسة مقاومة "الاخوان المسلمين" الذين وجدوا في أفكار سيد قطب تناقضاً مع ما تربوا عليه، إذ لم يكونوا يكفّرون من ينطق الشهادتين بمن في ذلك الحكام الذين لا يطبقون شرع الله، فضلاً عن أنها كانت بمثابة حكم عليهم بأنهم على رغم ما بذلوه من تضحيات في سبيل الدعوة للإسلام لا يزالون يعيشون في جاهلية... فنهضوا يتصدون لها، وما لبثت المناظرة حولها أن أدّت الى انقسامهم الى معسكرين متخاصمين، يتبادلان السباب والتجريح، ثم أصبح أحدهما لا يقرئ الآخر السلام إذا التقى به، وفي أحوال ليست نادرة، اشتبك الطرفان في معارك جسدية. وفضلاً عن الحيثيات الفقهية التي استند اليها الرافضون لأفكار سيد قطب دفعوا بأنه لا يشغل موقعاً تنظيمياً يبيح له تحديد رؤى الجماعة، فهو ليس عضواً في مكتب الإرشاد أو الهيئة التأسيسية، ولا هو من الرعيل الأول الذي قامت الدعوة على أكتافه، بل انه لم ينضم الى "الجماعة" إلا عام 1951 قبل ثلاث سنوات من دخوله السجن. وما لبثت حملة التجريح المتبادل أن دفعتهم الى القول ان سيد قطب دخيل على الجماعة انضم اليها لأنها سوق رائجة لكتبه، والى التذكير بموقفه أثناء محاكمات 1954 التي شهد أثناءها أن المرشد حسن الهضيبي قال له إن الاخوان على صلة بعدد من ضباط في الجيش سيقومون بانقلاب عسكري ضد مجلس قيادة الثورة ثم يسلمون الحكم للمدنيين وأن "الاخوان" سيكون لهم دور في التأييد الشعبي للحركة. ولا يمكن فهم الخلاف الذي أحدثته أفكار سيد قطب بعيداً من المناخ الذي كان سائداً آنذاك بين مسجوني "الاخوان" الذين دخلوا السجون في أعقاب خلاف حاد في قيادة الجماعة بين عدد من أعضاء مكتب الإرشاد كانوا يرون وجوب تأييد ثورة 23 يوليو 1952 التي يقودها الأخ جمال عبدالناصر، والتي تضم في مجلس قيادتها عدداً من "الاخوان"، وبين الهضيبي الذي رأى وفريق معه من مجلس الإرشاد أن الأخ جمال تنكر لبيعته ولا يكن للجماعة أي ودّ أو اخلاص. وانتهى الخلاف الى انقسام مكّن عبدالناصر من توجيه ضربة قاصمة الى الجماعة قادت المعارضين وقسماً من المؤيدين والمحايدين الى السجون بأحكام قاسية. تجدد الخلاف وبعد السنوات الأولى تجدد الخلاف داخل السجون تحت وطأة احساس المؤيدين والمحايدين، بأن المتطرفين قادوهم وقادوا الجماعة الى صدام لم يكن له مبرر، فطالبوا بإعادة تقويم الممارسات والتنظيمات التي تسببت في المحنة التي يعيشونها، وبالذات وجود جناح عسكري سرِّي يمارس نشاطه بعيداً من سلطة هيئاتها القيادية، وقادهم ذلك كله الى ارسال برقيات تأييد للحكومة والى جمع تواقيع من "الاخوان" المسجونين تدعم سياسة عبدالناصر. فاستفز ذلك المتشددين الذين طالبوا بتوحيد الجماعة على أسس شرعية. وأخذ الخلاف بين الطرفين شكل مناظرة حول طبيعة الجماعة: هل هي جماعة من المسلمين لا تثريب على المسلم إذا لم يلتزمها، أو إذا انضم الى غيرها من الجماعات الإسلامية، أم هي جماعة المسلمين التي لا يجوز لأحد الخروج منها أو معاداتها، وإلاّ كان كافراً... وفي حين أخذ المعتدلون والمؤيدون بوجهة النظر الأولى أخذ المعارضون والمتشددون بالثانية. ومع وصول الخلاف الى هذا المستوى، أعلن أعضاء مكتب الإرشاد المسجونين الذين كانوا يتوزعون بين المعسكرين ان مسألة التأييد والمعارضة موقف سياسي شخصي يستطيع كل أخ أن يتخذه على مسؤوليته وطبقاً لرؤيه ولظروفه، وانه لا يجوز أن يكون محل خلاف أو صراع بين "الاخوان". ومع أن سيد قطب كان يبشر بأفكاره بين "الاخوان" في شكل نظري بعيداً من التطبيق، ويغضب إذا ما سأله أحدهم ما الذي يترتب عليها، على أساس أن عليه أن يسلم أولاً بصحتها، إلا أن المناظرة حولها بين مسجوني "الاخوان" في القناطر كانت تقود الى مسألة التطبيق، والى الحكم تلقائياً بأن حكومة عبدالناصر جاهلية تحكم بغير ما أنزل الله، فبدت كما لو كانت تنظيراً لموقف المعارضين يؤجج من جديد الخلاف، ويبعث الى الحياة مناظرة: هل الاخوان جماعة من المسلمين... أم جماعة المسلمين؟ ويقول سيد قطب ان المعارضين لأفكاره من المسجونين في سجن القناطر أرسلوا الى أعضاء مكتب الإرشاد المحكومين بالأشغال الشاقة المؤبدة والمسجونين في سجن المحاريق في الواحات خطابات نقلت اليهم صورة مضخمة ومشوهة عن الأفكار التي يدور حولها الخلاف، وعن الانقسامات الخطيرة التي تسببت فيها، ودفع ذلك أكبر أعضاء المكتب سناً عبدالعزيز عطية - الذي كان بهذه الصفة، بمثابة المسؤول السياسي عن مسجوني الاخوان - الى ان يكتب من سجنه في المحاريق رسالة الى المرشد العام حسن الهضيبي يستفتيه في الأمر. وكان الهضيبي، المحكوم بالأشغال الشاقة المؤبدة في قضية محاولة اغتيال عبدالناصر عام 1965، أمضى شهوراً عدة في المستشفى ثم حُددت اقامته في منزله منذ عام 1955 بسبب مرضه وتقدم سنّه... وفي عام 1960 رفعت الحراسة عنه وأتيحت له حرية الحركة، لكنه ظل يمارسها بتحفظ انطلاقاً من ادراكه أنه تحت رقابة صارمة. وهو يقول أنه ردّ على رسالة عبدالعزيز عطية قائلاً أن سيد قطب فهم عبارة لا إله إلا الله بمعنى أنه لا إله على الأرض إلاّ الله، وهو الذي في السماء إله. وفي الأرض إله... وأن ما قاله هو الحق الذي لا يسع أي مسلم أن يقول بغيره... لكن المرشد العام اعترض فقط على الصورة القوية البارزة التي يعبر بها سيد قطب عن رأيه الصحيح ذاك، لأن ذلك لا يحمل سياسة أو بمعنى آخر سابق لأوانه من الناحية السياسية. وفي رسالته الى عبدالعزيز عطية أضاف حسن الهضيبي أنه لا يرى داعياً للخلاف، فمن يريد أن يأخذ برأي سيد قطب فليأخذ به، ومن لا يريد أن يأخذ به فليظل على موقفه، الى حين الافراج عن المسجونين، وعودة الجماعة الى نشاطها، وآنذاك يمكن طرح الموضوع للمناقشة لتحديد ما يقال وما لا يقال. واستناداً الى رأي الهضيبي كتب عطية رسالة الى مسؤول مسجوني الاخوان في سجن القناطر، نقل اليه فيها رأي المرشد وطلب اليه اعلانه على جميع المسجونين، وهو ما أدى الى تخفيف التوتر بين طرفي الخلاف فكفت المشاحنات بينهما الى حين، لكن الرسالة أضفت نوعاً من المشروعية على درس أفكار سيد قطب، التي تغير تصنيفها - بعد رسالة الهضيبي - من أفكار خارجة على خط الجماعة الى أفكار قابلة للدراسة ووجهة نظر داخل الجماعة، وهو ما أتاح للمتحمسين لها الفرصة لترويجها وتدريسها بين صفوف مسجوني الاخوان وبخاصة في سجن القناطر الخيرية. وعند الافراج عن هؤلاء المسجونين عام 1964، بعدما أنهوا مدَّة العقوبة المحكوم بها عليهم عام 1954 وهي عشر سنوات، كان من بينهم طبقاً لاحصاء سيد قطب في أقواله أمام النيابة نحو 25 اقتنعوا تماماً بأفكاره في مقابل 23 من المعارضين، فيما كان بقية المسجونين المئة لا يزالون في مرحلة درس الأفكار... وكان قطب يعتبر ان المجموعة الأولى "خلية نائمة" لتنظيم جديد ل"الاخوان" كان يخطط ان يترك لها فرصة من الوقت لكي يرعى كل منهم شؤونه الخاصة بعد السنوات الطويلة التي قضاها في السجن، لولا التطورات السريعة للأحداث. والحقيقة أن سيد قطب لم يكن منذ البداية بعيداً عن التيار المتشدد في الجماعة، إذ كان ممن انحازوا الى هذا الخط حين نشب الصراع بين جماعة "الاخوان المسلمين" ومجلس قيادة الثورة، وهو الخط الذي ظل يتصاعد بقيادة المرشد الهضيبي الى ان انتهى بمحاولة أحد "الاخوان" اغتيال عبدالناصر في ميدان المنشية. ويقول منير دلّه عضو مكتب الإرشاد في محضر التحقيق معه أمام النيابة أنه أمضى شهوراً في السجن مع سيد قطب دارت خلالها بينهما مناقشات حول الأخطاء التي وقعت فيها الجماعة وأدّت الى محنة 1954. وكان من رأي دلّه خلالها أن الجماعة أخطأت حين سمحت بوجود جهاز سري ارهابي قادها الى صدامات فوق طاقتها، وانه كان عليها ان تهتم أساساً بتربية الفرد المسلم تربية اسلامية صحيحة حتى يكون نواة لمجتمع مسلم، وأن المسألة ليست مسألة قوة وعنف بقصد تغيير الأوضاع القائمة وفرض النظام الإسلامي، وهو رأي رفضه سيد قطب الذي كان، كما يقول دلّه، متطرفاً في أفكاره وميّالاً الى العنف لفرض النظام الإسلامي الذي يحكم بالقرآن. ويضيف أنه بعد نحو عام من الافراج عنه وصلته رسالة من سيد قطب هرّبها من السجن تتضمن الأفكار نفسها. تلك معلومات موثقة، تكشف وتؤكد ثلاث حقائق سيكون لها أثرها من بعد: الأولى: أن أفكار سيد قطب في شأن جاهلية الحكم وجاهلية المجتمع كانت تطويراً لموقفه المتشدد الداعم لخط استخدام العنف بهدف اقامة حكم القرآن. الثانية: ان هذه الأفكار لا ترتبط بكتاب "معالم في الطريق" الذي نشرت طبعته الأولى عام 1964 وليس 1965 كما يذهب معظم الذين ترجموا لسيرة مؤلفه، بل بدأ ينثرها في سياق تفسيره "في ظلال القرآن" الذي صدرت طبعته الثالثة المزيّدة والمنقحة عام 1619. الثالثة: ان المرشد العام حسن الهضيبي علم بهذه الأفكار من طبعة الظلال الثالثة ثم من رسالة وصلته تشرح له ما أثارته من خلافات حادة بين مسجوني "الاخوان"، فحكم بأنها صحيحة الإسلام ولم يأخذ عليها إلاّ طريقة عرضها التي تبرز المعاني على نحو يجعلها غير ملائمة سياسياً، وهو ما تلخصه عبارته "انها صحيحة شرعاً... ولكنها خطأ سياسة". ويبدو رأي الهضيبي في جوهر أفكار سيد قطب - التي تعتبر كل محاولة يقول بها البشر للتشريع لأنفسهم بنفسهم "طاغوتاً" يعتدي على أخص حقوق الألوهية وهي حاكمية الله - متناقضاً تماماً مع رأي سابق أبداه المرشد العام سنة 1954، ومع رأي لاحق له أبداه عام 1969. ففي أثناء محاكمة محمود عبداللطيف، الذي حاول اغتيال الرئيس عبدالناصر عام 1954، طلب الدفاع عنه استدعاء الهضيبي كشاهد نفي، وانهال عليه، في جلسة 18 تشرين الثاني نوفمبر بسيل من الأسئلة أراد بها أن يثبت ان "الجماعة" ضلّلت موكله، كانت من بينها أسئلة تركز على أن المرشد العام أمضى 27 سنة يعمل في القضاء ويطبق القانون الوضعي وليس الشريعة الإسلامية التي شحن المتهم ضد عبدالناصر برغم أنه لا يطبقها. وفي اجابته عن تلك الأسئلة، قال الهضيبي انه كان يطبق القانون الوضعي وهو مرتاح الضمير، لأن القانون المدني المطبّق في مصر يتفق مع الشريعة الإسلامية في كثير من المسائل، أو في كل المسائل، وانه يعود الى أصول شرعية، في ما عدا مسألة واحدة، هي مسألة الربا. أما في ما يتعلق بالقانون الجنائي الوضعي فإن العقوبات التي وردت في القرآن والسنّة لا تزيد على سبع، ومن حق ولي الأمر شرعاً أن يوقف تضييق الحدود، فإذا أمر بذلك وجبت على المسلمين الطاعة، أما الجرائم الأدنى فلولي الأمر أن يعذر عليها وهذا من حقه شرعاً. ومعنى ذلك، ان مصر حتى منتصف الخمسينات لم تكن في رأي الهضيبي مجتمعاً جاهلياً يحكمه الطاغوت بل كانت تطبيقاً لحاكمية الله. وكان ذلك ما عاد الهضيبي ليكرره في كتابه "دعاة لا قضاة" الذي اعدّته، تحت اشرافه، لجنة من "الاخوان" ضمت اثنين توليا بعد ذلك منصب المرشد العام للجماعة، هما ابنه مأمون الهضيبي ومصطفى مشهور، بهدف الرد على مضاعفات تيار التكفير الذي استند الى أفكار سيد قطب وشاع بين أعضاء الجماعة المسجونين والمعتقلين في حملة 1965. وعلى عكس أفكار سيد قطب التي دعمها في النصف الأول من الستينيات، يذهب الهضيبي في "دعاة لا قضاة"، الذي انتهى تأليفه وتعميمه بين مسجوني الاخوان عام 1969 وان كان لم ينشر إلا عام 1977، الى أن مصطلح الحاكمية لم يرد في آية أو حديث، وليس أساساً لوضع أحكام فقهية، بخاصة التفصيلية منها، ولكنه مجرد تعبير عن معانٍ عامة أراد منه الذين أطلقوه أن يجذبوا انتباه الناس الى أهميتها. ولم يقض الهضيبي على عكس ما ذهب اليه سيد قطب بأن "الدولة من أصول الاعتقاد"، بل قرر ان عدم وجود هذه الدولة، بالمعنى الذي وضعه الفقهاء لشروط الإمامة الصحيحة، "لا ينتقص من إسلامية الأمة أو صحة إسلامها". وفضلاً عن أن الهضيبي حسم الخلاف حول ما إذا كان الاخوان "جماعة من المسلمين" أو "جماعة المسلمين" لصالح المفهوم الاول، الا انه ذهب - خلافاً لما قال قطب - الى أن من الشرائع التي جاء بها الإسلام ما يتغير ويتبدل مع تغير الأزمان وتبدل الظروف والمناسبات، وبالتالي فإن "من يعتقد ان بعض أحكام الشريعة مما يجوز له أن يتغير أو يتبدل متأوِّلاً في ذلك بعض النصوص ليس بكافر ولا مشرك"، وهو ما ينسف أساس نظرية الحاكمية التي تذهب الى ان التشريع صفة من صفات الله، وجل، وأن من وضع تشريعاً فقد انتزع لنفسه احدى صفات الله. والحقيقة ان موقف الهضيبي من أفكار سيد قطب، ثم بعد ذلك من تنظيمه - على النحو الذي سترد تفاصيل أخرى عنه في ما بعد - يثير تساؤلاً مشروعاً حول طبيعة رؤية الهضيبي، الذي يبدو شخصية مثيرة للجدل وغامضة على نحو ما، لم تدرس حتى الآن في شكل موضوعي ومحايد، اذ ساد الاعتقاد أنه كان أكثر اعتدالاً من حسن البنا، بل وذهب خصومه الى أنه كان مرشح القصر الملكي لخلافة البنا بحكم مصاهرته لسالم باشا، ناظر الخاصة الملكية، واستهل ممارسته لمنصبه بتصريحه الشهير لأسرتيه في الدعوة ووصف أعضاء الجهاز الخاص - أو الجناح العسكري للجماعة - بأنهم مجرمون يجب تطهير الجماعة منهم، ودخل، بالفعل، معركة لتصفية قائد هذا الجهاز عبدالرحمن السنِّدي حتى نجح في فصله من الجماعة ومن الدعوة. فهل يمكن القول ان دعم حسن الهضيبي لأفكار سيد قطب المتزمتة ومنهجه الانقلابي، كان أحد نتائج المعاملة البوليسية القاسية التي لقيها الاثنان، ولقيها "الاخوان"، على يد ثوار يوليو أثناء محنة 1954؟ وهل نقلت المحنة الهضيبي من معسكر الاعتدال الى معسكر التطرف، كما فعلت مع سيد قطب نفسه، الذي كان حتى دخوله السجن محسوباً على التيار الذي يمكن وصفه ب"اليسار الإسلامي" الى الدرجة التي شارك فيها - خلال عام 1954 - في محادثات مع أحد فصائل الحركة الشيوعية المصرية آنذاك لتأسيس جبهة وطنية تنشط ضد ما كان يوصف ب"الفاشية العسكرية"؟ أم كان الهضيبي، منذ البداية، متشدداً متزمتاً وداعية للعنف، سعى الى تصفية الجهاز العسكري للجماعة لا لرفضه له، بل ليشكل جهازاً جديداً يكون موالياً له، بخاصة بعدما تمرد قادة الجهاز السابق حتى على حسن البنا؟ وهل ما قاله الهضيبي - عام 1964 - حول محدودية الفروق بين القانون الوضعي المطبق في مصر والشريعة الإسلامية، وما قاله عام 1969 في كتابه "دعاة لا قضاة" يعبر عن موقفه الشرعي والحركي، أم أنها آراء أملتها الملاءمة السياسية التي أخذ على سيد قطب أنه لم يضعها في اعتباره حين أعلن أفكاره التي جزمت بأن العالم يعيش في جاهلية كالجاهلية الأولى، والتي وصفها الهضيبي أيامها بأنها "صحيحة شرعاً... ولكنها خطأ سياسة". تلك أسئلة مشروعة، ربما يفيد تتبع صلة الهضيبي بتنظيم 1965 في العثور على اجابة لها. * كاتب مصري.